الدراسات البحثيةالمتخصصة

الانْقِيَاد للموت عن ممارسة الموت كسياسة وكقوة إلهاميّة كاشفة

Wielding Death

بقلم: عمر لطيف مِسجر(*)كاتب صحفي مستقل يغطي موضوعات وأحداث السياسة وحقوق الإنسان في كشمير. وهو باحث دراسات عليا ومحاضر زائر في جامعة وستمنستر في لندن ، المملكة المتحدة.

ترجمة د. حمدي عبد الحميد الشريف(*)دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج

  • المركز الديمقراطي العربي

«عندما تتسم الحياة اليومية بالقهر والعنف، فهل يمكن أن يكون موت الشهيد بمثابة ممارسة سياسية للحرية والمقاومة؟».

لقد حُكم على أسقف مسيحي وهو في منتصف الثمانين من عمره بالإعدام بسبب معتقداته. وأثناء ربطه على العمود الخشبي، كما أمرت السلطات الرومانية بذلك، كان الراهب مصرًا أن معتقداته ليست تجديفًا أو خروجًا على الدين. وفي أثناء ذلك تجمعت الحشود للمشاهدة، بما في ذلك رفقاء الراهب نفسه، الذين كانوا ينظرون بعين الرعب والرَهبَة إلى المحرقة. وعندما فشلت ألسنة اللهب في إهلاكه، تم تصويب خنجر إلى قلبه فأودى بحياته. لقد مات الأسقف بوليكاربوس!

وما إن اندفع رفاقه لحمل جثمانه، إلا تسبَّبَ هذا في اضطراب شديد الفوضى لدرجة أن السلطات الرومانية وجدت أنه الضروري أن تكبح جماح هذه الحشود بالقوة. وانطلاقًا من التَّيَمُّن بجسده الطاهر، كان رفقاء الأسقف بوليكاربوس يبحثون عن رُفاته باعتبارها من بقايا المعاناة والتفاني. المهم أنه بموته، أصبح هذا الراهب شهيدًا، ومن هنا تبدأ قصة القديس بوليكاربوس في نشر المسيحية في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. ذلك أن استشهاده يُمثِّل أكثر من مجرد الانتشار لأنصار ذلك الدين الجديد المضطهَد: حيث تُظهر تضحية بوليكاربوس في القرن الثاني الميلادي ما يمكن أن يعنيه الانْقِيَاد للموت كشكل من أشكال المقاومة السياسية المستبدة. وهو علاوة على ذلك شكل سيُؤطر شكل الفعل السياسي في آلاف السنين التالية.

إن تاريخ المسيحية مليء بشهداء مثل بوليكاربوس، لكن طلب شَهَادَة ليس من اختراع المسيحية أو تقليدها وحدهما. ففي المجتمعات المستقرة في حوض البحر الأبيض المتوسط، تَصَدّى الشهداء للسلطة السياسية القمعية. وهناك أعلام من التيارات الفلسفية المختلفة، كالرواقية بشكل بارز، تقبلوا الموت من أجل نيل الشَهَادَة بصدر ذاتي رحب كوسيلة لتعزيز موقفهم السامي ضد مجتمعهم المنحط. وواحد هذه الأمثلة البارزة هو سقراط الذي رضِيَ بعقوبة الإعدام التي حُكمت عليه بتهمة إفساد عقول الشباب في أثينا خلال القرن الرابع قبل الميلاد. وقد رأى سقراط أن الفرار أو مقاومة الموت كان سيرسُخ مثالًا سلبيًا لأولئك الشباب المفترض أنهم «فاسدون». وعلى مدى القرون التالية، مع قيام الحضارات وسقوطها، نجد العديد من الفلاسفة والقديسين من جميع الملل والعقائد قد اِنقادَوا للموت لمعارضة الحكم الظالم- وفي بعض الظروف، أصبح الموت هو السبيل الوحيد لفعل المقاومة. فهل كان هذا الفعل مؤثرًا؟

إن ما قد يبدو في الغالب على أنه مجرد فعل يائس وعديم الجدوى يمكن أن يكون أحيانًا فعلًا نافعًا حاسمًا من الناحية السياسية. ولهذا السبب، فقد كثرت ظاهرة الانْقِيَاد للموت فقط منذ أيام بوليكاربوس. وقد أصبح فهم الطبيعة السياسية البعدية للموت، وخاصة من خلال الشَهَادَة، أكثر تعقيدًا وإلحاحًا في عالم تحكمه الدولة القمعية والاستعمار والتمرد ومكافحة التمرد. وفي حين أن الموت يؤدي حتمًا إلى التوقف المفاجئ لعمليات معينة، فإن السؤال إذن ما هي الاحتمالات الجديدة التي يمكن أن يفتحها الموت؟

يمكن فهم الاحتمالات السياسية للموت من خلال اللجوء إلى أمثلة حديثة نسبيًا للفلاسفة والنشطاء والماركسيين والمتمردين والجماعات شبه العسكرية والرهبان البوذيين الذين اِنقادَوا للموت لتحقيق أهدافهم السياسية السامية. ولكن هناك مسار أطول للفَوائِد السياسية للموت، وهو مسار يتطلب تَتَبُّع تاريخ التضحية في التقاليد الإبراهيمية. لقد لَجَأت اليهودية والمسيحية والإسلام إلى توظيف مبدأ الموت لتعزيز قضيتها وحشد أعضائها من أجل غايات سياسية سامية. ولا يمكن المبالغة في التأكيد على قدسية الشَهَادَة والشهداء في هذه الأديان. وعلى الرغم من أن هذه الأديان تركّز بشكل كبير على تحسين السلوكيات الأخلاقية اليومية لتجنب اللعنة والخطيئة المُمِيتة والخسران في الحياة الدنيا، إلا أن أنصار هذه الأديان الثلاثة ينظرون إلى الشَهَادَة على أنها وسيلة غير عادية لتحقيق احترام وتقدير الفرد من جانب المجتمع من ناحية، وتحقيق الخلاص السَماويّ للفرد من ناحية أخرى.

