مفهوم الدولة من النشأة إلي الدولة القومية : دراسة مقارنة في الفكر السياسي الإسلامي والغربي

إعـــــــــــداد الباحث : عبد الستار جمال عبد الحميد – جـــــــــــــــــامعة الســــــــــــويس – كليــة السيــاسة والإقتصـــاد – قســـــــــم الدراســــــات العلـيا – اشراف : د. لبنى غريب مكروم
- المركز الديمقراطي العربي
الملخص:
يُعالج هذا البحث الإشكالية المعقّدة لتطور مفهوم الدولة من لحظة التأسيس المفهومي إلى تشكّلها النهائي كدولة قومية، في إطار مقارنة تحليلية بين مدوّنتين حضاريتين متباينتين: الفكر السياسي الإسلامي، والفكر السياسي الغربي. تنطلق الدراسة من فرضية مركزية مفادها أن التكوين النظري والتاريخي للدولة قد اتّخذ مسارين متغايرين في السياقين المذكورين، سواء من حيث المرجعيات التكوينية، أو البنى الأنطولوجية، أو الغايات التلغائية للدولة.
في المنظومة الإسلامية، انبثق مفهوم الدولة من رحم النص المؤسِّس (القرآن والسنة)، حيث تشكّلت الدولة الأولى في المدينة النبوية كمجال حضاري يجمع بين السياسة والدين، ويُؤسَّس فيه التسلّط السياسي على مشروعية دينية تتوسل مفاهيم مثل الشورى، والبيعة، والإمامة. أما في السياق الغربي، فقد انبثقت الدولة من التراكم الفلسفي المادي للعقل السياسي، بدءًا من جمهورية أفلاطون، مرورًا بسياسات أرسطو، وانتهاءً بالعقد الاجتماعي الذي صاغه هوبز ولوك وروسو، حيث أُعيد تأسيس السلطة على ميثاق وضعي مفارق للمقدّس، يقوم على إرادة الأفراد وسيادة الأمة.
وقد كشفت الدراسة، من خلال تحليل محطات التحوّل الكبرى في كلا النموذجين، عن أن مفهوم الدولة القومية الحديثة، بما هو كيان سيادي يتمحور حول حدود جغرافية وهوية قومية ومركزية سياسية، هو ثمرة لتطور غربي داخلي ارتبط بانهيار النظام الإقطاعي، وتفكك المرجعيات الكنسية، وصعود البرجوازية الوطنية، وهو ما لا نجد له نظيرًا متطابقًا في السياق الإسلامي، حيث لم يُنتج الفكر السياسي الإسلامي التقليدي تصورًا مكتملاً للدولة على نمط الدولة القومية الحديثة، وإنما ظل مشدودًا إلى نموذج الخلافة بوصفه تعبيرًا عن وحدة الأمة، وامتدادًا للوظيفة الرسالية للإسلام.
وتناقش الدراسة أيضًا التحديات البنيوية التي واجهت الدولة القومية في الفكرين. ففي السياق الإسلامي، يُعتبر بروز تنظيم داعش تجليًا مأساويًا لمحاولة “استعادة الدولة” في سياق ما بعد القومية، من خلال قراءة أصولية للتراث السياسي الإسلامي، أدّت إلى تصدّع المفاهيم التقليدية للشرعية والسلطة. أما في الفكر الغربي، فقد برزت إشكالات الدولة القومية في صيغتها الحديثة في ظل تصاعد النزعات القومية المتطرفة، وتحديات ما بعد الحداثة، والعولمة، والتفكك الثقافي للمجتمعات متعددة الأعراق.
تعتمد الدراسة منهجًا تاريخيًا–تحليليًا، مدعومًا بالمقارنة الفلسفية والنقدية، حيث تقف على المفارقات الكبرى في الأساس النظري لكل تصور، بما في ذلك: مرجعية السلطة، مفهوم السيادة، الوظائف الجوهرية للدولة، وحدود العلاقة بين الديني والسياسي. وفي ضوء هذا، يُسهم البحث في إعادة مساءلة صلاحية النموذج القومي كأفق نهائي لتنظيم الدولة في المجال الإسلامي، ويفتح أفقًا معرفيًا لمراجعة موقع الدولة بين التراث والحداثة.
Abstract
This research interrogates the intricate evolution of the concept of the state, from its foundational inception to its modern manifestation as the nation-state, through a comparative analytical lens between two divergent civilizational corpora: Islamic political thought and Western political philosophy. The study is grounded in the central hypothesis that the theoretical and historical constitution of the state unfolded along two distinct trajectories in both traditions—marked by differences in ontological structures, epistemic references, and teleological ends.
Within the Islamic paradigm, the notion of the state emerged from the matrix of the revelatory texts (the Qur’an and the Sunnah), wherein the first polity in Medina was instituted as a theopolitical entity—merging divine legislation with political sovereignty. Authority was legitimized through mechanisms such as shūrā (consultation), bay‘a (allegiance), and imāma (leadership). In contrast, the Western conceptualization of the state is a cumulative product of rationalist political discourse, stretching from Platonic idealism and Aristotelian realism to the secular contractualism of Hobbes, Locke, and Rousseau. Here, the state was abstracted from divine referents and anchored instead in the volition of individuals and the sovereignty of the people.
The study reveals that the modern nation-state, characterized by territorial centralization, homogenous identity, and bureaucratic sovereignty, is the outcome of an endogenous Western transformation—rooted in the collapse of feudalism, the decline of ecclesiastical authority, and the ascendancy of the bourgeois nation. This developmental trajectory lacks a direct counterpart in the Islamic tradition, where the political imagination remained tethered to the ideal of the Caliphate as a transnational and moral-political community (ummah), resisting the fragmentation of identity along national lines.
The research also addresses the critical challenges confronting the nation-state in both traditions. In the Islamic context, the rise of ISIS is interpreted as a catastrophic attempt to “reclaim” the state by invoking a literalist appropriation of the Islamic political heritage—disrupting classical notions of legitimacy and political order. Conversely, in the Western context, the nation-state is now beleaguered by the crises of postmodernity: the resurgence of ultra-nationalism, cultural pluralism, globalization, and the erosion of sovereign coherence in multi-ethnic polities.
Employing a historical-analytical and comparative methodology, the study dissects the epistemological and structural divergences between the two trajectories, particularly regarding the foundations of authority, the concept of sovereignty, the functions of the state, and the dialectic of religion and politics. Accordingly, this research contributes to a critical reassessment of the viability of the nation-state model within the Islamic civilizational context and opens a broader intellectual space for reimagining the state between tradition and modernity.
مقدمة:
تُعدّ الدولة من أبرز المفاهيم السياسية التي شغلت الفكر الإنساني عبر العصور، إذ تمثل الإطار التنظيمي الذي يُعبّر عن السلطة والسيادة والنظام في المجتمعات البشرية. وقد شهد مفهوم الدولة تطورات متباينة في السياقات الحضارية المختلفة، خاصة بين الفكر السياسي الإسلامي والفكر السياسي الغربي، حيث تأثر كل منهما بمنظومته القيمية والمرجعية الخاصة.
في الفكر السياسي الإسلامي، نشأت الدولة في المدينة المنورة بقيادة النبي محمد ﷺ، حيث تأسست على مبادئ الشورى والبيعة والعدل، مستمدة شرعيتها من النصوص الدينية والتجربة النبوية. تطورت هذه الدولة عبر الخلافات الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية، متأثرة بالاجتهادات الفقهية والكلامية التي سعت لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحديد وظائف الدولة وغاياتها.
أما في الفكر السياسي الغربي، فقد تطور مفهوم الدولة من المدينة اليونانية إلى الدولة القومية الحديثة، مرورًا بالدولة الإقطاعية والدولة المطلقة. تأثر هذا التطور بالفلسفات السياسية المختلفة، من أفلاطون وأرسطو إلى هوبز ولوك وروسو، حيث ظهرت نظريات العقد الاجتماعي وسيادة القانون وفصل السلطات، مما أدى إلى نشوء الدولة القومية التي تستند إلى السيادة الشعبية والحدود الجغرافية المحددة.
تكمن أهمية هذه الدراسة في تحليل ومقارنة تطور مفهوم الدولة في كلا الفكرين، لفهم الفروقات الجوهرية بينهما، خاصة فيما يتعلق بالمرجعية والشرعية والسيادة ووظائف الدولة. كما تسعى الدراسة إلى تسليط الضوء على التحديات التي واجهت الدولة القومية في الفكرين، مثل ظهور تنظيم داعش في السياق الإسلامي، والتحديات المرتبطة بالهوية والتعددية الثقافية في السياق الغربي.
- إشكالية البحث:
تدور الإشكالية حول الفرضية التالية:
“تطوّر مفهوم الدولة في كل من الفكر السياسي الإسلامي والغربي مرّ بمراحل مختلفة من حيث النشأة والمرجعية والغاية، وانتهى إلى مفهوم الدولة القومية بمرتكزات متباينة تعكس اختلاف البنى الحضارية.”
السؤال الرئيسي:
كيف تطور مفهوم الدولة من النشأة حتى الدولة القومية في كل من الفكر السياسي الإسلامي والغربي، وما الفوارق الجوهرية بين المسارين؟
الأسئلة الفرعية:
- ما الأسس النظرية التي انطلق منها كل من الفكرين في تأسيس مفهوم الدولة؟
- ما مراحل تطور الدولة في كل من السياقين؟
- ما العوامل التي قادت إلى ظهور الدولة القومية في الغرب، وهل لها نظير في الفكر الإسلامي؟
- ما هي التحديات التي تواجهة مفهوم الدولة القومية ؟
- أهداف البحث:
- تتبع النشأة التاريخية والفكرية لمفهوم الدولة في كلا السياقين.
- تحليل بنية الدولة القومية الحديثة وأسباب نشأتها.
- المقارنة النقدية بين النموذجين من حيث المفهوم، البناء، الغاية.
- أهمية البحث:
أكاديمية: يعمق الفهم المقارن للفكر السياسي في بيئتين حضاريتين مختلفتين.
فكرية: يسلط الضوء على علاقة الدولة بالدين، بالمجتمع، وبالفرد.
واقعية: يوفر أرضية لفهم إشكاليات الدولة في العالم العربي والإسلامي، في ضوء نموذج الدولة القومية الغربية.
- منهجية البحث:
- المنهج التاريخي التحليلي: ُيستخدم لتتبع تطور مفهوم الدولة عبر الحقب التاريخية المختلفة (من المدينة النبوية إلى الدولة القومية).
