الحركات الإسلامية والاستقرار السياسي…المعادلة المتشابكة
اعداد : سليمان بشارات – مدير مركز يبوس للاستشارات والدراسات الإستراتيجية، باحث في دراسات الشرق الأوسط، الجامعة العربية الأمريكية فلسطين.
- المركز الديمقراطي العربي
ساهم الحراك الشعبي في العديد من الدول العربية، أو ما أطلق عليه بـ”الربيع العربي”، في انخراط العديد من الحركات الإسلامية بالنظم السياسية بشكل نسبي؛ منها ما استطاع الحفاظ على هذا الوجود، ومنها ما أُبعد عنه بعد سلسلة من التضييق المرتبط بالضغط الدولي الخارجي، أو الدوافع الداخلية لجماعات المصالح في تلك الدول حفاظًا على مصالحها السياسية.
فهذه التجربة، وما سبقها منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن لبروز الحركات الإسلامية، يعيد معه طرح العديد من المحاور التي تحاول هذه المقالة التعرف إليها من خلال فكفكة المعادلة المتشابكة ابتداء من التباين في التعريف المفاهيمي للحركات الإسلامية المعاصرة، مرورًا بالتعرف على خصائصها وأسباب صعودها في منطقة الشرق الأوسط، وصولًا إلى مدى ارتباطها بالاستقرار السياسي بالمنطقة العربية في ظل وجود العديد من المحددات.
أولًا: التعريف المفاهيمي
في النصف الثاني من القرن العشرين ظهرت العديد من الحركات الاحتجاجية الاجتماعية ضمن محاولات التحرر من الاستعمار والسيطرة الإمبريالية، ما شكلت فرصة للحركات الدينية الاندماج بهذه الحراكات للوصول إلى الاستقلال والتحرر الوطني وتتشكل معها ما بات يعرف بـ”الحركات الإسلامية”، أو النواة الأولى لشكل الحركات الإسلامية التي باتت تركز على مفاهيم التنمية ومحاربة الفقر وإقامة المشاريع الخدماتية المساهمة في تعزيز حضورها الشعبي والجماهيري.
ووفقا لمرحلة التشكل وظروفها، يرى الدكتور يوسف القرضاوي، أن الحركة الإسلامية يمكن تعريفها بالعمل الشعبي المنظم للعودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع”، فيما يعرفها محمد فتحي عثمان بأنها “الحركة أو الحراكات التي ظهرت بعد الربع الأول من القرن العشرين حيث عملت هذه الحركات على تحريك الجماهير مع التركيز بشكل أكبر على التربية الروحية والفكرية للأفراد من خلال تقديم الاسلام كنظام شامل للحياة”.
أما عبد المنعم حنفي فينطلق في تعريفه باعتبارها “مصطلح حديث لجماعة تعمل بنشاط مستمر لتغيير النظام العلماني إلى النظام الديني الإسلامي وطبع ذلك في المجتمعات الإسلامية”، فيما يرى راشد الغنوشي الحركة الإسلامية بأنها مشروع فكري مجتمعي ينطلق من قاعدة التوحيد، ولهذا السبب تختلف الحركات الإسلامية بأدواتها ولكنها تتفق في القاعدة التي تنطلق منها جميعا.
في حين يعرفها حيدر إبراهيم على أنها “التنظيمات المنتسبة إلى الإسلام والتي تنشط في ميدان العمل الإسلامي وتسعى لتحقيق نهضة شاملة للشعوب إما بشكل منفرد أو بشكل جمعي”. ويرى بشير عبد العال، أن هذه الحركات تستمد أصولها الفكرية من الشريعة الإسلامية وأن الغاية لها تحقيق الدين كله في واقع الحياة، لذلك تتبنى خطابًا واسعًا وشموليًا يحاكي مجالات الحياة المتعددة. أما عبد العاطي محمد أحمد، فيعتبرها بمثابة “محركات اجتماعية وسياسية في المجتمع تتأثر أهدافها وخصائصها واستراتيجياتها بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة شأنها باقي القوى السياسية”.