وقد بدأت إحدى مسارات الانعطاف أو التحول في هذه القضية بسيدنا إبراهيم. ففي سفر التكوين، يأمر اللهُ إبراهيمَ أن يُقدِّم ابنه إسحاق على المذبح أو إلى المحرقة كنوع من «ذبيحة المحرقة»: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ». (التكوين 22: 2)

إن هذا الأمر الإلهي دفع بإِبْرَاهِيم إلى أن يبني المذبح، ويضَع الحطب في المحرقة، ويُوثِقُ وَثَاقَ ابنه، ويستعدّ للتضحية به، لكن الله أَوْقَفه- بأن وضع الكبش (الْخَرُوفَ) في «المحرقة» لكي يفتدي به ابنه. ومن هنا يُظهِر ربط الابن والتضحية المحتملة به مركزية الموت المقدس في جميع الديانات الإبراهيمية.

خلال الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، حيث واجه اليهود اضطهادًا متزايدًا، أصبحت التضحية مبدأ أساسيًا في الحياة اليهودية وتقليدًا مركزيًا في الفكر الديني اليهودي. وقد ترسَّخت أهمية الشَهَادَة ودورها خلال فترات الاضطهاد الديني المختلفة التي عانى فيها المسيحيون من القمع والاضطهاد في الإمبراطورية البيزنطية حتى صدر مرسوم ميلان عام 313م وفيه أعطى للمسيحية حقوقًا مساوية لبقية الأديان من قبل الإمبراطور قسطنطين الأول. وإلى اليوم، يُنظر إلى اليهود الذين تم قتلهم لأسباب دينية على مر العصور على أنهم تقريبًا شهداء مثل الضحايا اليهود من جراء الحملة الصليبية الأولى (1096م). ومع ذلك، ليس من السهل دائمًا تحديد النطاق الشامل للشَهَادَة. فدورها قد تعقَّد بسبب الهولوكوست: وعلى سبيل المثال، هل يشكل موت اليهود على نطاق واسع في منتصف القرن العشرين أفعالًا للشَهَادَة؟ وفقًا لما تشير إليه الحاخام شيرا لاندر، فإن تطبيق مفهوم الشَهَادَة- بالنظر إلى طبيعة الحكم الإلهي السابق بخصوصها- على المحرقة غالبًا ما يعتبر تجديفًا. ومع ذلك، فإن العديد من حالات المقاومة الجماعية والفردية خلال الحرب العالمية الثانية، داخل معسكرات الاعتقال النازية أو الغيتوات اليهودية (أماكن العزل) في أوروبا، يُنظر إليها بلا شك من خلال منظور الشَهَادَة.

– يؤمن المسيحيون أن موت المسيح هو عمل فدائي في سبيل البشرية.

في الأزمنة المعاصرة، فإن التقليد اليهودي للشَهَادَة يظهر كثيرًا في أدبيات الحركة الصَهيونية والعقيدة المحركة لممارسات الجيش الإسرائيلي، الذي استخدم المصطلح بطريقة أكثر فعالية كذريعة لضم الأراضي الفلسطينية وانتهاك مبدأ السيادة الوطنية. وضمن صفوف الجيش الإسرائيلي، يؤدي الإيمان بالهيبة المرتبطة بالتضحية إلى استبدال الإسرائيليين مكاسب رمزية بالمكافآت المادية الزائلة. ولا شك أن تقليد الشَهَادَة يهيمن على مخيلة الجيش الإسرائيلي. وقد اعتبر ديفيد بن غوريون، مؤسس دولة إسرائيل، أن معرفة شهداء وأبطال الجيش الإسرائيلي يمثل شرطًا ضروريًا مسبقًا للالتحاق بصفوف الجيش الإسرائيلي. ومن هنا تعمل قوات الجيش الإسرائيلي في إطار ما يسميه عالم السياسة الإسرائيلي ياغيل ليفي (إطار ثيوقراطي للتضحية). لكن من المهم أن نلاحظ أن الصَهيونية والجيش الإسرائيلي لا يشملان وحدهما كل العقائد اللاهوتية اليهودية أو تطور مفهوم الكفاح  اليهودي المسلح وثقافته في الشَهَادَة.