- المنهج المقارن: مقارنة مراحل تطور الدولة، المفهوم، المرجعية، والغايات في الفكرين.
- حدود البحث:
- . الحدود الزمانية: من نشأة الدولة الأولى في الإسلام (المدينة) أو في الغرب (اليونان القديمة) حتى نشوء الدولة القومية الحديثة في القرن 19–20م.
- الحدود المكانية:
السياق الإسلامي: الجزيرة العربية، الخلافة الراشدة، الأموية، العباسية، العثمانية.
السياق الغربي: اليونان، أوروبا العصور الوسطى، ثم أوروبا الحديثة.
- الحدود الموضوعية:
يركّز البحث على مفهوم الدولة فقط، ولا يتناول قضايا الحكم، الحركات الإسلامية، أو الدولة الحديثة المعاصرة إلا كمحصّلة نهائية.
- محاور الدراسة :
المحور الأول: الإطار المفاهيمي والنظري.
المحور الثاني: تطور الدولة في الفكر السياسي الإسلامي.
المحور الثالث: تطور الدولة في الفكر السياسي الغربي.
المحور الرابع :الدولة القومية في الفكر السياسي الاسلامي والغربي.
المحور الخامس: التحديات التي تواجهة مفهوم الدولة القومية في الفكرين.
- الإطار النظري والمفاهيمي:
1.1 مفهوم الدولة والنظريات المفسرة لها :
تطور مفهوم الدولة تبعا لتطور التجمعات الإنسانية ؛ أذ أن فكرة نشوء الدولة تُعزى من حيث الأصل العام الى ميل الطبيعة البشرية وحاجتها إلى المجتمع السياسي، لذا يمكن النظر إلى الدولة باعتبار أعلى تطور يمكن تصوره يأتي منسجما مع طبيعة الفطرة الإنسانية وحاجتها، وبعد نشوء الدولة اخذت بالتطور إلى أشكال متعددة تبعا لزيادة عدد السكان، وتنوع النظم أشكال النظم السياسية؛ ففي العصور الوسطى كان الحد الأدنى لعدد سكان الدولة بحسب رسو عشرة آلاف نسمة ؛ أما العصر الحديث فلا يمكن اعتبار هذا العدد كافيا لقيام دولة ويرجع هذا جزئياًإلى أن الواجبات السياسية للدولة الحديثة تحتاج إلى قوة وطنية وايدي عامله اكبر حتى تستطيع (Bluntschli, 2000) تحقيق مستويات أعلى من التنمية والتطور.
2 .1 مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي :
فقد ارتبط مفهوم الدولة عند ابن خلدون بالقوة والشوكة التي تمتلكها الدولة لدفع الأفراد إلى الانقياد لسلطانها وسبب ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب ) خلدون ,۱۹۸۰ (وبهذا الاعتبار تكون الدولة عند ابن خلدون ظاهرة سياسية تتسم بالتبدل والتغير المستمر (هادي، ۲۰۰۸ (و عند الفارابي فقد ارتبط مفهوم الدولة بالرؤى النظرية التي طرحها الفارابي حول المدنية الفاضلة إذ اعتبر الدولة كيان يقوم على الاخلاق والحق والعدل وأن الهدف من إنشاء الدولة هو الإنسان ذاته فهي دولة تتمتع بالصلاح والعدل (دينا ، ۲۰۲۳ ,۸۷۷( أما الماوردي فقد ارتبط مفهوم الدولة عندة بمجموعة من القواعد التي تحكم التجمع الإنساني وهذه القواعد هي دين متبع والسلطان ، والعدل الشامل والأمن والحريات) نور الدين، ۲۰۱۷ ,۷۰) .
3 .1مفهوم الدولة في الفكر الغربي:
تتفق الأدبيات السياسية الغربية عموما على أن مفهوم الدولة من المفاهيم التي يصعب تعريفها (Kafeel, 2023; 119) أن التعريفات المتعلقة بالدولة في الفكر الغربي تنطلق من فكرة السيادة انطلاقا من أن الشعب الذي يعيش في إقليم يتمتع بدرجة عالية من الوحدة بين الناس، قد يكون دولة. وإذا كان ذا سيادة، فهو دولة وإذا كان تحت سيطرة دولة أخرى، فهو ليس الدولة (229(Hay Colin and Lister& Michael, ,وفي الفكر الغربي ارتبط مفهوم الدولة بالقدرة على فرض السيادة بالقوة والاكراه وبهذا الاعتبار أصبح مفهوم الدولة يعني ” المؤسسات والممارسات التي تنجح من خلالها الطبقة الحاكمة في الحفاظ على التبعية التوافقية لأولئك الذين تحكمهم ثم تطور مفهوم الدولة فأصبح يعني ” مجمع مؤسسي يدعي السيادة لنفسه باعتباره السلطة السياسية العليا داخل إقليم محدد يدعي مسؤوليته عن حكمه(Pierson, 1996; 8) .
وظهرت عدة تعريفات للدولة منذ زمن اليونان إذ عرفها أفلاطون، “الدولة هي نظام علاقات حيث يقوم كل فرد بأعماله الخاصة وحيث تكون مهمة الحاكم هي الحفاظ على مثل هذه العلاقات وحتى تعزيزها ( 2- 2007 Levine )أما جون لوك فقد أسس نظرته للدولة على أساس إرادة الفرد الذي يمتلك حقوقًا طبيعية قبل تشكيل الدولة. ووفقا له، فإن الواجب المقدس للدولة هو حفظ وحماية الممتلكات وحقوق الملكية لكل عضو في المجتمع حتى النقطة التي لا يلحق فيها ضرر بالآخرين على الأقل ( 158 ;2011 ,Jayapalan) أما جان جاك روسو فقد أعتبر الدولة: الكيان العام الذي يتشكل من اتحاد جميع الأشخاص الآخرين، كان يأخذ في السابق اسم مدينة، والآن يأخذ اسم جمهورية أو هيئة سياسية؛ ويطلق عليه أعضاؤها اسم الدولة (7،Rousseau, 2010 ) .
أما مكيافيلي ((Machiavelli، فقد اعتبر أن القوة التي لها سلطة على الرجال” تسمى الدولة، وفي بعض الأحيان تستخدم الدولة لتعني النظام السياسي بالمعنى الدقيق للكلمة، على الرغم من أن المصطلح يشير فقط إلى الأنظمة التي تستثمر السلطة العليا على أقاليم أو مجموعات سكانية معينة في مجموعة موحدة من المؤسسات القسرية في نهاية المطاف، وعلى هذا النحو نشأت الدولة في الغرب، حيث حلت محل الهياكل السياسية الأكثر انتشاراً في الإقطاع الأوربي (Bhat &, Kafeel,2010 ) .
واعتبر كارل ماركس الدولة التنظيم السياسي للطبقة المهيمنة في الاقتصاد الذي يهدف إلى حماية النظام القائم واعتبار الدولة وسيلة نشأت الحماية مصالح الطبقة المالكة، وبهذا المعني تعمل الدولة كأداة للسيطرة على الطبقات أو استغلالها على سبيل المثال، كانت القوانين التي تنظم ساعات العمل تهدف إلى الحد من الاستغلال المفرط للعمالة، وكانت متأثرة بتصاعد الحركات العمالية التي تشكل تهديدًا للمصالح الرأسمالية (3 , 2024 Debnath,) .
وفي العصر الحديث تعددت تعريفات الدولة في النظم السياسية تبعا لاختلاف وجهات النظر السياسية أو القانونية، إلا ان جميع التعريفات تشترك في العناصر أو المكونات الرئيسية للدولة انطلاقا من أن الدولة في الأساس ظاهرة سياسية وقانونية تقوم على أساس وجود مجتمع منظم مستقر على إقليم محدد بصورة دائمة ويخضع لسلطة سياسية (الليمون، ٢٠١٦: ۲۳) ،وفي هذا السياق تعرف الدولة بأنها مجموعة متجانسة من الأفراد تقطن اقليما جغرافيا معينا بصفة دائمة ومستقرة ويخضعون في تنظيم شؤونهم لسلطة سياسية تستقل في أساسها عن أشخاص من يمارسونها” (الخطيب، ١٩٩٩: ١٦).
وبناء على التعريفات السابقة يظهر أن هناك مجموعة من الأركان لابد من توافرها حتى يطلق على التجمع الإنساني أسم الدولة وهي الأركان هي: الشعب (مجموعة الأفراد) والإقليم، والهيئة الحاكمة ذات السيادة؛ بمعنى أن الهيئة الحاكمة تتمتع باستقلال سيادي من جميع النواحي داخل إقليم الدولة وخارجها (البحري، ۲۰۲۰ : ۲۰۷) .
4.1 النظريات المفسرة لمفهوم الدولة:
- النظرية الماركسية:
تعد هذه النظرية من النظريات المعاصرة التي تقدم تفسيرًا لنشوء الدولة، واعتبر كارل ماركس و إنجلز من بعده أن الدولة لم توجد إلا من أجل تحقيق مصالح طبقة الرأسمالية أو أصحاب رأس المال أو النخبة السياسية، وبناءً على ذلك اعتقدو أن الدولة نشأت نتيجة وجود صراع طبقي بين الأفراد والجماعات والطبقات، وحسب رأيهم فإن الدولة جهاز إداري وسياسي يهدف إلى المحافظة على الصراع أو التفاوت الطبقي حتى تستطيع الطبقات المالكة أن تحقق مصالحها وتحكم سيطرتها على الطبقات الفقيرة، وأن الدولة أيضا جهاز رأسمالي شأنه شأن المؤسسات والشركات الصناعية والإنتاجية التي تدعم النظام الاجتماعي والاقتصادي للرأسمالية (نصر، 1981: 264).
وحسب وجهة نظر مفكري هذه النظرية فإن الدولة وجدت أصلا من أجل خدمة مصالح الطبقة الرأسمالية وحماية مصالحها الخاصة (المحجوب ,1968 :300) وقد تجاوز الفكر الماركسي مشكلة نشوء الدولة وأصل وجودها إلى محاولة وضع تصور يؤكد زوالها نتيجة نهاية الصراع الطبقي عند الوصول إلى حياة الشيوعية ( Fukuyam, 1992:18 ).
- النظرية الليبرالية:
قامت هذه النظرية على أساس أن الأصل في وجود ونشوء الدولة جاء من أجل حماية الحرية من أي نوع من الاعتداء عليها، سواء أكان من الأفراد أنفسهم أو من دول، وأن وظيفة الدولة العمل من أجل خدمة الجماعة، وأن تسعى إلى اعتبار أن المؤسسات الديمقراطية هي التي تقوم بذلك (فرج ,2007 ) .