إن قراءة عميقة للتعريفات السابقة وأي تعريفات أخرى قد يخرج بها المفكرون والباحثون، ترتكز في محددين أساسيين: الأول؛ تبني هذه الحركات للفكر المبني على البعد الديني والذي ينطلق من الرؤية الشرعية للدين الإسلامي لكافة مناحي الحياة، وهنا تتمايز الحركات الإسلامية فيما بينها بهذا الجانب من خلال اجتهادات التفسير أو أدوات وأشكال التطبيق لبرامجها؛ فمنها ما يخرج ضمن إطار وسطي، وآخر متشدد. أما المحدد الثاني فيرتبط بالبعد المجتمعي؛ إذ تركز هذه الحركات على المد الجماهيري الشعبي من خلال تبني القضايا التي تمسه، سواء أتلك المتعلقة بتحقيق مفاهيم التنمية أو توفير البعد الخدماتي في قطاعات الصحة والتعليم والتكافل الأسري.
وعلى الرغم من محاولة الربط ما بين البنى المجتمعية لفكر الحركات الإسلامية والقضايا الشعبية، إلا أنها لم تتصل هذه التعريفات إلى المحدد الثالث الذي يمكن إضافته في التعريف لهذه الحركات والمتمثل في مواجهة المشاريع الاستعمارية بالمنطقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، إذ شكل حضور الاستعمار مساحة مهمة في تعزيز أو بروز هذه الحركات بعد أن اقتصرت في بدايات النضال على القوى اليسارية والعلمانية ومن النماذج على ذلك حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وطالبان في أفغانستان.
ثانيًا: خصائص الحركات الإسلامية
تتسم الحركات الإسلامية بمجموعة من الخصائص؛ منها ما هو مرتبط ببنيتها، وأخرى يرتبط بالممارسة. ففي الشق الأول تتميز الحركات الإسلامية بالبناء الفكري، إذ تتبنى كل حركة إسلامية منهجا فكريا يمثل مرجعيتها وينعكس على رؤيتها وبرامجها وعليه تبني مواقفها سواء القضايا المجتمعية أو المشاركة السياسية، وبذات الوقت تجعلها أكثر تمايزًا عن باقي الحركات الإسلامية، ويتخذ البناء الفكري الطابع الأيديولوجي لينعكس ذلك على منتسبيها في سلوكهم أو تطبيقهم للممارسات على الأرض.
أما الشق الثاني فيتمثل في البناء التنظيمي لهذه الحركات والذي يقوم على هرمية البناء بأشكال أيضًا تختلف ما بين حركة وأخرى، إلا أن ما يجمعها هو الانضباط التام والحديدي بهذه البنية باعتبار ذلك امتدادًا للبعد الفكري الديني الذي يجبر أبناء الحركة على الالتزام بالهيكل وعدم تخطيه وهو ما يستند إلى مبدأ السمع والطاعة وعدم الخروج عن مفهوم “ولاية الفقيه”. إضافة إلى ذلك تتمتع غالبية الحركات الإسلامية بسرية البناء التنظيمي سعيًا لحماية ذاتها نتاج الاستهداف باعتبارها حركات معارضة للنظم السياسية، أو تنخرط ضمن مشروع مقاومة الاستعمار.
فيما تتمثل الخصائص المرتبطة بالممارسة في مجموعة خصائص في مقدمتها، تبني هدف التغيير الاجتماعي؛ إذ يعد هذا القاسم المشترك التي تتسم به الحركات الإسلامية من منطلق رفضها للواقع القائم لتحقيق المبدأ الأساس الذي تعمل من أجله وهو إقامة نظام يقوم على المرجعية الإسلامية الدينية لتشمل كافة مناحي الحياة. أما الخاصية الثانية في هذا المحور فتتمثل في خاصية الانتشار التقائي؛ وهي واحدة من السمات التي تمنح الحركات الإسلامية في الوصول لقاعدة شعبية عريضة داخل المجتمعات، وما يسهل ذلك ارتباطها بالبعد الديني من جانب، والجانب الآخر مسعاها للتغير الاجتماعي.
يتصل بهذه الخاصية سمة ثانية تتمثل في الاستمرارية؛ إذ أن الحركات الإسلامية قادرة على الاستمرارية والتطور كونها مرتبطة بالبعد والثقافة الاسلامية والدينية إضافة للبعد المجتمعي، وهو ما يسهل عليها الحفاظ على ذاتها وإن ضعفت في الحضور خلال فترة زمانية من السهل إعادة الزخم والاستحضار في فترات لاحقه.