تتوحَّد المسيحية أيضًا حول فكرة الموت المقدس: ومن هنا يعتقد المسيحيون أن ربط إسحاق ومحاولة التضحية به يبشِّر وُثْق بصلب يسوع، فالله يشرح ذبيحة المسيح عن طريق تقديم الابن المحبوب لإبراهيم أي إسحق ذبيحة ولكنه يعود حيًا. ومن هنا ينظر المسيحيون إلى موت المسيح على أنه عمل فدائي في سبيل البشرية، وتضحية كبرى نهائية للتكفير عن خطايا البشرية. وعلى الرغم من أن العديد من التقاليد الأكاديمية تنظر إلى الصلب على أنه فعل سلبي، إلا أنه وباعتباره يمثل ضحيةً وفداءً للبشرية، فإن الحقيقة البسيطة المتمثلة في استمرار صداه بعمق داخل المسيحية تجعله فعلًا غير سلبي. وفي العصر الرسولي، من حوالي 33 إلى 100 م- العقود الأولى للدين المسيحي- رسخّت هذه العقيدة لتعظيم فكرة الموت المقدس. ومن هذا الوقت، أصبحت فكرة مركزية للثقافة المسيحية المبكرة، لدرجة أن العديد من العلماء يُعرِّفون المسيحية على أنها ظهور «عبادة» الشَهَادَة. وقد ساهم موت القديس بوليكاربوس في تعزيز هذا التقليد.

كان يوسابيوس القيصري، أسقف قيصرية فلسطين، أحد أكثر المساهمين تأثيرًا في تمجيد عقيدة الشَهَادَة، وهو أسقف يوناني ومُحاور ومؤرخ أنتج العديد من الأعمال حول مبدأ الشَهَادَة المسيحية خلال القرن الرابع الميلادي. وتروي تفاصيل نصه عن شهداء فلسطين قصة الشَهَادَة في التاريخ المسيحي لمن تعرضوا للتعذيب والقتل والتنكيل. ويبدأ نصه الأول بهذه العبارة:

«شهداء الله القديسون، الذين أحبوا مخلصنا وربنا يسوع المسيح، الله الأسمى والمطلق على الجميع، سموا بأنفسهم وحياتهم، الذين دُفعوا إلى الصدام والكفاح بغية الدفاع عن دينهم، فحازوا على الشَهَادَة والمجد الأعلى، الذين فضلوا أن يموتوا ميتة فظيعة على الحياة الدنيوية الزائلة، وتسلحوا بسلاح الله وعشقوا الفضيلة ونصرة المظلوم، وقدّموا لله العلي والأسمى مجد انتصارهم الرائع، لأنهم انتصروا للحق والعدل من أجل أن ينالوا الجنة، واقتدوا بيسوع المسيح الذي أعطى لشهادتهم النصر، وقدّموا أيضًا المجد والكرامة والجلال للآب والابن والروح القدس».

كذلك يُنظر إلى المسيحيين الأوائل الذين تم اضطهادهم عن طريق الرومان على أنهم شهداء، بمن فيهم أولئك الذين وصفهم يوسابيوس، بؤرة تركيز مهم من جانب حجاج بيت المقدس، حيث كان المسيحيون يسافرون لرؤية بقايا أو مواقع دفن أولئك الذين «طلبوا الشهادة والمجد الأعلى فحازوا عليهما» بسبب عدم خوفهم من «فظاعة الطريقة التي يموتون بها». ومن زمن الحروب الصليبية حتى أواخر العصور الوسطى، تزايدت «عبادة» الشَهَادَة. وبحلول الوقت الذي كتب فيه اللاهوتي المسيحي توما الأكويني الخلاصة اللاهوتية في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وصف الشَهَادَة بأنها فعل إنساني «كامل»- وفي الواقع، هو فعل كامل بشكل لا يُضَاهَى، ورمز للفضيلة والثبات على الحق. لكن وفقًا للأكويني، فإن «المفهوم الكامل عن الشَهَادَة يتطلب أن يعاني الإنسان من مرارة الموت من أجل إرضاء يسوع المسيح».

وفي الإسلام أيضًا، أصبح الموت جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية مركزية. فكما في اليهودية والمسيحية، تم اللجوء إلى عقيدة الشَهَادَة في الإسلام لتعزيز سلطان الدين ونشره. وفي الواقع، لعب الموت المقدس دورًا رئيسيًا في السنوات الأولى للإسلام، بين 622 و 950 م، حيث أصبحت الشَهَادَة مسألة عسكرية. وكانت هذه السنوات الأولى حقبة من السياسات الخلافية والمعارك الشرسة، حيث كانت التضحية من أجل الله تمثل جوهر وأصالة الإيمان المطلق بالله. وهناك دلائل على أن القادة العسكريين انزعجوا من كثرة الشهداء الذين يضحون بأنفسهم وقلة المقاتلين الحذرين الذين أظهروا عزوفًا عن ظاهرة الموت المتكررة. ومن الأمثلة البارزة، وفقًا للمؤلف والمؤرخ والمستشرق الفرنسي ألفريد مورابيا Alfred Morabia (1931-1986)، المتطوعون الذين ضَحَّوا بأنفسهم طَوعًا خلال المواجهات الإسلامية ضد البيزنطيين، خاصة خلال القرنين السابع والثامن.

وفي القرآن، الذي يمثل النص التأسيسي للإسلام، تُعَدُّ الشَهَادَة مرتبطة أوثق الارتباط بالنضال من أجل الدين وتدعيم الإيمان، وهي عقيدة لا تزال موضع إجلال وتقديس كبيرين في الثقافة الإسلامية المعاصرة. وفي النضال من أجل الإيمان، فإن المسلمين ينظرون إلى الشهداء على أن لهم مكانةً رفيعةً وضمانة حقيقية في الحياة الآخرة المطمئنة. وتَشْهد على هذا آيات متعددة، وأكثرها تكرارًا من سورة البقرة وآل عمران، منها قوله تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (البقرة 169)، وقوله: «وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ» (البقرة 154).