وأكد دعاة هذه النظرية ومفكروها أن تدخل الدولة في شؤون الأفراد يجب أن يكون مختصرًا ولا يتعارض مع الحرية الفردية، وأن دور الدولة يكون بمثابة الحراسة والحماية لمواطنيها من أي تعديات على حقوقهم الطبيعية (2013 :2012 ,Brennon ) أن على الدولة أن تسعى دائما إلى إزالة جميع المعوقات في المجتمع المتمثلة في الفقر والمرض والجهل من أجل أن يعيش مواطنوها في حالة من المساواة تمنحهم القدرة على التنافس فيما بينهم (Skinner, 1978:95) .
- النظرية الفاشية:
يعد (موسوليني) رائد هذه النظرية؛ إذ ينظر إلى الدولة على أنها كل شيء، وبرأيه لا شيء ضد الدولة ولا شيء خارج كيانها (الغانم، 1973 383 ) وينظر إلى أن النظام الفاشستي “نظام شمولي والدولة الفاشية مركبة ووحدة لكل القيم تفسر وتطور وتهيمن على كل حياة الشعب” (غاستون,1998 ) .
واتضح من ذلك أنه أعطى الدولة كامل الحرية في إدارة شؤون الحكم والدولة والأفراد، وكان الغرض من رفع شأن الدولة وتقديسها بالنسبة إلى الفاشية محاولة إنشاء دولة قوية تمتلك كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتستطيع أن تحارب دول الحلفاء، وانطلق موسوليني من أن الأساس الذي تبنى عليه الدولة يجب أن يكون على مبدأ أن الحرب والكفاح وإنكار الفرد من أجل الجماعة (حسين, 2002)، وأنها تعمل وفق السيادة المطلقة ؛ لأن وجودها يتفوق على حقوق الأفراد، وهي ليست مدينة أو قرية للفرد بل أعلى من ذلك (أدهم، د ت,61 ).
- النظرية النازية:
تنطلق هذه النظرية من أن الدولة وسيلة من أجل غاية المحافظة على الوجود العنصري للإنسان، وواجبها الأول المحافظة على قوة الشعوب العليا وسموها وسيطرتها، وحسب النظرية فإن على الشعوب الدنيا أن تبقى كما هي؛ لأن ذلك يتوافق مع القانون الطبيعي، وعلى هذا الأساس نادى (هتلر) أن واجب الدولة الأساسي من الداخل الحفاظ على العنصر الأري ونقائه وحمايته من الانهيار جراء اختلاط الأجناس (نصر،1981 ,327 ) .أما الواجب الخارجي فيجب على الدولة أن تسعى من أجل الحصول على أرض ليعيش فيه الجنس الأري ويحكم، وكذلك العمل من أجل الحصول على السلاح (الغنام. 1973 :391) .
ونادى (هتلر): “ان الدولة الجيدة هي التي تتكون من الشعب الجيد، فحسب نوعية الشعب وماذا يريد تكون الدولة قوية أو ضعيفة أو…” (نصر,1981, 334 ) .
- الدولة في الفكر السياسي الإسلامي – الأسس والمقاصد:
1.2 السياق التأسيسي للدولة في الإسلام:
لم تتأسس الدولة في الإسلام على النموذج الثيوقراطي القائم على الحق الإلهي المطلق، إذ إن هذا النموذج لا يمت بصلة إلى التجربة التاريخية الإسلامية، بل يُعدّ غريباً عنها. تأسست الدولة في الإسلام انطلاقاً من النصوص التأسيسية (القرآن والسنة)، التي لم تضع شكلاً مؤسسيًا جامدًا للدولة، بقدر ما أرست قواعد عامة تتعلق بالعدل، الشورى، حفظ الحقوق، وتدبير الشأن العام. وقد ظهرت أولى معالم التنظيم السياسي في دولة المدينة، حيث تجسدت السلطة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، باعتباره رسولاً، وحاكمًا، وقائدًا عسكريًا، وقاضيًا.
وعليه، فإن مصطلح “الدولة الدينية” يبدو مشحوناً بدلالات لا تتسق مع البنية اللغوية العربية ولا تتناغم مع المنظور التأصيلي الإسلامي لبناء الدولة.
فمن خلال الرجوع إلى المعاجم اللغوية مثل لسان العرب، يتضح أن لفظ “الدين” يُحمل معاني الجزاء والمحاسبة، كما في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4]، أي يوم الجزاء (الجلالي، 2014). وذهب المفسرون إلى أن المقصود بـ “الدين” في قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] هو الطاعة، وأصل الكلمة يعود إلى معنى الجزاء، ومن هنا فإن الطاعة دِين لأنها تستوجب الجزاء.
أما “السياسة” في الفهم اللغوي العربي، كما يوردها الفيروزآبادي في القاموس المحيط، فهي تعني توجيه الرعية بالأمر والنهي، والسياسي هو من مارس هذا الفعل، أي أدب ووجه وأصلح. وتدل هذه المعاني على بعد وظيفي وتنظيمي، لا يتنافى مع مبدأ تدخل الإسلام في تنظيم شؤون الحياة، بل يمكن القول إن معالجة هذه القضايا تمثل جزءاً أصيلاً من اختصاص المنظومة الإسلامية.
وبحسب القواعد الدستورية الحديثة، فإن السياسة تشمل تنظيم هيكل الدولة وإدارة شؤونها في مختلف الميادين. ومن هنا يمكن فهم تعريف الماوردي للإمامة بأنها “موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا”، مما يشير إلى أن الإمامة ليست امتيازاً شخصياً أو طبقياً، بل وظيفة تؤدى لتحقيق مصلحة الأمة. كما أشار عضد الدين الإيجي إلى أن “الإمامة هي خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وحفظ حوزة الأمة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة”، معتبراً أن عبارة “إقامة الدين” أدق من “حراسة الدين”؛ لأنها تقتضي التنفيذ الفعلي لا مجرد الصيانة، كما ذهب إلى ذلك الدكتور محمد ضياء الدين الريس.
ومن هذا المنطلق، يمكن فهم مغزى استخدام بعض المفكرين الغربيين لمصطلح “الدولة الدينية” عند الحديث عن الدولة الإسلامية، وهو تحميل المشروع السياسي الإسلامي طابع الاستبداد المرتبط بالحكم الإلهي في التجربة الغربية، في محاولة لتشويهه والتقليل من شرعيته بوصفه نوعاً من الحكم المطلق باسم الدين.
وفي هذا السياق، يُستشهد بقول المفكر إدوارد سعيد (كما ورد في أحد لقاءاته) حيث يرفض توصيف العلاقة بين الأقليات والأغلبية في السياق العربي بمعايير العنصرية الغربية، مبيناً أن الأقليات في العالم العربي عاشت غالباً في أوضاع أكثر طبيعية وارتياحاً مما هو الحال في الغرب، رغم ما تعرضت له أحياناً من ضغوط واضطهاد.
1.2 مقومات الدولة في الفكر السياسي الاسلامي:
أولا: السيادة للشرع والسلطة للأمة:
تركز الدولة الإسلامية على أن السيادة بمعنى الهيمنة على جميع السلطات وتوجيهها ورسم حدودها واختصاصاتها تكون للشرع الحنيف، أم السلطة فتعني إمكانية مباشرة الصلاحيات الممنوحة بموجب الشرع سواء في السياسية أو القضاء أو غيرها من شؤون الحكم (عبد الرحيم،2013: 29 ) .
وبناء على ذلك لا تعترف الشريعة الإسلامية بالسلطة المطلقة للحكام أو أية هيئة أخرى كما هو الحال في الكنيسة، بل إن الخليفة كأي حاكم في الإسلام ليس ممثلا للسلطة الإلهية ولا يستمد سلطانه من السيادة الإلهية وإنما هو يمثل الأمة التي اختارته ويستمد منها سلطته المحددة في المسائل التنفيذية أو القضائية (السنهوري، د.ت، ٦٩) .
ثانيا : الشورى:
تعرف الشورى بأنها اجتماع أهل الحل والعقد نيابة عن الأمة على أمر للرأي فيه مجال والانتهاء الى نتيجة (السنهوري، د.ت ,٦٩) وقد أرسى الإسلام الشورى باعتبارها قاعدة من قواعد الحكم الإسلامي بعامة والنظام السياسي على وجه الخصوص، وقد دل قوله تعالى “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (الشورى، الآية ۳۸) قال القرطبي أي” تشاورهم فيما يعرض لهم، فلا يستأثر بعضهم بخبر دون بعض” (القرطبي، ١٩٦٤: ٣٧) أما قوله تعالى وشاورهم في الأمر فهو يلزم الخليفة بأن يستشير الأمة قال الأستاذ عبد القادر عودة عن الشورى بأنها ” فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة والسياسة والتشريع، وكل ما يتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها، سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم ( عودة، ۱۹۸۱ : ۱۹٤). ويمتاز نظام الشورى في الإسلام بأنه له حدود لا يتعداها فهناك بعض الأحكام التي لا تخضع للشورى مثل أحكام العقائد، والأحكام القطعية وبالتالي تكون الشورى في المسائل الاجتهادية والتي لا نص فيها (القرضاوي، ۲۰۲۱ : ٤١) . ويأتي منع الشورى هنا تحقيقا للقاعدة الفقهية ” لا اجتهاد في مورد النص” أو ” لا مساغ للاجتهاد في مورد النص” والمعنى المراد بالنص هو القرآن والسنة الثابتة والإجماع، عموما (الزحيلي، ٢٠٠٦ : ٤٩٩) .
ثالثا : فصل السلطات:
يقوم مبدأ فصل السلطات في الإسلام على أساس الفصل بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، فمبدأ الفصل بين السلطات وخاصة فيما يتعلق بالسلطة التشريعية لأنها مستقلة عن الخليفة والدولة، أما بالنسبة للسلطة القضائية فرغم أنه يدخل ضمن اختصاصات الخليفة توليه القضاة إلا أن الفقهاء قرروا أن القضاة لا تنتهي ولايتهم بوفاة الخليفة الذي عينهم وعللوا هذا المبدأ أن القاضي يستمد ولايته من الأمة وليس الخليفة، وأن الخليفة عندما عينه كان ممثلا للأمة (السنهوري، د.ت ، ٦٥) .