الخاصية الرابعة في هذا الإطار تتمثل في تبنيها الطابع الرفضوي للأوضاع القائمة، حيث تستند الحركات الإسلامية بهذا الخاصية كأحد مبرراتها الوجودية في ظل النظم السياسية المسيطرة على الواقع السياسي والاجتماعي، ما يعزز لدى هذه الحركات الدفع باتجاه التغيير ورفض هذا الواقع إما من خلال الانخراط والمشاركة بالحالة المؤسسية والتغير بأدوات مختلفة إن كانت متاحة، أو من خلال بوابة المواجهة التي قد تصل لها في حال استخدمت النظم حالة القمع.
ثالثًا: أسباب قيامها
تلعب العديد من الظروف والعوامل والتغيرات دورًا في بروز حراكات سياسية واجتماعية أو غيابها، وهذا الحال ينطبق على الحركات الإسلامية التي يمكن أن يفهم قيامها ضمن مجموعة من الأسباب والعوامل في مقدمتها سقوط الخلافة العثمانية؛ إذ أن فقدان المرجعية التي كانت تشكلها الدولة العثمانية للمسلمين في العالم نتج عنه ظهور وبروز العديد من الحركات الإسلامية في محاولة لسد الفراغ من جانب، وتلبية لاحتياجات وتطورات الواقع الاجتماعي والسياسي من جانب آخر. وكرد على إعلان أتاتورك إقامة دولة علمانية حديثة تلغي الدولة الإسلامية سارع بعض المثقفين والفقهاء لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر بزعامة حسن البنا.
في حين شكلت القضية الفلسطينية بعدًا مهمًا وجوهريًا ضمن الأسباب المحفزة لظهور الحركات الإسلامية المعاصرة، حيث برز ذلك من خلال أمرين؛ الأول الفشل الذي منيت به الأنظمة العربية في قدرتها على تحرير فلسطين واسترجاع القدس، وقبولها فيما بعد بالكيان الإسرائيلي من خلال توقيع اتفاقيات ومعاهدات السلام كما حدث في كامب ديفيد وما تبعها من اتفاقيات. أما البعد الثاني فهو المتمثل في الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية عقب حرب67، هذين البعدين كانا بمثابة محفز لظهور الحركات الإسلامية التي تنطلق من البعد الديني العقائدي في مواجهة الاحتلال وتحرير الأراضي الفلسطينية.
وكان للثورة الإيرانية دورًا محفزًا للحركات الإسلامية، وإن لم يكن ذلك بشكل مباشر نتاج اختلاف المنهج الديني ما بين النهج الشيعي والسني، إلا أن الثورة الإيرانية تعتبر ملهمة لنجاحها في تعزيز الحركات الاجتماعية التي ظهرت كنتيجة للواقع الذي تعاني منه الشعوب العربية.
أما العامل الآخر، فيتمثل في انتصار حركة المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وكان للجهاد الأفغاني دور بارز في تعزيز فكر التيار الجهادي للحركات الإسلامية ومحفزا لها من خلال الامتداد الفكري، وكذلك التجربة على الأرض، ومنح العناصر المشاركة فيه من الأقطار العربية لتشكيل نواة لكثير من التيارات والحركات الإسلامية التي اتخذ بعضها الطابع العسكري الجهادي.
رابعًا: الصعود السياسي
شهدت الفترة ما بعد العام 2000 حالة من الصعود السياسي للحركات الإسلامية في عدد من الدول العربية، وكان في مقدمة ذلك حركتي الإخوان المسلمين في مصر التي فازت بـ17 مقعدا في البرلمان المصري في الدورة البرلمانية (2000-2005) مقارنة بمقعد واحد فقط في الدورة البرلمانية (1995-2000)، فيما شكلت نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثانية 2006 قفزة نوعية للحركات الإسلامية بعد أن فازت حركة حماس بـ76 مقعدًا من أصل 132 مقعدًا هي المجموع الكلي لأعضاء المجلس التشريعي.
ويمكن فهم حالة الصعود السياسي للحركات الإسلامية المعاصرة من خلال مجموعة عوامل داخلية وخارجية وأخرى نابعة من البيئة الإقليمية. حيث ترتبط العوامل الداخلية بقدرة الحركات الإسلامية على تقديم نموذج ناجح للمشاركة السياسية من خلال منافسة الأحزاب المعارضة كما هو الحال في مصر وتونس والمغرب وفلسطين، في ظل تراجع القوى المعارضة صاحبة الامتدادات الفكرية الأخرى وانحسار القوى العلمانية واليسارية.