وفي الاصطلاح الشرعي من المنظر الإسلامي، فإن الشهيد هو من مات من المسلمين في سبيل الله (أو العقيدة الدينية) دون غرض من الدنيا. ومع ذلك، ووفقًا لما يذكره محمود محمد أيوب، وهو أكاديمي لبناني وأستاذ مُؤَثِّر في الدراسات الدينية والأديان، فإن من مات من المسلمين وقد خرج مدفوعًا بدوافع ثانوية غير هذا الهدف السابق- بما في ذلك السعي في طلب التجارة أو المكسب المادي أو إظهار أخلاق الشجاعة أو الدفاع عن ثروته أو أسرته أو أرضه- لا تقل شَهَادَته عن درجة شَهَادَة الذي مات في سبيل الله خدمة للدين، طالما كان الإيمان هو دافعه الأساسي(*).

– المسلمون الذين قُتلوا في معارك طويلة ضد جيش الاحتلال الأمريكي يُنظر إليهم تقريبًا على أنهم في مكانة الأولياء والشهداء الأوائل.

عندما يموت المسلم يُغسل جسده ويُلفّ في كفن قبل دفنه. غير أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للشهداء المسلمين حيث يُوضعون في تابوت مفتوح بملابسهم التي ماتوا عليها. فوفقًا للتقاليد الإسلامية، فإن الشهيد قد تطهَّرَ بالفعل بموته- بنكرانه الذات والتضحية بحياته من أجل خدمة الدين ورفعته. كما ترتبط الطقوس الخاصة بإحياء ذكرى تضحيات الشهداء، خاصة لمن قُتلوا خلال السنوات الأولى لظهور الإسلام وبداية انتشاره. ومن بين هذه الطقوس والتقاليد أنه عندما يُستشهد المسلم، لا يحزن أفراد عائلته ومعارفه كثيرًا. وبدلًا من هذا، تجدهم يشكرون الله ويمتنون بالفضل والعرفان له. فوفقًا للقرآن، فإن الشهداء لم يموتون. وبالمعنى الزمني، فإن الأداء المستمر للطقوس والشعائر لإحياء ذكرى استشهادهم يبقيهم على قيد الحياة في الآخرة.

قد تتم هذه الطقوس المستمرة لإحياء ذكرى الشهداء في أماكن دفنهم، والتي غالبًا ما تكون بعيدة عن المقابر العادية. وفي المجتمعات الإسلامية، تحظى قبور الشهداء بمكانة تبجيلية أو تقديسية راسخة.

ففي عام 2002، زار الصحفي البريطاني المخضرم روبرت فيسك، الذي تخصص في تغطية شؤون الشرق الأوسط لأكثر من أربعة عقود، مقبرة الشهداء في قندهار بأفغانستان. وقد وصف الطريقة التي كان ينظر بها سكان المدينة إلى الشهداء المدفونين هناك- المسلمون الذين قُتلوا خلال معارك طويلة ضد الاحتلال الأمريكي- على أنهم في مكانة الأولياء والشهداء قائلًا:

«كان أعضاء حركة طالبان يتولون بعنايتهم أمر القبور بالمئات منهم. وفي أيام الجمعة، يجيئون بالآلاف، مسافرين مئات الأميال. وقد أحضروا مرضاهم وذويهم ممن أشرفوا على الموت. وكان يقولون في أحاديثهم بأن زيارة مقبرة أنصار بن لادن من الموتى ستشفي المرض والأوبئة. أما النساء العجائز فتجدهم كما لو كانت راكعات على قبور الأولياء والشهداء، يغسلن بلطف المقابر المشيدة من طبقات من ألواح الطين المخبوزة في الشمس فوق الجدران الأصلية، ويُقبِّلن الغبار الذي يغطيها، وينظرن في صلاتهن إلى الأعلام الطَوِيلة التي تُفَرْقع في العواصف الترابية».

وبحكم نشأتي وتربيتي في كشمير الخاضعة لإدارة الهند، وهي منطقة شَابتها عقود من الصراع والتمرد الشعبي وعمليات مكافحة التمرد الشرسة، فقد لاحظت أن فكرة الموت المقدس السياسي والديني ظلت سمة منتشرة وموجودة في الحياة اليومية في كل أرجاء المقاطعة. فأما أولئك الذين يُعتقد أنهم قُتلوا من أجل قضية حرية كشمير والإسلام، يحظون بالتبجيل الشعبي في الوسط الاجتماعي حيث تحظى عائلاتهم باحترام اجتماعي ومكانة كبيرة. وكانت العائلات قبل دفن جثامين موتاهم، تعرض الجثث علانية في مواكب جنائزية كبيرة. ثُم يقوم المشيعون بلمس أقدام الشهداء أو وجههم أو لحيتهم أو جُثمانهم، ثُم يعَانقون صدورهم أو وجوههم وكأنهم يحصلون على البركة والتقوى منهم. ثُم تُدفن الجثث في مقابر خاصة منتشرة في مُدُن وقرى كشمير. وأثناء هذه الجنازات المجيدة، يقوم أفراد العائلة بوضع صبغة الحناء على أيدي وأقدام ذويهم من الشهداء، ورَشّهم بالحلويات. ويتم ذلك تقليدًا للطقوس التي يتم إجراؤها بشكل عام خلال مراسم الزواج المُطَوَّلة في كشمير. أما الطقوس التي تلي الموت والدفن فهي مزيج من الاحتفال والحداد. فعائلات الضحايا والمشيعون يحتفلون لأن الموتى نالوا أعلى مستوى من الخلاص الروحي الذي يمكن أن يناله المسلم: إنه الجنة.