رابعا: تحقيق العدل:
إقامة العدل هو الغاية التي قامت عليها الدولة الإسلامية، فقد ألزم الفقهاء الحاكم بإقامة العدل بين الأفراد فيجب على الحاكم وكل من قام برعاية شؤون الأمة، وقد دلت الآيات الكريمة على أن غاية الحكم هي تحقيق العدل، لذا كان العدل من المقومات الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم سواء إطار علاقته بالمحكومين فهو واجب على الحاكم تجاه الأمة وبه – أي العدل يتم إيصال الحقوق لأصحابها ( عبد الرحيم، ۲۰۱۳ : ۲۹).
2.2 مقومات الدولة في الفكر السياسي الغربي:
تطور الفكر الغربي في نظريته لطبيعة الدولة وهذا التطور انعكس على فكرة مقومات الدولة ذاتها فحتى القرن التاسع عشر كانت فكرة الدولة الدينية هي المهيمنة على الفكر الغربي، حيث استندت الدولة آنذاك إلى مجموعة من المقومات من أبرها :
أولا: أن الحكام يتم اختيارهم من قبل الله وليس للأمة أي دخل في هذه الاختيار على الرغم من أن هذا التصور يقوم على أساس إضفاء الطبيعة الإلهية للحكام ، إلا أن الفكر الغربي لم يتفق على رؤية واحدة على أساس أن الحاكم يوصف بأنه ذا طبيعة الإلهية، حيث تطورت هذه الرؤية من فكرة الإله الذي يحكم البشر على الأرض، إلى فكرة نزع الألوهية عن الحاكم ولكنه يختار من قبل الله وبالتالي فإنه يستمد سلطته من الله مباشرة، ثم تطورت هذه الرؤية أيضابحيث اصبحت تنظر إلى الحاكم باعتباره يتم اختياره من قبل الله بطريقة غير مباشرة فالافراد وأن كانوا هم الذين يختارون الحاكم إلا إنهم مسيرون في هذا الاختيار وليسوا مخيرين، حيث تسيرهم العناية الإلهية وتوجه إرادتهم لاختيار الحاكم الذي ترضاه العناية الإلهية( الخطيب,1999: 37 ).
ويلاحظ أن النظريات المفسرة للدولة الدينية وأن اختلفت في بعض الأوجه إلا أنها تتفق جميعا على أن الحاكم واجب الطاعة ولا يمكن الخروج عليه أو مخالفته لان مصدر سلطته من الله ” فالسلطة المطلقة للملك تنحدر من طبعته الإلهية، ولا يجوز للأفراد الخروج على تلك السلطة، كما لا يحق لهم مراقبة أفعال الحاكم، ما دمت سلطته مستمدة من الله مباشرة فالصفة الإلهية للحكم توفر للحكام سيطرة مطلقة على كافة المجالات( البير، ١٩٨٩: ٦٥).
ثانيا : الخضوع التام من قبل الأمة للحاكم ما استبد أو ظلم يرى منظرو الدولة الدينية أن من واجب الأمة الخضوع للحاكم أيا كانت القرارات التي يعتمدها أو يصدرها لأن تلك القرارات مستمدة من الله والحاكم منفذون لإرادة الله تعالى وبالتالي فإن واجب الفرد الخضوع والاستسلام وقد أكد ول ديورنت في قصة الحضارة على ذلك بالقول ” أضحت سلطة الملك سلطة إلهية، لا يستطيع أحد أن يعارضها وإلا عد خارجا صراحة على الدين. وأقبل الملاك الإقطاعيون على بلاط الملك الذي أخضعهم السلطانه، وأسبغت الكنيسة حقا إلهيا على الملوك الذين حطموا زعامتها وسلطانها في أوربا بعد ذلك الوقت (ول ديورنت، ۲۰۰۲ : ٤٣٣) .
ثالثا : أن الحاكم معصوم من المحاسبة, حظي الملك في ظل الدولة المدنية بحصانه مطلقة إذ لا يمكن لأحد أن يقوم بمحاسبته أو مسائلته لأن الحاكم مسؤول أمام الله وحده، وقد علل ول ديورنت عن ذلك بأنه “لا” سلطان لا يعلوا عليه إلا سلطان الله وحده وهو أعلى من سلطان جميع ملوك الأرض. ومن حقه أن يخلع الملوك والأباطرة إذا شاء وإن عارض في ذلك رعاياهم أو منتخبوهم، ومن حقه أن يلغي قرارات الحكام الدنيويين وألا يعبأ بدساتير الدول”” (ول ديورنت،2002 :433 ) .
وعلى الرغم من بعض نظريات الدولة الدينية أعطت الأفراد حق اختيار الحاكم إلا أن ذلك لم يكن ليمنع من تمتع الحاكم بصلاحيات مطلقة تهدر حرية المواطنين وتنتهك حقوقهم؛لأن الجامع المشترك بين مختلف النظريات الدينية هو أن الحاكم يستمد سلطته من الله تعالى وبالتالي فإنه لا يخضع للمساءلة من قبلهم فهو مسؤول أمام الله وحدة ( عروس، ۲۰۱۱: ٥٣٨).
رابعا : تعزيز عبودية البشر للحاكم تمنح الدولة الدينية رجال الدين سلطة تخولهم من أن يكونوا الواسطة بين الله وخلقة، فلا يستطيع الفرد الوصول الى ملكوت الله إلا عن طريق رجال الدين، كما تمنح الدولة الدينية رجال الدين سلطة إصدار المغفرة للمخطئين، وبالتالي فإن الدولة الدينية تعزز سلطة الحاكم وسلطة رجل الدين (عبد الرحيم، ٢٠١٣ : ٣٥).
ويرى الدكتور خليل عبد الكريم أن أبرز مقومات الدولة الدينية يتمثل بالآتي :
- يتم اختيار رأس الدولة الدينية من قبل الله.
- يبقى رئيس الدولة الدينية مدى الحياة ولا يحق عزله فهو على اتصال دائم بالسماء.
- طاعة رئيس الدولة واجب ديني لا يجوز مخالفته بأي حال من الأحوال.
- الحصانة المطلقة لرئيس الدولة الدينية من المسائلة أو المحاسبة.
أما في الفكر الغربي فقد تطورت الدولة وأصبحت الديمقراطية وتعزيز الحريات الشخصية وسيادة القانون هي من ابرز شعارات الدولة الحديثة؛ حيث أطلعت تلك الدولة في العرب بأدوار مهمة خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وضمان الحريات وتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للفرد (بدران، ۲۰۱۷ : ۱۰۴) .
تتجلي أبرز مقومات الدولة الحديثة في الفكر الغربي بالمقومات الآتية:
- مبدأ الفصل بين السلطات: يقوم هذا المبدأ على أساس توزيع الوظائف داخل الدولة بين عدة هيئات تعمل تحت رقابة الدولة المركزية بحيث يمكن للسلطة المركزية التدخل لضمان حسن سير الوظيفة (الطماوي، ١٩٨٥ : ٤٦٨) .
- الرقابة على دستورية القوانين: ويقوم هذا المبدأ على أساس سمو الدستور على غيره من قوانين الدولة، فالدستور هو القواعد العليا التي تعلو على الهيئة الحاكمة ويجب الخضوع إليها واحترامها وغياب ذلك يعني أن الدولة تحولت من دولة ديمقراطية إلى دولة بوليسية (الخطيب، ٢٠١١ : ١٨٦) .
- التداول السلمي للسلطة : ويقصد به انتقال السلطة من بين حزبين أو أكثر أو تحالفين في إطار احترام النظام القائم سواء بطريق الانتخاب أو الاستفتاء (جرو، ٢٠٢٣: ١٤٣)
- سمو سلطة الشعب على باقي السلطات : وينطلق هذا المبدأ من أن الشعب يحتفظ بسلطة عليا تمكنه من خلع السلطة التنفيذية من خلال السلطة التشريعية التي تمثله( بوعشرين، ۲۰۱٤ : ۱۷) .
- فصل الدين عن الدولة : أدى الصراع الذي شهدته أوروبا في العصور الوسطى بين السلطة الزمنية ورجال الكنيسة، فظهر اتجاه في أوروبا ينادي بفصل الدين عن الدولة، والاستغناء عن التشريعات الدينية بقوانين يضعها العقل الإنساني دون الحاجة إلى الوصاية الدينية (عبدالهادي، وبشيوان، ۲۰۲۰ : ٢٤) .
3 . التطور التاريخي لمفهوم الدولة في الفكر السياسي الاسلامي (من الخلافة إلي الدولة القومية):
1.3 الدولة في عهد النبوة :
كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاكما للدولة ، وكانت المدينة المنورة عاصمة الحكم ، وقد وضعالوثيقة التي أعطت كل مواطن حقه، وهي وثيقة ترسخ الحقوق والواجبات لكل المواطنين مع الاختلاف في الدين، ونص الوثيقة يعلن هذا بكل وضوح، ومما جاء فيها:” بسم الله الرحمن الرحيم هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيَّ رَسُولِ الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ يَثْرِبَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ ، فَحَلَّ مَعَهُمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ ، أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ ، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ ، يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ ، يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمُعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو الْخُزْرَجِ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ، يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِوَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَنُو النَّجَّارِ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَنُو النَّبِيتِ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَنُو أَوْسٍ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا مِنْهُمْ ، أَنْ يُعِينُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ ، وَلَا يُحَالِفُ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ ، أَوِ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمِ أَوْ إِثْمِ أَوْ عُدْوَانٍ أَوْ فَسَادٍ، … ” (ابن زنجويه، د.ت، حديث رقم 750؛ البيهقي ،حديث رقم 16369).، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمثل سلطة القضاء ، وقيادة الجيش ، وسلطة التشريع بالوحي فهو السلطة التشريعية وهو السلطة التنفيذية ؛ لأنه كان حاكما بوصفه رسولا.
2.3 الدولة في عهد الخلفاء الراشدين (الخلافة الراشدة):
شهدت الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين تطوراً نوعياً في النظام السياسي القائم على الشورى والبيعة، حيث استُمدّت السلطة من النصوص الدينية وتفسير الصحابة لها. مثّلت هذه المرحلة نموذجاً فريداً للدولة الإسلامية الأولى، التي اتسمت بالعدل والمساواة وتكريس مفهوم الأمة الواحدة، دون انتماء قومي أو عرقي. كان الخليفة يُختار بالتوافق العام، ما يعكس قيمة الجماعة في الفكر السياسي الإسلامي المبكر (العسيري، 2020). وقد أسهم هذا النموذج في تثبيت مفاهيم الحاكمية والشرعية الدينية كأساس للحكم الإسلامي.