أما العوامل الخارجية التي هيأت وساعدت على الصعود السياسي للحركات الإسلامية كان في مقدمتها أحداث11أيلول/سبتمبر2001، حيث شكلت نقطة تحد ما بين محاولة وصف الحركات الإسلامية بطابع الإرهاب وما بين إثبات وجود هذه الحركات أمام محاولات الاجتثاث تحت مسعى نشر قيم الديمقراطية في العالم العربي وهو المصطلح الذي حاولت الولايات المتحدة أن تقدمه تبريرًا لتدخلاتها بالمنطقة، فكان لهذه التجربة انعكاسه في تعزيز الحضور للحركات الإسلامية من باب رفض التدخل الخارجي من جانب، والثاني قيام العديد من التيارات الإسلامية بعمل مراجعات فكرية لها عززت من تبنيها للخطاب المعتدل.
في حين شكلت العوامل النابعة من البيئة الإقليمية العامل الثالث للصعود السياسي للحركات الإسلامية، ويتمثل ذلك في فشل الخيارات والأطروحات التي تبنتها النظم الرسمية العربية في مواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة، إضافة إلى الرفض الأمريكي الغربي لنتائج الانتخابات التشريعية وصعود حركة حماس لسدة الحكم بفلسطين وفرض الحصار على قطاع غزة، فهذه التناقضية ما بين المباديء التي تنادي بها الدول الإقليمية والدولية تختلف في تطبيقها تجاه ما يتعرض له الفلسطينيون من اعتداءات وعدم تقبل نتائج الانتخابات الديمقراطية، أضف إلى ذلك الحرب الإسرائيلية على لبنان والتي عززت من حضور حزب الله اللبناني كحزب مقاوم وأيضا فتحت الباب أمامه للانخراط بالعمل السياسي ليحظى بغالبية برلمانية.
خامسًا: معادلة الاستقرار السياسي
بمجرد مناقشة الاستقرار السياسي في المنطقة العربية تقفز دومًا معادلة المشاركة السياسية للحركات الإسلامية والقدرة على تحقيق الاستقرار؛ وهو ما يتطلب دوما تفكيك المعادلة المتشابكة ما بين إمكانية القبول للحركات الإسلامية بالانخراط السلس بالعمل السياسي في ظل بنى نخبوية حاكمة، وأحزاب وتيارات اعتادت أن تبقى على قمة الهرم السياسي. في المقابل لا تخفي الحركات الإسلامية نيتها من الوصول للسلطة تحت عناوين عديدة من بينها محاربة الفساد، وإزاحة الديكتاتورية والقوى ذات الارتباطات الخارجية.
هذه المعادلة تجعل تشابكية الحالة السياسية هي المسيطرة على العلاقة ما بين الحركات الاسلامية والنظم السياسية، وبالتالي الإبقاء على حالة الحذر من كل طرف فيها بمنح الطرف الآخر الشرعية الكاملة لاستكمال رؤيته السياسية، الأمر الذي يجعل من معادلة الاستقرار السياسي في الحالة العربية غير مكتملة، ويؤكد ذلك مجموعة من التجارب كما حدث بتجربة حركة حماس في فلسطين، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وما يحدث الآن مع حركة النهضة في تونس.
في الختام يمكن القول، إن تجربة الحركات الإسلامية المعاصرة في العمل السياسي لا تزال غير مكتملة المراحل؛ إذ أن هناك إشكالية ما زالت قائمة يتمثل طرفها بالحركات الإسلامية نفسها التي تحتاج لمراجعة في رؤيتها تجاه مفاهيم العمل السياسي وكسر العديد من حواجز وهواجس الخوف تجاه وجودها في النظام السياسي. أما الطرف الثاني فهي النخب الحاكمة والنظم السياسية التي تعتقد أن في دكتاتوريتها يمكن أن تبقى متحكمة في مفاصل الحياة، بينما لا تدرك أن هذه السيطرة يمكن أن تغذي لحظة الثورة أو الخروج المفاجيء وتطيح بها كما هو الحال في تجربة ثورات الربيع العربي. بالتالي يمكن الاستعاضة عن هذه المعادلة من خلال التوصل لقناعة قوة حضور القوى والحركات الإسلامية وتناغمها مع النخب السياسية والنظام السياسي لصبحا مكملين لبعضهما البعض في مواجهة أي تدخلات أو تحديات خارجية.