كذلك يُظهِر تاريخ الشَهَادَة في التقاليد الإبراهيمية الدور الاستراتيجي الذي لعبه الموت المقدس في تكوين هذه الأديان- وهي «استراتيجية» عَزّزت الأهداف الروحية والسياسية للأديان. ومن خلال هذه التقاليد، أصبح الموت مفهومًا حركيًا متنقّلًا ليس فقط على أنه فعل «كامل» في الوقت الحاضر، أو طريقة للعيش إلى الأبد، ولكن أيضًا وسيلة لمقاومة الاضطهاد وخلق مساحات للتغيير. لكن في كشمير، يحتل الموت المقدس سجلًا سياسيًا واضحًا. وغالبًا ما تتمحور السياسات المعارضة الوحيدة التي يمكن ممارستها في كشمير حول الموت.

– في الصور ومقاطع الفيديو يظهر المتمرد وهو يرفع بندقية ويوجه إصبع السبابة بيده اليمنى إلى السماء.

في حرم الجامعات والكليات في منطقة كشمير، حيث لا تزال النقابات والحملات والاتحادات الطلابية ممنوعة من حرية التعبير فعليًا، فإن الطلاب غالبًا ما كانوا يقومون بتنظيم صلاة الجنازة للأولئك الأشخاص الذين يعتقدون أنهم شهداء. ومع ذلك، فقد وضعت سلطات الدولة الآن حدًا لهذه المواكب الجنائزية برفضها إعادة جثث الكشميريين القتلى إلى عائلاتهم. وبدلًا من ذلك، يتم دفنهم سرًا في مناطق حدودية بعيدة. وقد اعتبر أحد كبار مسؤولي الشرطة في المنطقة أن ثقافة الاحتفال بالاستشهاد يُعَدُ انتصارًا استراتيجيًا لأن الاحتفال بالمواكب الجنائزية على نطاق واسع ساعد بشكل كبير على انتشار ثقافة التجنيد داخل صفوف المتمردين. إن مصادرة الجثث من قبل مسؤولي الدولة والوقوف ضد ثقافة الاستشهاد التي يستخدمها الكشميريون للتعبير عن المقاومة السياسية تكشف عن الموقف الحاسم للموت في سياسات الدولة في هذه المنطقة.

من هنا يظل مفهوم الموت جوهرًا نشطًا يلتئم حوله المتمردون. وفي نهاية المعارك العنيفة بين المتمردين والجيش الهندي، غالبًا ما يتم العثور على المجندين المتمردين القتلى وهم يحملون أسلحة منخفضة الدرجة للغاية أو لا يحملون أسلحة على الإطلاق. ويشير هذا إلى دافع بديل، يتجاوز المكاسب المادية، ويبدو أنه يقود المتمردين من كشمير ضد الهياكل العسكرية للدولة. ويصبح هذا الدافع أكثر وضوحًا في المواد البصرية التي أنشأها هؤلاء الشباب مباشرة بعد الانضمام إلى التمرد. ففي الصور ومقاطع الفيديو، شوهد المتمرد وهو يلوح بمسدس ويوجه إصبع السبابة بيده اليمنى إلى السماء، في إشارة واضحة إلى تَمَنّي «الشهادة» في سبيل الله الواحد الأحد. واللفظ العربي للشهادة، هو «الشهيد»، الذي جاء في القرآن لمرة واحدة بهذا المعنى(*)، والذي يشير حرفيًا إلى فعل الشهادة. ومن الناحية اللغوية، فإن هذا المعنى قريب من الكلمات الإنجليزية واليونانية والسريانية: Martyr و Martus و Sahda، على التوالي، والتي تشير جميعها إلى ممارسة الشهادة.

وفي الآونة الأخيرة، يقوم المتمردون وعائلاتهم أيضًا بتسجيل ما يُعرف باسم «المكالمات الأخيرة» أو «المكالمات النهائية». وفي هذه المحادثات الهاتفية، يتصل أحد المتمردين، الذي يخوض معركة بالأسلحة النارية مع الجيش الهندي ولا أمل له في الهروب حيًا، بأحد ذويه من أجل القيام بالوداع الأخير. وهذه المكالمات الهاتفية ذات الطابع الشخصي والانفعالي والحماسي بدرجة كبيرة، والتي يتم أحيانًا تسجيلها ثُم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، تكشف بشكل كبير عن حَرَكِيَّات التمرد في كشمير، وتلقي الضوء على الدوافع التي تحفز المسلمين للقتال على الرغم من المواجهات الساحقة والكاسِحة ضد مجموعات التمرد الواسِعة في الهند. وفي أثناء المكالمات، يتم تبادل كلمات من المجاملة والمُزَاح قبل أن يؤكد المتمردون الشباب على استشهادهم الوشيك من أجل الإسلام، ويَحُضّون الآخرين على المضي قدمًا في هذه «المهمة النبيلة»، وكل هذا كان تم بأسلوب تلطيفي للحث على التمرد المسلح ضد الدولة الهندية.