3.3 الدولة الأموية( من الخلافة إلى الملك الوراثي):
مع بداية الدولة الأموية، حدث تحوّل كبير في مفهوم الدولة، حيث تحوّلت الخلافة إلى نظام وراثي، وظهرت ملامح الدولة المركزية ذات السلطة القوية. ورغم استمرار المرجعية الدينية، إلا أن الممارسات السياسية ابتعدت تدريجياً عن النموذج الشوري الراشدي. وقد تميز العهد الأموي بالتوسع العسكري والاهتمام بالعمران والعلوم، مما منح الدولة طابعاً إمبراطورياً قائماً على الهيبة والسلطة. هذا التحول ساعد في بناء أسس الدولة الإسلامية ككيان سياسي واسع النفوذ، لكنه مهّد أيضاً لفكرة السيادة المنفصلة عن الإجماع الشعبي (طقوش، 2006).
4.3 الدولة العباسية ( الدولة المؤسسية والمعرفية):
أسّست الدولة العباسية نظاماً سياسياً أكثر بيروقراطية، تم فيه الاعتماد على مؤسسات الدولة والعلماء والمفكرين في إدارة الشأن العام، ما يعكس انتقال الدولة من الخلافة الروحية إلى شكل مؤسسي من الحكم. وفي عصر الازدهار، دعمت الدولة العلم واحتضنت العلماء وأسست بيت الحكمة، مما عزّز من شرعية الدولة بوصفها راعية للمعرفة والحضارة (الألوكة، 2016). غير أن هذا التحول أدى لاحقاً إلى تراجع في السلطة المركزية وظهور نزاعات داخلية، ما كشف عن التحديات التي تواجه الدولة القائمة على تحالف النخب وتعدد الولاءات (العسيري، 2020).
5.3 دولة المماليك ( دولة عسكرية هجينة):
تميّزت دولة المماليك بطبيعتها العسكرية القائمة على سلطة النخبة الحاكمة، حيث لم يكن الحكم فيها قائماً على النسب أو الشورى، بل على القوة والسيطرة الفعلية. وهذا ما أوجد نموذجاً فريداً للدولة الإسلامية، يتداخل فيه الولاء الشخصي والتراتبية العسكرية مع مشروعية دينية محدودة. واجه المماليك التتار والصليبيين وحققوا انتصارات بارزة، إلا أن الانقسامات الداخلية والانحرافات الأخلاقية أدت إلى انهيار الدولة في نهاية المطاف (السرجاني، ، 2010). وتُظهر هذه المرحلة تراجعاً واضحاً في المفهوم السياسي الإسلامي الأصلي، مقابل براغماتية السلطة.
6.3 الدولة العثمانية ( سقوط الخلافة وتحول الفكر السياسي الإسلامي نحو القومية):
مثّلت الدولة العثمانية ذروة التفاعل بين الدين والسياسة في الفكر الإسلامي، حيث شكّلت “الخلافة” العثمانية مظلة رمزية لوحدة الأمة الإسلامية. اعتمدت شرعيتها على الجمع بين الشريعة الإسلامية والسلطة السياسية المركزية، لكنها مع مرور الزمن دخلت في صراع مع التحولات العالمية الحديثة، خصوصاً بعد الثورة الفرنسية وصعود مفاهيم الدولة القومية والهوية الوطنية. بدأ الفكر السياسي الإسلامي يفقد توازنه أمام هيمنة الفكر الغربي القائم على السيادة الوطنية وتفكك الإمبراطوريات، فظهرت أزمات في شرعية الدولة العثمانية، خاصة مع صعود التيارات القومية في البلقان والعالم العربي.
كما أدّى فشل الإصلاحات العثمانية (التنظيمات) في توطين الحداثة دون التخلي عن جوهر الدولة الإسلامية إلى اهتزاز مكانة الخلافة في نفوس المسلمين. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، وتفكك الدولة العثمانية، ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة عام 1924، مما مثّل قطيعة تاريخية مع المفهوم الإسلامي التقليدي للدولة. هذا الحدث فتح الباب أمام تيارات فكرية جديدة؛ فالبعض رأى في الدولة القومية حلاً عملياً لحفظ الهوية، بينما دعا آخرون لإحياء الخلافة بصيغ حداثية (العسيري، 2020) . وهكذا تحوّل الفكر السياسي الإسلامي من الانتماء للأمة الدينية إلي الانتماء الوطني، ما أدى إلى إعادة تعريف مفاهيم مثل “الشرعية”، “السيادة”، و”الهوية”، في ظل صعود دول قطرية مستقلة تسير بمنطق الدولة القومية.
- الدولة في الفكر السياسي الغربي ( من السلطة الإلهية إلى الدولة القومية):
1.4 الدولة المدينة في الفكر الكلاسيكي ( البذرة الفلسفية للدولة):
يعود أصل التفكير في الدولة إلى الفكر السياسي الكلاسيكي الإغريقي، حيث ظهرت المدينة-الدولة (Polis ) بوصفها وحدة سياسية مكتفية ذاتيًا ومبنية على المشاركة المدنية.
رأى أفلاطون في عمله الجمهورية أن الدولة يجب أن تقوم على العدالة والتناغم الطبقي، حيث يضطلع الفلاسفة بالحكم باعتبارهم الأقدر على معرفة الخير العام (Plato, 1991) .
أما أرسطو، فاعتبر الدولة نتاجًا طبيعيًا لتطور الحياة الاجتماعية، وهي تتكوّن من مجموعة مواطنين أحرار يهدفون إلى تحقيق الفضيلة المشتركة، وهو ما يُعد تصورًا مبكرًا لفكرة المواطنة السياسية (Aristotle, trans. 1996).
أما في روما القديمة، فقد تطور النموذج السياسي إلى ما يُعرف بالدولة الإمبراطورية، حيث تبلورت فكرة القانون العام والإدارة المركزية، عبر مؤسسات مثل مجلس الشيوخ والقنصلية، وهو ما ساهم لاحقًا في تأسيس بعض المبادئ القانونية للدولة الغربية الحديثة، مثل حكم القانون والشرعية القانونية (Millar, 2002).
2.4 الدولة في العصور الوسطى ( تفكك السلطة المركزية وهيمنة المرجعيات المزدوجة):
أدى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476م إلى انحلال النموذج الإمبراطوري، وظهور نظام الإقطاع السياسي، الذي اتسم بانقسام السلطة بين الكنيسة الكاثوليكية من جهة، وأسياد الإقطاع والنبلاء من جهة أخرى. هذا النظام لم يعرف الدولة بالمعنى الحديث، بل كان مبنيًا على الولاءات الشخصية وغياب السيادة الموحدة. وقد شكّل هذا التفكك عائقًا أمام نشوء مؤسسات دولة مركزية، حيث احتكرت الكنيسة السلطة الروحية والتشريعية، في حين مارس الإقطاعيون السلطة المادية محليًا (Skinner, 1978) .
في هذا السياق، لم يكن الفرد يُعد “مواطنًا” بل “تابعًا”، تتوزع ولاءاته بين البابا وربّه الإقطاعي، ما حال دون تطور مفهوم المواطنة القانونية والسياسية. ويؤكد نور الدين حاطوم أن ضعف الدولة الإقطاعية، وتداخل الملكيات العامة والخاصة، أفسح المجال لطبقة النبلاء لتوسيع سلطاتهم في إطار دولة ملكية هشة (حاطوم، 1985، ص. 174).
3.4 الإصلاح الديني والنهضة ( بداية استعادة السيادة من المؤسسة الدينية):
شكل عصر النهضة نقطة تحول معرفي وسياسي في أوروبا، حيث أُعيد الاعتبار للعقل الإنساني بوصفه مصدرًا للمعرفة والسلطة، وتمت إعادة قراءة النصوص الكلاسيكية، مما ساعد في بلورة مفاهيم مثل الحرية الفردية والفكر النقدي. وبموازاة ذلك، جاءت حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر بقيادة مارتن لوثر، لتُحدث انقلابًا في العلاقة بين الدين والدولة، إذ رفض لوثر سلطة الكنيسة الكاثوليكية ودعا إلى استقلال الكنائس الوطنية (الخضري، 1983، ص. 34).
وقد دعم هذا الإصلاح صعود الدولة على حساب الكنيسة، حيث أصبح للملوك سلطة دينية إلى جانب سلطتهم السياسية. وفي هذا السياق، ظهرت بواكير مفهوم السيادة القومية من خلال تأسيس كنائس وطنية منفصلة عن روما، ما مهّد الطريق إلى تقنين السلطة وتحديد نطاقها داخل حدود الدولة (MacCulloch, 2003).
4.4 الملكية المطلقة ( تمركز السلطة وظهور النواة للدولة القومية):
في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ظهر نموذج الدولة المطلقة، حيث سعى الملوك إلى احتكار السلطة وتأسيس أجهزة إدارية وجيش دائم، مما أسهم في تقوية مركزية الحكم. وقد اعتبر فلاسفة مثل توماس هوبز في كتابه اللفياثان أن الدولة يجب أن تتمتع بسلطة مطلقة لضمان الأمن والنظام، مشيرًا إلى أن الدولة هي نتيجة “عقد اجتماعي” يتنازل فيه الأفراد عن حريتهم لصالح سلطة عليا تحميهم (Hobbes, 1996) .
كما ذهب جان بودان إلى أن السيادة هي الخاصية الأساسية للدولة، والتي لا يمكن تجزئتها أو تقاسمها مع أي سلطة دينية أو خارجية، في تأكيد واضح على مبدأ الدولة الموحدة ذات القرار السيادي (Bodin, 1992 ) .
- معاهدة وستفاليا 1648 ( لحظة التأسيس القانوني للدولة القومية):
جاءت معاهدة وستفاليا عام 1648 لتُشكّل نقطة التحول الحاسمة نحو الدولة القومية ذات السيادة، إذ نصّت على الاعتراف بسيادة الدول على أراضيها، وعدم تدخل القوى الخارجية في شؤونها، وهو ما أسس لاحقًا لركائز القانون الدولي الحديث. كما رسّخت المعاهدة حدود الدولة، وشرّعت مفهوم الدولة كفاعل أساسي في النظام العالمي (Teschke, 2003 ) .
يشير ديفيد ماك كرون إلى أن ظهور الدولة القومية رافقه تبلور واضح لمفهوم المواطنة الحديثة، التي تقوم على ولاء الفرد للدولة لا للكنيسة أو الإقطاع، وأصبح الانتماء السياسي يستند إلى الهوية القومية المشتركة (ماك كرون، 2007، ص. 20).
