ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين وتداعياتها المستقبلية

بقلم : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة ـ مصر
مع عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في يناير 2025، أعاد إلى الواجهة واحدة من أكثر ملفات ولايته السابقة إثارة للجدل: الحرب التجارية مع الصين. إلا أن المثير للقلق هذه المرة ليس فقط استئناف سياسات فرض الرسوم الجمركية، بل المضي في تصعيدها على نحو أكثر حدة وشمولًا، في سياق دولي أكثر اضطرابًا وتعقيدًا. فقد جاءت هذه الجولة الجديدة من الحرب الاقتصادية في ظل تفاقم أزمات سلاسل التوريد، وتراجع الثقة في النظام التجاري متعدد الأطراف، وانكشاف نقاط الضعف في الاقتصاد الأميركي ذاته. ومن هنا، تبرز أهمية تفكيك أخطاء ترامب في هذه المواجهة المتجددة، ورسم ملامح السيناريوهات المستقبلية المحتملة التي قد تقود إليها سياساته الانفعالية.
أولًا: أخطاء ترامب في إدارة المواجهة التجارية مع الصين
1. التعويل المفرط على الرسوم الجمركية كأداة وحيدة للضغط
بدلاً من اتباع مزيج متوازن من الضغوط التجارية، الدبلوماسية، والتحفيز الداخلي، لجأ ترامب مجددًا إلى سياسة فرض الرسوم العقابية على الواردات الصينية. وقد تجاهل بذلك الدروس المستخلصة من ولايته الأولى، حين لم تؤدِ هذه الإجراءات سوى إلى رفع الأسعار على المستهلك الأميركي، وإرباك الصناعات المحلية المعتمدة على المدخلات الصينية.
2. غياب الاستراتيجية الصناعية الوطنية الداعمة للحرب التجارية
شن حرب تجارية دون خطة لتعزيز الصناعة الأميركية يمثل تناقضًا جوهريًا. فقد فشلت الإدارة في وضع برنامج واضح لإعادة توطين الصناعات، وتحفيز الابتكار، ودعم الشركات الناشئة، وهو ما أدى إلى ضعف الجبهة الداخلية اقتصاديًا وسياسيًا.
3. تجاهل التحالفات الدولية وتقويض النظام التجاري المتعدد الأطراف
بدلًا من حشد حلفاء مثل الاتحاد الأوروبي أو اليابان في جبهة موحدة لمواجهة السياسات التجارية الصينية، انسحب ترامب من الأطر الجماعية وهاجم منظمة التجارة العالمية، مما أضعف من شرعية وفعالية الضغوط الأميركية.
4. استعداء الصين بشكل متطرف دون قنوات دبلوماسية مفتوحة
الخطاب العدائي المتصاعد الذي تبنته إدارة ترامب تجاه الصين، والذي تضمن اتهامات مباشرة بـ”سرقة التكنولوجيا” و”السيطرة على العالم”، أفضى إلى غلق أبواب الحوار الدبلوماسي، وزيادة حدة الاستقطاب الدولي.
ثانيًا: السيناريوهات المستقبلية المحتملة نتيجة هذه الأخطاء
1. التصعيد المفتوح نحو انفصال اقتصادي عالمي (Decoupling)
إذا استمرت الحرب الجمركية دون رؤية استراتيجية، فإننا نتجه نحو انقسام اقتصادي عالمي، حيث تنشأ منظومتان متوازيتان للتجارة، والصناعة، والتكنولوجيا: واحدة بقيادة أميركية، وأخرى بقيادة صينية. هذا السيناريو سيؤدي إلى انهيار النظام التجاري الليبرالي، وظهور تكتلات مغلقة، وتحولات كبرى في سلاسل القيمة العالمية.
2. استنزاف داخلي أميركي يقود إلى مواجهة مقنّعة
مع تزايد الكلفة الاقتصادية للحرب التجارية، وتصاعد الضغوط من الشركات والمستهلكين الأميركيين، قد تتجه إدارة ترامب إلى التراجع الضمني دون الاعتراف الرسمي بذلك، من خلال تخفيف الإجراءات، والتركيز على وسائل غير جمركية (كالقيود على الاستثمارات)، مما يعني استمرارية الحرب بصيغة غير معلنة تستنزف الطرفين دون نتائج حاسمة.
3. تشكيل تحالفات تجارية مضادة بقيادة الصين
ردًا على السياسات الانعزالية لترامب، قد تقود الصين تحالفات بديلة تشمل روسيا، دول جنوب شرق آسيا، إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، بهدف بناء نظام تجاري موازٍ يحيد الدور الأميركي. هذا المسار قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام في النظام الدولي، ويُفقد واشنطن دورها الريادي في صياغة قواعد التجارة العالمية.
تكشف تجربة ترامب الجديدة مع الحرب التجارية على الصين عن إخفاق في قراءة التحولات البنيوية في النظام الاقتصادي العالمي. فالتعامل مع بكين كخصم يمكن كسره عبر الضغط الجمركي هو تصور سطحي، يتجاهل عمق التغلغل الصيني في السوق العالمية، وتعدد أدوات القوة لديها. والأخطر أن إدارة المواجهة بأسلوب شعوبي انعزالي، بعيدًا عن التحالفات والمؤسسات الدولية، قد يفتح الباب أمام تحولات جذرية في موازين القوى الاقتصادية، ويقود إلى زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي لعقود قادمة. ومن هنا، فإن السياسات الخاطئة التي ينتهجها ترامب في هذه الحرب لا تهدد فقط العلاقات الثنائية مع الصين، بل مصير النظام الاقتصادي الدولي بأسره.