كذلك تظهر ممارسة الموت كسياسة في سياقات معاصرة أخرى، وعلى الأخص في فلسطين. ففي ديسمبر من عام 2022، حَزن الفلسطينيون على مقتل لاعب كرة القدم المحترف أحمد ضراغمة البالغ من العمر 23 عامًا، والذي استُشهد برصاص الجيش الاسرائيلي خلال غارة على مدينة نابلس في الضفة الغربية. وقد حضر جنازته المئات إن لم يكن الآلاف، وتحولت الجنازة إلى بُقعَة للاحتجاج على الاحتلال الاسرائيلي وانتهاكاته الصارخة. والأمر ذاته كان يتم سواء كان بعد مقتل أحد المدنيين الفلسطينيين أو أحد القادة المسلحين، حيث كانت المواكب الجنائزية تمثل دائمًا أماكن فعالة للفلسطينيين للتعبير عن المقاومة السياسية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وعلى هذا النحو فمن المصطلحات العربية المهمة في سياق التضحية بالنفس ونيل الشهادة للفلسطينيين هو مصطلح «الاستشهاد». وبحسب بسام يوسف إبراهيم بنات- عالم الاجتماع الفلسطيني ورئيس دائرة علم الاجتماع التطبيقي بكلية الآداب بجامعة القدس- فإن هذا المصطلح يشير إلى فعل أو ممارسة التضحية بالنفس من أجل قضية التحرير الفلسطيني. وقد كتب بسام بنات يقول:

«إن التضحية بالنفس من أجل الجماعة هو مصطلح يعبر عنه الفلسطينيون من خلال «الاستشهاد» أو «العمليات الاستشهادية» (الشهداء المنتحرين)، وهو مصطلح يحوي دلالات دينية وشعبية عميقة تُعطى للشخص المنتحر، الذي يتخذ مع سبق الإصرار والوعي الكامل قرارًا حاسمًا بالتضحية بحياته».

وفي السنوات الأخيرة، ركزت السلطات الإسرائيلية وبقوة على وضع حد لهذا التعبير عن الممارسات السياسية الفلسطينية من الانقياد إلى الموت. وغالبًا ما تُقابل جنازات أولئك الذين يُعتبرون شهداء بالعنف العسكري الوحشي الإسرائيلي، لكنها تظل مع هذا مجرَّمة دوليًا. وقد تجلى ذلك خلال تشييع جنازة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة التي قُتلت برصاص القوات الإسرائيلية في مايو 2022 خلال تغطيتها لاقتحام تغطيتها غارة عسكرية إسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة في مخيم جنين. وقد حذر الجيش الإسرائيلي شقيق شيرين أبو عاقلة من ترديد الشعارات ورفع الأعلام الفلسطينية في الجنازة، لكنه لم يستجب، فما كان من الجيش الإسرائيلي إلا أن هاجم المشيعين وحملة النعش.

– تم الإفراج عن جثة أحمد أبو شعبان بعد أربعة أشهر، وقد أمرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أسرة القتيل باستكمال طقوس الجنازة في حدود ساعة أو نحو ذلك بقليل.

في محاولة واضحة لوقف هذه الحشود حول الموت المقدس، تقوم السلطات الإسرائيلية أحيانًا بمصادرة جثث الفلسطينيين لاستخدامها كوسيلة للضغط على أهاليهم. وقد تُحتجز هذه الجثث لشهور في مستودعات تبريد ولا يُفرج عنها إلا بعد مفاوضات مطولة مع العائلات والسلطات الفلسطينية. وغالبًا ما تتوقف شروط الإفراج على كيفية تنظيم الأهالي وعائلات المتوفين للجنازات اللاحقة. كما تقوم السلطات الإسرائيلية بحَثّ الأهالي وعائلات المتوفين على دفن جثث موتاهم في منتصف الليل، مع الحد الأدنى من الأنوار. وبالنسبة لعالمة الاجتماع سهاد ظاهر- ناشف، فإن هذه «الإدارة الاستعمارية للموت» تُعَقِّد تجربة الحداد الفلسطينية وتحوِّلها إلى ظاهرة «تتخذ مسارًا لولبيًا» بدلًا من كونها ظاهرة «خطية متسلسلة» (أي يمكن مشاهدتها في أي مكان). ومن خلال مقابلة في عام 2016 مع والد الفلسطيني المقتول «باسل الأعرج» وهو ناشط بارز في الحملات ضد اسرائيل، وقد شاركته سهاد ظاهر- ناشف ألم الحرمان من تشييع جنازة ابنه، قال والد باسل:

«احتُجز ابني لمدة 75 يومًا؛ كل يوم نسمع شيئًا مختلفًا؛ لقد لعبوا بمشاعرنا. وفي اليوم الذي [قُتل] فيه ابني، قُتل اثنان آخران أيضًا. … لقد أصبح الموت جزءًا من حياتنا اليومية؛ أصبحنا 18 عائلة فقط في فلسطين؛ وقد أدى هذا إلى صرف انتباهي عن الصدمة التي تعرضتُ لها وشعرتُ بمرارتها وهي صدمة عانى منها المجتمع الفلسطيني بأسره. لقد بدأنا في ممارسة الضغط لاستعادة جثث أبنائنا. وبعد 45 يومًا من الانتظار لم يَعُدْ بإمكاني التحمل. لم يكن باستطاعتي عمل أي شيء. وفي يوم من أيام الخميس تلقينا نبأ إطلاق سراحهم في اليوم التالي، الجمعة. وقد اختاروا ذلك اليوم لأنه كان من المتوقع هبوب عاصفة ثلجية. اختاروه هذه اليوم خصيصًا لمنعنا من إقامة جنازة تليق به».