- الدولة القومية بين الغرب والعالم الإسلامي:
1.5 في الفكر السياسي الإسلامي:
يرى الدكتور سيف أن الدولة القومية في الغرب نشأت كنتاج طبيعي لتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية، فكانت تعبيرًا عن رغبة في التوحد ضمن إطار وطني جامع. أما في العالم الإسلامي، فقد كانت الدولة القومية نتاج تفكيك الكيانات الكبرى (مثل الخلافة)، فجاءت مشوهة في تكوينها، حاملة في طياتها عناصر الصراع والانقسام أكثر من عناصر الوحدة. وقد أصبحت هذه الدولة أداة لتعزيز التبعية الغربية لا التحرر، وأعاقت إمكانيات التكامل والوحدة الإسلامية.
- طبيعة الانتماء السياسي ومفهوم الأمة:
تُبنى الدولة القومية على فكرة الانتماء الوطني الموحّد داخل حدود سياسية وجغرافية محددة. في المقابل، تأسس الانتماء السياسي في الفكر الإسلامي على رابطة “الأمة” القائمة على الدين. فالمسلمون، وفق المفهوم القرآني، يشكّلون أمّة واحدة رغم تنوع أعراقهم وجغرافياتهم، كما في قوله تعالى: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” (الأنبياء: 92).
هذا الفهم للأمة جعل من الانتماء الإسلامي انتماءً فوق قومي، لا يحدّه العرق أو اللغة أو الحدود الجغرافية، وهو ما شكّل أساس الدولة الإسلامية في مراحلها الأولى، ثم في مراحل الخلافة الراشدة والأموية والعباسية، حيث كان المسلمون ينتمون إلى كيان سياسي واحد، تُدار شؤونه من مركز واحد، بغض النظر عن القومية أو اللغة أو العِرق (بومليك، 2020).
2.5 تحوّلات الفكر السياسي الإسلامي الحديث تجاه الدولة القومية:
بعد إلغاء الخلافة العثمانية، دخل الفكر السياسي الإسلامي في حالة من الصدمة والتأمل، حيث وجد المفكرون المسلمون أنفسهم أمام فراغ سياسي كبير، وفقدان لما كانوا يعتبرونه رمز وحدة الأمة الإسلامية.
مما جعل مفاهيم الدولة الحديثة، بما فيها الدولة القومية، تدخل إلى السياق الإسلامي مع تفكك الخلافة العثمانية، وتوسع الاستعمار الأوروبي، وظهور حركات الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر. وقد واجه المفكرون المسلمون سؤالًا جوهريًا: هل يمكن للإسلام أن يتلاءم مع الدولة القومية الحديثة؟ وكيف يمكن إعادة بناء الدولة دون التضحية بالمبدأ الأممي؟
ظهر اتجاهان رئيسيان في هذا السياق:
- الاتجاه الرافض للدولة القومية:
يرى هذا الاتجاه أن الدولة القومية تتعارض جوهريًا مع مقاصد الشريعة ومفهوم الأمة الإسلامية. فحدودها تقطع أوصال وحدة الأمة، وتنقل الولاء من الجماعة الدينية إلى الجماعة الوطنية. وقد تبنّى هذا الموقف مفكرون إسلاميون كحسن البنا، وسيد قطب، الذين اعتبروا القومية نوعًا من “الجاهلية الحديثة” لأنها تستبدل رابطة العقيدة برابطة الدم أو الأرض (قطب، 1980).
- الاتجاه المصلح أو التوفيقي:
سعى عدد من المفكرين الإسلاميين إلى التوفيق بين الدولة القومية ومبادئ الإسلام. فاعتبر بعضهم أن “الدولة الوطنية” قد تكون ضرورة واقعية في ظل تفكك الخلافة، شريطة أن تُدار بالشريعة وتُحافظ على القيم الإسلامية. ومن هؤلاء محمد عبده، وعلال الفاسي، وراشد الغنوشي. وقد رأى هؤلاء أن الدولة يمكن أن تُبنى على رابطة المواطنة دون أن تتخلى عن البعد الإسلامي، بشرط أن تكون القومية خادمة للدين لا بديلاً عنه (الغنوشي، 1993).
3.5 الدولة القومية في الممارسة السياسية الإسلامية المعاصرة:
رغم أن الدولة القومية نشأت خارج السياق الإسلامي، فإنّها أصبحت واقعًا سياسيًا مفروضًا على المجتمعات الإسلامية بعد تفكك الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين، وصعود الدول القُطرية التي رسمت حدودها القوى الاستعمارية في اتفاقيات مثل “سايكس بيكو” (1917). وبهذا أصبحت الدولة القومية إطارًا سياسيًا لا مناص منه للمجتمعات الإسلامية، وهو ما فرض على الحركات الإسلامية والفكر السياسي الإسلامي المعاصر تحديًا مزدوجًا: كيف يمكن التوفيق بين الانتماء الإسلامي العابر للحدود، والانتماء الوطني القائم على حدود جغرافية وسياسية ثابتة؟
في هذا السياق، تفاعلت الحركات الإسلامية مع الدولة القومية بطريقتين رئيسيتين: القبول العملي مع التحفّظ الأيديولوجي، أو الرفض النظري والتصادُم السياسي.
الاتجاه الأول: مثّله تيار الإسلام السياسي الوسطي، مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي قبلت العمل من داخل الدولة القومية عبر تأسيس أحزاب سياسية وطنية، والمشاركة في الانتخابات، والسعي إلى تطبيق الشريعة الأسلامية من الداخل. ففي مصر مثلًا، قبلت الجماعة بقواعد اللعبة السياسية منذ الأربعينيات، وأسست حزب “الحرية والعدالة” بعد ثورة 25 يناير 2011، وسعت إلى إدارة الدولة من خلال مؤسساتها الرسمية، دون أن تتخلى عن الخطاب الأممي الذي يطمح إلى وحدة الأمة الإسلامية (الغنوشي، 1993).
لكن هذا القبول العملي اصطدم بعدة مشكلات بنيوية. فمن جهة، تم اتهام الحركات الإسلامية بازدواجية الولاء: هل ولاؤها للدولة الوطنية التي تعمل من داخلها، أم للأمة الإسلامية التي تدّعي تمثيلها؟ ومن جهة أخرى، وجدت هذه الحركات نفسها مضطرة لتقديم تنازلات أيديولوجية كي تتلاءم مع أنظمة الدولة الحديثة، مثل احترام القوانين الوضعية، وتعدد الأحزاب، ومبادئ المواطنة المتساوية، وهي أمور لم يكن لها أساس واضح في التراث السياسي الإسلامي التقليدي (سيف، 2023).
الاتجاه الثاني: فقد تبنّته بعض الجماعات الراديكالية التي رفضت الدولة القومية جملة وتفصيلًا، واعتبرتها “كفراً حديثًا”، وطرحت بديلاً عنها “الخلافة الإسلامية” كنظام سياسي عالمي. ويمثّل تنظيم “داعش” أبرز نموذج لهذا الاتجاه، حيث أعلن قيام “دولة الخلافة” متجاوزًا الحدود الوطنية بين سوريا والعراق، ومتبنيًا خطابًا أمميًا يهدف إلى إلغاء الدول القومية واستبدالها بنظام ديني عالمي. لكن هذا النموذج فشل سياسيًا وإنسانيًا، وساهم في تشويه صورة الإسلام عالميًا، وعزز من شرعية الأنظمة القومية القائمة بوصفها حائط صدّ أمام الفوضى والتطرف (بومليك، 2020).
تجدر الإشارة إلى أن الإسلاميين المعاصرين، سواء في الاتجاه الوسطي أو الراديكالي، لم يتمكنوا بعد من تقديم نظرية سياسية متماسكة تعيد تأسيس العلاقة بين الدين والدولة على نحو يراعي تعقيدات الدولة القومية الحديثة. فبينما لا تزال مفاهيم مثل “الأمة”، و”الخلافة”، و”الولاء والبراء” حاضرة بقوة في الخطاب الإسلامي، فإن الواقع السياسي يفرض العمل من داخل هياكل الدولة الوطنية، بما تتضمنه من مفاهيم السيادة، والمواطنة، والحدود. هذا التوتر المستمر بين المرجعية الفكرية والواقع السياسي يُعد من أبرز التحديات التي تواجه الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
من ناحية أخرى، ظهرت بعض المحاولات الفكرية المعاصرة لإعادة قراءة الدولة القومية من منظور إسلامي عقلاني، مثل اجتهادات راشد الغنوشي، وطه عبد الرحمن، وعبد الله العروي، الذين سعوا إلى تطوير مفهوم “الدولة الوطنية ذات المرجعية الإسلامية”، والتي تُبنى على القبول بالتعددية، واحترام حقوق الإنسان، ودمج الشريعة ضمن الإطار الدستوري، دون مصادمة منطق الدولة الحديثة (الغنوشي، 1993) لكن هذه المشاريع لا تزال تواجه مقاومة من التيارات التقليدية، ومن الأنظمة السلطوية، ومن الغرب الذي لا يزال يتوجس من كل تصور للدولة الإسلامية.
4.5 الجزور الفكرية لمفهوم ألدولة القومية في الفكر السياسي الغربي:
- الثورة الفرنسية وصعود الفكر القومي:
أعادت الثورة الفرنسية (1789م) تعريف الدولة القومية على أساس الإرادة العامة للشعب. فقد تمخضت الثورة عن إعلان “حقوق الإنسان والمواطن”، وأكدت على أن الأمة، وليس الملك أو الكنيسة، هي مصدر السيادة. وقد اقترن هذا التحول بولادة مفاهيم جديدة مثل “المواطنة”، و”الدستور”، و”الدولة الجمهورية”، التي جعلت من الولاء الوطني هوية أساسية لكل فرد (Breuilly, 1993)
أدى هذا التحول إلى بروز القومية (Nationalism ) كأيديولوجيا سياسية تدعو إلى وحدة الشعب على أساس اللغة والثقافة والتاريخ المشترك. وقد انتشرت هذه الفكرة في مختلف أنحاء أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وارتبطت بحركات توحيد كبرى، مثل توحيد ألمانيا بقيادة بسمارك، وتوحيد إيطاليا بقيادة غاريبالدي. وفي هذا السياق، أصبحت الدولة القومية التعبير السياسي عن الأمة، وأداة لتحقيق تطلعاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (Smith, 1991 )
4.5 الدولة القومية في الفكر الفلسفي والسياسي الغربي:
قدّم عدد من المفكرين الغربيين تصورات نظرية أسهمت في بلورة مفهوم الدولة القومية. فقد رأى جون لوك أن الدولة يجب أن تقوم على عقد اجتماعي بين الأفراد، لحماية حقوقهم الطبيعية في الحياة والحرية والملكية. أما جان جاك روسو، فقد شدّد على إرادة الشعب كمصدر للسيادة، وربط الدولة بمفهوم “الإرادة العامة”. وذهب هيغل إلى أن الدولة القومية هي أعلى تجليات الروح المطلقة، لأنها تعبّر عن وحدة الشعب والتاريخ والعقل (Held, 2006)
كما تناول ماكس فيبر مفهوم الدولة القومية من زاوية سوسيولوجية، فعرف الدولة بأنها “الكيان الذي يحتكر الاستخدام المشروع للعنف داخل حدود إقليم معين”، ورأى أن نشوء الدولة القومية يرتبط بتطور البيروقراطية، والشرعية القانونية، والهوية الجماعية للمجتمع (Weber, 1946)
6 .تحديات الدولة القومية في الفكر السياسي:
1.6 في الفكر السياسي الاسلامي المعاصر(داعش نموذج):
لقد أعاد تنظيم داعش صياغة المفهوم السياسي للدولة ضمن فكر ما يُعرف بـ”الدولة الجهادية”، التي لا تعترف بالحدود السيادية الحديثة، بل تطرح بديلاً أمميًا قائمًا على وحدة الأمة الإسلامية تحت راية الخلافة. وفي هذا السياق، استثمر التنظيم الموجة الرابعة من الإرهاب(أبو زيد، 2020). ، أي “الإرهاب الرقمي”، عبر الفضاء الإلكتروني كأداة للتجنيد والحشد والتعبئة، معتمدًا على خطاب عقائدي مغلق يُعزز شرعية دينية تتجاوز القوانين الوضعية (Winter, 2015) هذه التحولات تمثل انزياحًا عن النموذج القومي الكلاسيكي للدولة إلى نموذج أصولي متشدد، يعتمد على التكنولوجيات الحديثة، ويقوم على تفكيك مفاهيم مثل المواطنة والسيادة الوطنية، لحساب سردية دينية شمولية تُعرّف الدولة من خلال “الولاء والبراء” لا الهوية السياسية (Hegghammer, 2016)
وبينما قامت الدولة القومية الحديثة على أساس الفصل بين الدين والسياسة، وفكرة السيادة المحصورة داخل الحدود الوطنية، فإن “داعش” أعاد تشكيل الدولة كنظام ثيوقراطي مؤدلج، يدمج أدوات الحرب التقليدية بالعنف المعلوماتي، في سياق أيديولوجي يروم تأسيس “دار الإسلام” على أنقاض الدولة الوطنية، لا سيما من خلال تجنيد أفراد من خارج العالم الإسلامي مستغلًا الفجوة بين الأنظمة الغربية والجاليات المسلمة (Neumann, 2016)إن هذا التكوين المركّب يشير إلى انتقال “داعش” من حركة جهادية إلى نموذج دولة هجينة، تجمع بين أدوات السلطة التقليدية والعنف الرمزي عبر الإنترنت، ما يجعلها حالة مركزية في فهم تحول الإرهاب من سلوك فردي أو جماعي معزول إلى منظومة مؤسسية شاملة تهدف إلى تقويض الدولة القومية وإعادة إنتاج نظام سياسي ديني شامل.
- تنظيم داعش وإعادة تشكيل مفهوم السيادة في الدولة القومية:
شكّل صعود تنظيم “داعش” لحظة مفصلية في تهديد بنية الدولة القومية الحديثة، ولا سيّما من حيث مبدأ السيادة الوطنية، الذي تأسس منذ معاهدة وستفاليا عام 1648م بوصفه أحد الأعمدة الثلاثة للنظام الدولي، إلى جانب مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، والولاء القومي. إلا أن التنظيم، الذي أعلن ما يُعرف بـ”دولة الخلافة الإسلامية” في أراضٍ ممتدة بين سوريا والعراق، تقاطع فعليًا مع تلك المبادئ، عبر إنكاره للحدود السياسية، وسعيه لتفكيك الشرعية الدولية للدولة الوطنية عبر ممارسة العنف العابر للحدود، واستقطاب عناصر من جنسيات مختلفة، ما ولّد ما يمكن تسميته بـ”اللاحدودية الجهادية” (الشتاوي، 2021).
وفي هذا السياق، لم تعد الدول في مواجهتها لتنظيم داعش تمارس الدفاع عن نفسها ضمن نطاق حدودها فحسب، بل اتجهت إلى تجاوز هذا الإطار، من خلال تشكيل تحالفات عسكرية إقليمية ودولية، قادتها الولايات المتحدة، للتدخل العسكري المباشر داخل أراضي دول ذات سيادة (كالعراق وسوريا)، ما مثّل خرقًا لمبدأ السيادة القومية تحت مبررات مكافحة الإرهاب أو التدخل الإنساني. وهكذا، أصبح تدخل الدول الكبرى مبررًا لا لحماية الأمن الجماعي فقط، بل كإعادة إنتاج لنمط جديد من الهيمنة السياسية والثقافية، قائم على هشاشة الدولة القومية في مواجهة الفاعلين من غير الدول (Kaldor, 2012).
تبيّن من حالة داعش أن الجماعات الإرهابية العابرة للقوميات قد أصبحت فاعلًا دوليًا لا تقليديًا قادرًا على انتزاع السيطرة الميدانية، وإعادة هندسة مفهوم “السيادة” في السياق المعولم، ليس فقط بإضعاف الدولة من الداخل، بل بجعلها موضع تقاطع لتدخلات خارجية تمس جوهرها القانوني والسياسي. وقد كشفت تلك التحولات أن مبدأ السيادة، كما صيغ في النسق الوستفالي(عبد السلام، 2020).، لم يعد قادرًا على الصمود أمام ظواهر معولمة كالإرهاب الرقمي والعابر للقارات، ما يدعو إلى إعادة تقييم حدود الشرعية الدولية، في ظل صعود التنظيمات المسلحة كفاعلين جدد في النظام الدولي (Biersteker & Weber, 1996 ) .
2.6 في الفكر السياسي الغربي:
رغم أن الدولة القومية تشكّل النموذج المركزي لتنظيم السلطة في الغرب منذ معاهدة وستفاليا (1648م)، فإن القرن العشرين والعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين شهدت تصاعد تحديات عميقة تهدد استمرارها كإطار مرجعي وحيد للسيادة والهوية. وتتمثل هذه التحديات في ثلاث دوائر رئيسية: داخلية تتعلق بالهوية الوطنية والتماسك الاجتماعي، وخارجية ناتجة عن العولمة، وأخرى فوق قومية بسبب نشوء كيانات تتجاوز الدولة مثل الاتحاد الأوروبي.
أول هذه التحديات كان متمثلًا في صعود النزعات القومية المتطرفة في القرن العشرين، والتي بلغت ذروتها في صعود الفاشية والنازية، خاصة في ألمانيا وإيطاليا. فقد استُخدمت الدولة القومية كأداة لترسيخ تفوق عرقي وإيديولوجي، وجرّت العالم إلى حربين عالميتين مدمرتين، وهو ما كشف التناقض الكامن بين مبدأ السيادة المطلقة والالتزامات الإنسانية العالمية (Smith, 1991)وفي أعقاب هذه الكوارث، سعت الدول الغربية إلى كبح جماح القومية المنغلقة من خلال تأسيس منظمات دولية مثل الأمم المتحدة، ومؤسسات حقوق الإنسان، والاتحاد الأوروبي لاحقًا، بما يعكس محاولة لتجاوز منطق الدولة القومية الصارم.
أما في العصر الحديث، فقد برزت العولمة كأحد أبرز التحديات البنيوية للدولة القومية. لقد قلّصت العولمة من سلطة الدولة في كثير من المجالات، خاصة الاقتصاد والاتصالات والثقافة. فالشركات العابرة للحدود باتت تتحكم في حركة رؤوس الأموال والتجارة أكثر من الحكومات الوطنية. كما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط الإعلام الرقمي تُعيد تشكيل الوعي والهوية خارج الأطر القومية، وتضعف من قدرة الدولة على التحكم في روايتها الرسمية أو ضبط المجال العام (Held, 2006 )وبذلك باتت الدولة القومية تواجه ما يسميه بعض المنظّرين بـ”تآكل السيادة” (Habermas, 2001)
كذلك، فإن التحولات الديمغرافية والهجرة الجماعية تمثل تحديًا وجوديًا للدولة القومية في الغرب. فقد أدى تدفق المهاجرين، خاصة من دول الجنوب العالمي، إلى إثارة تساؤلات عميقة حول الهوية الوطنية، والانتماء، وحقوق المواطنة. ونتج عن ذلك صعود حركات اليمين القومي المتطرف، كما في فرنسا (اليمين الوطني بقيادة مارين لوبان)، وألمانيا (حركة بيغيدا)، والمجر (فيكتور أوربان)، وهي حركات تطالب بإعادة تعريف الهوية القومية بطريقة حصرية، بل وعدائية في بعض الأحيان، وتنازع الدولة القومية في قدرتها على تمثيل كافة مواطنيها دون تمييز.
وفي المقابل، ظهرت كيانات سياسية فوق قومية مثل الاتحاد الأوروبي، حاولت أن تقدّم بديلاً أو تجاوزًا للدولة القومية، من خلال ترسيخ المواطنة الأوروبية، وتوحيد السياسات الاقتصادية والنقدية والتشريعية. ورغم النجاحات المؤسسية التي حققها الاتحاد، فإن أزمة “بريكست” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2020م) أعادت طرح الدولة القومية كملاذ للهوية والسيادة، ما يعكس استمرار التوتر بين القومي والعابر للقومية.
الخاتمة:
بعد استعراضٍ معمّق لمسار تطوّر مفهوم الدولة في كل من الفكر السياسي الإسلامي والفكر السياسي الغربي، تتّضح أمامنا جملة من الفروقات البنيوية والمعرفية التي تُبرز التباين الجوهري في التصوّر، والغاية، والشرعية، وبنية السلطة. لم يكن التمايز في مسار الدولة محض اختلاف في التجربة التاريخية فحسب، بل هو انعكاس لتغايرٍ جذري في المرجعيات المعرفية والمفاهيم التأسيسية التي حكمت تشكّل الوعي السياسي في كلّ من البيئتين.