إن الخبرة المؤلمة التي مرّ بها والد باسل ليست خبرة نادِرة الحدوث بالنسبة للفلسطينيين. فهذه سماح جبر، وهي طبيبة نفسية وكاتبة فلسطينية، تكتب عن المفاوضات الطويلة والمرهقة بين السلطات الإسرائيلية وعائلة أحمد أبو شعبان، الشاب الفلسطيني الذي قُتل قبيل زفافه في أغسطس 2015. ومن ضمن ما كتبته أنه تم الإفراج عن جثمانه بعد أربعة أشهر، وقد أمرت سلطات الاحتلال أسرة القتيل باستكمال طقوس الجنازة في حدود ساعة أو نحو ذلك بقليل. إن هذه الحملة المطولة ضد الحداد في فلسطين تكشف مرة أخرى مدى خطورة الموت للتعبير السياسي في فلسطين.

والسؤال الآن: كيف يجب أن نتعامل مع خطورة هذه الحَرَكِيَّات المشحونة للموت والسلطة والسياسة؟ بالنسبة لـ”أشيل مبيمبي”، ‏المفكر الكاميروني والمنظر النقدي، فإن مظاهر القوة والسيادة هي شكل من أشكال «سياسات الموت(*)» Necropolitics. ويشير مبيمبي من خلال هذا المصطلح إلى أن السلطة في المجتمعات المعاصرة مثَّلت شرطًا من شروط ممارسة الموت والحياة: أعني الحكم على البعض بالموت، والحكم على البعض الآخر بعدم الموت، والحكم على البعض الثالث بإطالة أمد حياتهم. ويوضح مبيمبي أن السلطة في كثير من المجتمعات المعاصرة أدت إلى خلق «عوالم الموت» التي يسكنها «أحياء ميتون». وهنا يصبح الموت والسياسة أمرين متشابكين ومعقدين بطرق معقدة. وفي محاولته لوضع تصور لتَحطِيم هذا الشكل من سياسات الموت، يستخدم مبيمبي شخصية ذلك الانتحاري الفلسطيني الذي يبادر بالتضحية بذاته. كما يقدم التاريخ الطويل للاستشهاد في التقاليد الإبراهيمية أو كشمير أمثلة أخرى على ذلك.

لكن يبقى السؤال: ما هي الغاية السياسية النفعية، إن وجدت، التي يقوم بها اتخاذ القرار بالموت، لاسيما في سياقات الحكم غير الشعبي، والتمرد المسلح، والموت السيادي في ظل هيمنة سياسات الموت السيادية؟ يقدِّم لنا الفيلسوف الألماني ج. ف. ف. هيجل إجابة وحيدة مهمة عن هذا السؤال، حيث يصف هيجل المواجهات الطوعية مع الموت على أنها غير عدمية، ويلاحظ أن هذه الأفعال تشكل عنصرًا أساسيًا في تكوين الذات. وبعبارة أخرى إن مواجهة الموت والانقياد له، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، يؤدي حتمًا إلى تغيير الخبرة الذاتية للأَحياء أو الذين تخلفوا عن الركب. غير أن تيري إيجلتون، المُنظِّر الأدبي والناقد الماركسي والمفكر العام، يقدِّم لنا إجابة أخرى. ففي أطروحته عن الشَهَادَة بعنوان، «التضحية الراديكالية» (Radical Sacrifice) (2020)، يكشف إيجلتون عن الطرق التي يمكن من خلالها لاتخاذ القرار الطوعي بالموت التغلب على «الإكراهات والضغوط الوسواسية» لحركة الموت الفرويدية وتحويل ما يبدو أنه ضرورة إلى ممارسة الحرية. وعندما تتحرك الحياة اليومية بشكل واسع في أجواء من الأشكال القمعية من الموت القسري، فهل يمكن للموت نفسه أن يتم الاستئثار به وتحويله إلى عمل من أعمال المقاومة والحرية؟

– الموت هو الشكل المفضل للتعبير السياسي للأشخاص المُضطَهَدين بظروف تمتد عبر الزمن.

ليس إيجلتون هو الشخص الوحيد الذي ينظر إلى الموت على أنه فعل للحرية. ففي كتابها بعنوان «جوّع وضحّي: سياسة الأسلحة البشرية» (Starve and Immolate: The Politics of Human Weapons) (2014)، تواصل المُنظِّرة السياسية بنو بارجو Banu Bargu هذا المسار من خلال تقديم بديل لسياسات الموت السيادية، وتعني به «مقاومة الموت(*)» Necroresistance. واللافت في كتاب بارجو هو الطريقة التي يتداخل بها هذا الشكل من المقاومة مع الاستشهاد الإبراهيمي. ومن خلال مثال المنشقين السجناء والسياسيين اليساريين والماركسيين المحتجزين في سجون الاعتقال وأنظمة الأرخبيل في تركيا، استطاعت بارجو أن تكشف كيف يمكن لحالات الموت المتكررة والطقوس والخطابات المصاحبة للموت أن تتخذ طابعًا دينيًا حتى بين من يُفترض أنهم لا دينيين. وهذا ليس أمرًا اعتباطيًا. فقد وصفت بارجو اللاهوت كشرط مسبق ضروري لمقاومة الموت، وأكدت أنه يؤدي إلى إنتاج نوع جديد من الماركسية للكادر الشيوعي في تركيا حاليًا، وهي تسميه: «الماركسية التي تستند إلى تقديم القرابين والذبائح» Sacrificial Marxism، والذي يلجأ أنصاره إلى فعل الشَهَادَة بشكل منظم باعتباره «قيمة أخلاقية سياسية كبرى»، وبالتالي يجلعون من الموت وسيلة «للازدهار الأيديولوجي والثقافي» في بلدانهم. ومن هنا يمكن أن تصبح المقاومة، عند النظر إليها على أنها معارضة لسياسات الموت، قوة مؤثرة في التعبير السياسي الشعبي.