لقد نشأت الدولة في السياق الإسلامي كامتداد عضوي للوحي، حيث اقترنت السياسة بالدين، واستمدت السلطة مشروعيتها من النصوص المقدّسة، ومن المنظومة الأخلاقية المستندة إلى مفهوم “الخلافة عن الله في الأرض”. في حين برزت الدولة في الغرب نتيجة لتراكمات فلسفية ومجتمعية بدأت منذ الفكر الإغريقي، ومرّت باللاهوت المسيحي الوسيط، لتصل في العصر الحديث إلى مرحلة “العقد الاجتماعي”، حيث انتقلت السيادة من السماء إلى الأرض، ومن الله إلى الإنسان، في ظل علمنة الفضاء العام وتفكيك المرجعية الكنسية.
هذا المسار قاد إلى تكوّن الدولة القومية في الغرب بوصفها الكيان الأعلى للسلطة، والمتحدث باسم “الشعب”، والمحتكر للعنف المشروع داخل حدود ترابية واضحة. بينما لم تشهد البيئة الإسلامية تطورًا مماثلًا، وظلّت تصورات “الدولة” فيها محكومة بإرث الخلافة، وفكرة الأمة الواحدة، مع غياب تنظير دقيق لمفهوم “القومية” أو السيادة المطلقة للدولة الحديثة، كما عرفتها أوروبا ما بعد وستفاليا.
وقد كشفت الدراسة أن الفكر السياسي الإسلامي، رغم عمقه الفقهي والكلامي، لم يطوّر نموذجًا واضحًا لمفهوم الدولة ككيان مؤسسي مستقل، بقدر ما بقي مندمجًا في بنية الإمامة والخلافة، ومترددًا بين النص والاجتهاد، وبين الشورى والإلزام. هذا ما أدّى إلى تباينات واضحة في تأويل السلطة وشرعنتها، وأسفر عن هشاشة في بناء الدولة عند مواجهة تحديات الحداثة، خصوصًا بعد انهيار الخلافة العثمانية.
في المقابل، أفرز النموذج الغربي للدولة، رغم نجاحه المؤسسي، إشكاليات حقيقية تمثلت في النزعة الإمبريالية، وتفكك المعنى الأخلاقي للسيادة، وتضارب الهويات داخل الدولة القومية، لاسيما في ظل العولمة وتآكل الحدود الثقافية. لقد أصبح من الواضح أن الدولة القومية الغربية، التي ظهرت بوصفها حلًّا لأزمة القرون الوسطى، باتت اليوم تواجه أزمات بنيوية تمسّ جوهر وجودها، من بينها التوتر بين القومية والمواطنة، وبين السيادة والحقوق العالمية.
ومن أبرز النتائج التي توصّل إليها الباحث:
- أن تطور الدولة في الإسلام لم يسلك مسارًا مؤسسيًا موازيًا لنظيره الغربي، بل بقي محكومًا بمفهوم الأمة، والسلطة الدينية، مما أعاق تشكّل الدولة القومية بمفهومها الحديث.
- أن الفجوة المعرفية بين الفكر السياسي الإسلامي والغربي لا تكمن فقط في المفردات والمفاهيم، بل في الرؤية الكونية للإنسان والسلطة والمجتمع.
- أن النموذج الغربي ذاته يواجه أزمة مفاهيمية عميقة، تتجلّى في صعود الشعبوية، وتحديات الهجرة، والانقسام الهوياتي، مما يُعيد طرح سؤال: هل الدولة القومية مشروع قابل للاستمرار؟
- أن محاولات “إعادة إحياء” الدولة في السياق الإسلامي المعاصر – كما فعل تنظيم داعش – أثبتت فشلها الذريع بسبب استنساخ قسري لمفاهيم سابقة دون وعي سياقي أو اجتهاد منهجي.
- المراجع :
اولا: المراجع العربية:
- 1. أبو زيد، مصطفى. (2020). الإرهاب الرقمي وداعش: دراسة في آليات التوظيف الإلكتروني. مجلة الدراسات الأمنية، 24(2)، 137–165.
- 2. إبراهيم، ز. (2008). الفكر السياسي الإسلامي بين النص والتاريخ. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
- 3. الأنصاري، أحمد. (2014). مفهوم الدولة المدنية في الفكر الغربي والإسلامي: دراسة مقارنة لبعض النصوص التأسيسية. سلسلة دراسات، المركز العربي للأبحاث والدراسات.
- 4. البحري، حسين. (2020). القانون الدستوري والنظم السياسية (ط. 1). منشورات جامعة الشام الخاصة.
- 5. البرغوث، د. (2016). الإسلام والدولة الحديثة: إشكاليات الهوية والشرعية. مجلة المستقبل العربي، (445)، 15–30.
- 6. بوعشرين، أحمد. (2014). مفهوم الدولة المدنية في الفكر الغربي والإسلامي: دراسة مقارنة لبعض النصوص التأسيسية. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- 7. بودرمين، عبد الفتاح. (2014). إشكالية الدولة بين الطرح الديني والطرح المدني. مجلة الحوار الثقافي، 3(2)، 116.
- 8. بيومي، أحمد. (غير مدرج في القائمة، ولكن إن وجد يرجى التوضيح).
- 9. جبرون، محمد. (2014). مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة. المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات.
- 10. حاطوم، ن. (1985). تاريخ عصر النهضة الأوروبية. دمشق: دار الفكر.
- 11. حفيظي، سليمة. (2014). محاضرات في منهجية وتقنيات البحث. جامعة محمد خيضر، الجزائر.
- 12. حميد، ص. (2021). وثيقة المدينة والدولة الإسلامية المبكرة. مركز الجزيرة للدراسات.
- 13. الخطيب، نعمان أحمد. (1999). الوجيز في النظم السياسية. دار الثقافة للنشر.
- 14. الخضري، ح. ج. (1983). المصلح مارتن لوثر: حياته وتعاليمه. القاهرة: دار الثقافة المسيحية.
- 15. الدويك، عمار. (2016). الدولة المدنية في ضوء السياسة الشرعية (رسالة ماجستير غير منشورة). جامعة الخليل، فلسطين.
- 16. السرجاني، ر. (بلا تاريخ). نشأة المماليك.
- 17. السعيدي، محمد أحمد سعيد. (2018). الدولة المدنية وموقف الإسلام منها. أكاديمية باشاك شهير، تركيا.
- 18. السنهوري، عبد الرزاق. (د.ت). فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية. مؤسسة الرسالة.
- 19. السهيلي، إسماعيل، والزنداني، أحمد. (2011). مقاربات في الدولة المدنية والإسلامية: السياقات الفكرية والاستراتيجية.
- 20. الشتـاوي، إيمان. (2021). داعش وإشكالية الحدود في العالم الإسلامي. المجلة العربية للعلوم السياسية، 67، 87–105.
- 21. عبد السلام، أحمد. (2020). تحولات مفهوم السيادة في ظل التهديدات العابرة للحدود. مجلة السياسة الدولية، 221، 144–161.
- 22. علوي، مصطفى. (2017). تحولات الإرهاب العالمي وموجاته التاريخية. مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
- 23. الغنوشي، راشد. (1993). الحريات العامة في الدولة الإسلامية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
- 24. العسيري، أ. م. (2020). موجز التاريخ الإسلامي من عهد آدم إلى عصرنا الحالي.
- 25. القطـب، سيد. (1980). معالم في الطريق. القاهرة: دار الشروق.
- 26. طقوش، م. س. (2006). تاريخ الدولة الأموية.
- 27. ابن خلدون، عبد الرحمن. (1980). ديوان المبتدأ والخبر. بيروت: دار الفكر.
- 28. ابن زنجويه. (د.ت). الأموال.
- 29. ابن حنبل. المسند. أحاديث رجال من أصحاب النبي.
- 30. الألوكة. (2016، يوليو 19). خلفاء العصر العباسي. [https://www.alukah.net](https://www.alukah.net)
ثانيا: المراجع الأجنبية:
- 31. Aristotle. (1996). Politics (E. Barker, Trans.). Oxford University Press. (Original work ca. 350 B.C.E.)
- 32. Biersteker, T. J., & Weber, C. (1996). State Sovereignty as Social Construct. Cambridge University Press.
- 33. Bluntschli, J. (2000). The Theory of the State. Batoche Books.
- 34. Bodin, J. (1992). On Sovereignty (J. H. Franklin, Ed. & Trans.). Cambridge University Press. (Original work published 1576)
- 35. Bhat, K. (2023). Concept of State in Western Political Thought. International Journal of Multidisciplinary Approach and Studies, 10(5), 119–120.
- 36. Crenshaw, M. (2011). Explaining Terrorism: Causes, Processes, and Consequences. Routledge.
- 37. Debnath, K., & Saha, T. (2024). The Marxist Perspective of State. SSRN Electronic Journal. [https://ssrn.com/abstract=4711122](https://ssrn.com/abstract=4711122)
- 38. Gjipali, D. (2018). The evolution of the concept of citizenship. Knowledge International Journal, 23(4), 1307.
- 39. Hays, C., & Lister, M. (2022). The State: Theories and Issues (2nd ed.).
- 40. Hegghammer, T. (2016). Jihadists in Western Europe: Understanding the Threat. Carnegie Endowment.
- 41. Hobbes, T. (1996). Leviathan (R. Tuck, Ed.). Cambridge University Press. (Original work published 1651)
- 42. Jayapalan, N. (2011). A Comprehensive History of Political Thought. Atlantic Publishers.
- 43. Kaldor, M. (2012). New and Old Wars (3rd ed.). Stanford University Press.
- 44. Levine, A. (2007). Political Keywords. Blackwell Publishing.
- 45. MacCulloch, D. (2003). The Reformation: A History. Viking.
- 46. Mcclelland, J. (2020). History of Western Political Thought. Taylor & Francis.
- 47. Millar, F. (2002). The Roman Republic in Political Thought. University Press of New England.
- 48. Neumann, P. (2016). Radicalized: New Jihadists and the Threat to the West. I.B. Tauris.
- 49. Pierson, C. (1996). The Modern State. Routledge.
- 50. Rousseau, J.-J. (2010). The Social Contract. Jonathan Bennett.
- 51. Skinner, Q. (1978). The Foundations of Modern Political Thought: Volume 1 – The Renaissance. Cambridge University Press.
- 52. Skinner, Q. (1989). The State. In T. Ball et al. (Eds.), Political Innovation and Conceptual Change. Cambridge University Press.
- 53. Sotirovic, V. (2024). Citizenship: Concept and Consequences. Center for Geostrategic Studies, Belgrade.
- 54. Teschke, B. (2003). The Myth of 1648. Verso.
- 55. Weber, M. (1946). Politics as a Vocation. In H. H. Gerth & C. Wright Mills (Eds.), From Max Weber: Essays in Sociology. Oxford University Press.
56Winter, C. (2015). Documenting the Virtual “Caliphate”. Quilliam Foundation