وأخيرًا، متى يكون هذا التعبير مناسبًا؟ بالنسبة لفرانتز فانون، الفيلسوف العظيم والمناضل الثابت ضد الاستعمار، فإن الموت هو الشكل المفضل للتعبير السياسي عندما يتعرض الناس للقهر بسبب الظروف التي يبدو أنها تمتد عبر الزمن- وهذا الأمر يمثل «شبكة شاملة من العنف ثلاثي الأبعاد». وقد يشمل إنهاء ما يبدو أنه نظام أبدي وزمني لا نهاية له، بأي وسيلة ضرورية، وأقرب وسيلة محتملة لهذا هي الموت.

ومن هنا لا يمكن اعتبار هذا الشكل من أشكال الموت مجرد سلوك يائس وعديم الجدوى. وبالنسبة للمُنظِّرة السياسية بنو بارجو، فإن هذا الأمر ليس خاصًا بفانون وحده، بل يمتد إلى متمردي قندهار، وبوليكاربوس، وأولئك الذين أصبح استشهادهم تعبيرًا عن سياسات معارضة، فبالنسبة لهم، ولغيرهم، قد لا يكون الموت منطقيًا فحسب، بل قد يكون قوة إلهاميّة كاشفة أيضًا.

 (*) العنوان الأصلي للمقال: Wielding Death، ونُشر في موقع Aeon، في 24 فبراير 2023. على الرابط الآتي:

https://aeon.co/essays/can-a-martyrs-death-be-an-act-of-true-resistance-and-freedom

وتجدر الإشارة إلى أن هذا المصدر الذي نُشر فيه المقال يُعَدُّ من المصادر العلمية والأكاديمية المعتمدة، وهو موقع متخصص في دراسة المشكلات والقضايا الفكرية والأخلاقية والفلسفية والسياسية، علاوة على أن هذا الموقع مفتوح المصدر حيث يُتيح ترجمة المقالات المنشورة فيه من دون أية حقوق نشر يُطالب بها.

 (*) عمر لطيف مِسجر Umar Lateef Misgar: كاتب صحفي مستقل يغطي موضوعات وأحداث السياسة وحقوق الإنسان في كشمير. وهو باحث دراسات عليا ومحاضر زائر في جامعة وستمنستر في لندن ، المملكة المتحدة.

 (*) د. حمدي عبد الحميد الشريف: دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية المصرية في مجال العلوم الاجتماعية لعام 2023، ومن بين كتبه: (الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، 2016)، (فلسفة الكذب والخداع السياسي، 2019)، (مفهوم العدالة في فلسفة مايكل وولتـزر السياسية، 2020)، (الرمزية السياسية: مفهوم الرمز ووظيفته في الفكر السياسي، 2023)، وأخرى غيرها، ولديه العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجلات محكمة، إضافة إلى عديد من المقالات الفلسفية، وعدد من الترجمات. وهو عضو محكِّم في عديد من المجلات والدوريات العلمية والعربية، وعضو خبير في لجنة (فحص المشروعات والجوائز ومكافأة النشر العلمي) في جامعة سوهاج.

 (*) وذلك مصداقًا لقول النبي (ص): «مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ. ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ. ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ». (المترجم).

 (*) وهو قوله تعالى: «وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا». [النساء: 72] وهو قول منسوب للمبطلين ساقه الله تعالى في القرآن للبلاغ، وكان وعد الله تعالى لمن يقتل في سبيله (يستشهد) مغفرة ورحمة كاملة لا ثواب بعدها إلا الجنة، حيث قال تعالى: «وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ». [آل عمران: 157] وأما ما ورد باللفظ «شهيد» من غير ذلك فلا علاقة له بهذا المعنى. (المترجم).

 (*) «السياسات المَقْبورة» Necropolitics أو سياسات الموت: هو مفهوم صَكَّه المفكر وعالم السياسة أشيل مبيمبي كعنوان لأحد كتبه التي نُشرت عام 2019، ويشير من خلاله إلى سلطة الحياة والموت ممثلة في السلطة السياسية والاجتماعية التي يحكم أصحابها على بعض الناس بالحياة والبعض الآخر بالموت. (المترجم).

 (*) «مقاومة الموت» Necroresistance: تمثل شكلًا من أشكال الرفض ضد الهيمنة الفردية والشاملة في آن واحد، والتي تعمل من خلال انتزاع سلطة الحياة والموت بعيدًا عن أجهزة الدولة الحديثة. (المترجم).

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى