تايوان بين بكين وطوكيو : رهانات النفوذ وحدود التدخل الأميركي

بقلم : د. محمد حسين سبيتي_ باحث في الشؤون الشرق آسيوية
- المركز الديمقراطي العربي
إن التوترات الأخيرة بين الصين واليابان حول تايوان تتخطّى كونها خلافًا حول تفسير وثائق تاريخية أو نزاعًا حدوديًا تقليديًا، بل يمكن القول أنها تمثل تجسيدًا لانتقال النظام الدولي إلى مرحلة جديدة تتسم بإعادة ترتيب إستراتيجي عميق في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. التوترات التي اندلعت عقب تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايشي الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2025، والتي وصفت فيها أي حصار بحري صيني لتايوان بأنه “حالة تهدّد بقاء اليابان”، لا يمكن فصلها عن الحسابات الجيوبوليتيكية الدقيقة التي تقودها الولايات المتحدة باعتبار أن اليابان تدور في الفلك الأميركي منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. هذه الحسابات تهدف إلى خلق “منطقة عازلة من التوترات” حول الصين، وهو نهج إستراتيجي يشبه إلى حد كبير ما اتبعته واشنطن في مواجهة موسكو عبر الأزمة الأوكرانية. هذا السياق المعقّد يدفعنا إلى تحليل الأدوار المتبادلة للقوى الثلاث في هذه الرقعة الإستراتيجية.
أولًا: جوهر الخلاف القانوني ودور التحالفات التبعية
إن فهم الديناميكية الحالية يتطلب الإحالة إلى المفاهيم النظرية في العلاقات الدولية. فـ “التحالفات التبعية” (Client State Alliances)، وهو مفهوم متطور عن نظريات الواقعية الكلاسيكية، يفسر بعمق الدور الياباني. على الرغم من القوّة الاقتصادية الهائلة التي تمتلكها اليابان، تظل طوكيو دولة تابعة إستراتيجيًا لواشنطن في جوهرها، حيث تتلقى إملاءات أمنية محدّدة وتنفذ أجندة إقليمية تهدف بالدرجة الأولى إلى خدمة مصالح “اللاعب الرئيسي”. هذا التبعية الإستراتيجية هي ما يفسر التباين الواضح بين الخطاب العسكري الياباني المتصاعد والقيود الدستورية المفروضة على قوتها، وبالتحديد المادّة التاسعة من الدستور التي تنبذ الحرب. وهكذا، تضطلع اليابان بدور “الوكيل” الذي تتزايد مهامه في احتواء النفوذ الصيني، معتمدةً على الدعم والضمانات الأميركية.
في هذا الإطار، يتمحور الخلاف القانوني الجوهري حول وضع تايوان بين موقفين متعارضين:
1. الموقف الصيني (الشرعية التاريخية): يستند الرد الصيني على التصعيد الياباني إلى نظرية “الشرعية التاريخية”، التي تؤكد أن السيادة على تايوان حُسمت قانونيًا بانتهاء الحرب العالمية الثانية. تستند بكين إلى سلسلة قانونية متكاملة تثبت حقها في تايوان، وهي: إعلان القاهرة (1943) الذي نص على إعادة تايوان إلى الصين، وإعلان بوتسدام (1945) الذي أكد ذلك، ثمّ وثيقة الاستسلام الياباني (1945) التي ألزمت اليابان بالوفاء بهذه التعهدات. من هذا المنطلق، فإن أي تصريح يخالف هذه السلسلة القانونية يعتبر في نظر بكين تحدّيًا للنظام الدولي برمته.
2. الموقف الياباني (الغموض القانوني): يتمحور الموقف الياباني حول نظرية “الوضع غير المحدّد لتايوان”، مستندًا إلى معاهدة سان فرانسيسكو لعام 1951. وتعتبر بكين هذه المعاهدة، التي أُبرمت منفردة دون إشراك الصين، غير قانونية وباطلة. وقد أثير الجدل مؤخرًا حول مفهوم “الوضع غير المحدّد لتايوان” (Undetermined Status of Taiwan)، بعد تصريح رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايشي، الذي زعمت فيه أن اليابان تخلت عن جميع حقوقها المتعلقة بتايوان بموجب “معاهدة سان فرانسيسكو للسلام” ولكنها لا تملك موقفًا لتحديد وضعها القانوني. هذا التصريح يعتمد على الحجة القائلة بأن السيادة على تايوان لم تُحسم بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما ترفضه بكين بشدة وتعتبره تشويهًا للتاريخ وتحديًا للنظام الدولي، ويهدف في جوهره إلى توفير غطاء قانوني لليابان للتدخل في أي طارئ مستقبلي يخص مضيق تايوان.
ومع ذلك، فإن بيان شنغهاي المشترك عام 1972 بين الصين واليابان يظل اتفاقًا رئيسيًا يؤكد اعتراف اليابان بحكومة بكين كالحكومة الشرعية الوحيدة وتفهمها لموقف الصين بأن تايوان جزء لا يتجزأ منها. ورغم ذلك، تصر اليابان على استغلال الغموض لخلق مبرر لتدخلها المستقبلي.
ثانيًا: الأبعاد الإستراتيجية والردع المزدوج
يستمد النزاع الصيني – الياباني أهميته الإستراتيجية من كونه أداة رئيسية في الصراع الجيوبوليتيكي بين واشنطن وبكين. إذ تسعى الولايات المتحدة إلى ترسيخ نظام ردع مزدوج يوازن بين احتواء القوة العسكرية الصينية من جهة، وضمان اصطفاف الحلفاء الإقليميين خلفها من جهة أخرى.
أ. الردع الصيني (القوّة الناعمة القسرية والعسكرية):
يتميّز الرد الصيني بأسلوب مركّب يهدف إلى إظهار الاقتدار والتصميم. أولًا، لجأت بكين إلى “القوّة الناعمة القسرية” (Coercive Soft Power) من خلال إرسال رسالة رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، مستخدمة المنصة الدولية لإصدار تحذيرات صريحة. وقد أكدت الرسالة أنه “إذا تجرأت اليابان على محاولة التدخل المسلح في الوضع عبر المضيق، فسيكون ذلك عملًا عدوانيًا، وستمارس الصين بقوة حقها في الدفاع عن النفس”. هذه الخطوة، التي تعكس تحولًا إستراتيجيًا في نهج بكين نحو الانخراط الدبلوماسي المباشر والمعلن، كانت بمثابة تحذير صريح ورسالة موجهة للمجتمع الدولي لإضفاء شرعية قانونية وسياسية على حق الرد الصيني في أي تصعيد محتمل.
ثانيًا، على الصعيد العسكري، تتّخذ الصين خطوات ملموسة لترسيخ نظرية “الردع عن طريق الإنذار المبكر” (Early Deterrence Theory). وقد كشف العرض العسكري الذي أقامته بكين في 3 أيلول/سبتمبر 2025 عن أسلحة إستراتيجية حديثة، مثل صواريخ دونغ فنغ الباليستية (Dongfeng – وتعني “ريح الشرق”) وأنظمة الفرط صوتية. هذا الاستعراض يهدف إلى تطوير قدرات منع الوصول وحرية العمليات (A2/AD) مفهوم عسكري يهدف إلى جعل التدخل العسكري في منطقة معينة شديد الخطورة ومكلفًا للغاية على الخصم مما يردعه عن المحاولة من الأساس الأمر الذي يجعل اعتراض هذه الأسلحة أمرًا صعبًا ويخدم الهدف الرئيسي للصين المتمثل بإرسال رسالة ردع واضحة للولايات المتحدة واليابان مفادها أن تكلفة التدخل في تايوان باهظة جدًا.
ب. نظرية الوكيل – الرئيس وقيود التحول الياباني:
تفسر نظرية الوكيل – الرئيس (Principal – Agent Theory) الدور الياباني المتصاعد في هذه الأزمة وهنا جوهر الصراع. فالولايات المتحدة، بصفتها “الرئيس”، تدفع اليابان لتبني مواقف أكثر حدة، مما يخدم هدف واشنطن الإستراتيجي في احتواء الصين بتكلفة سياسية أقل. وتصريحات تاكايشي الأخيرة، على الرغم من أنها تتفق مع المصلحة الأميركية، تعد خروجًا تدريجيًا عن مبدأ “إستراتيجية الدفاع الدفاعي” الياباني التقليدي، وتفتح الباب أمام التفسير الموسع لحق الدفاع الجماعي بموجب قانون الأمن والدفاع لعام 2015. هذا التحول، وإن كان مدفوعًا بحاجة اليابان لتأمين طرق إمدادها الحيوية التي يهدّدها أي حصار لتايوان، لا يمكن فصله عن الضغوط الأميركية المتزايدة على طوكيو لزيادة مساهمتها الأمنية الإقليمية.
تدفعنا المعطيات الواردة إلى طرح تساؤل جوهري قد يتبادر إلى ذهن أي متتبع، وهو “لماذا لا تسعى الولايات المتحدة إلى دفع الصين نحو مواجهة عسكرية مباشرة حول تايوان كما فعلت مع روسيا في أوكرانيا؟”. في الواقع، هذا الامتناع ليس نابعًا من ضعف الإرادة الأميركية، بل من حسابات إستراتيجية دقيقة ترى أن الصراع الطويل “منخفض الكثافة” أكثر فاعلية في استنزاف الصين وإبطاء صعودها دون المخاطرة بانهيار النظام الاقتصادي العالمي. فالحرب المفتوحة مع الصين لا تشبه الحرب مع روسيا، إذ إن الاقتصاد الصيني متشابك بعمق مع الاقتصاد الأميركي والعالمي، وأي مواجهة مباشرة ستؤدي إلى أزمة اقتصادية غير قابلة للاحتواء تضرب الأسواق وسلاسل التوريد الدولية.
إضافةً إلى ذلك، فإن واشنطن تعي أن تفجير صراع مسلح حول تايوان سيعجّل بتوحيد الجبهة الداخلية الصينية ويعطي للحزب الشيوعي مبررًا وطنيًا لتعبئة شاملة، مما قد يحوّل بكين من قوة تنافسية إلى قوة تعبئة حربية. لذلك، تفضل الولايات المتحدة نموذج الحرب الباردة الطويلة الذي يجمع بين الردع العسكري، والحصار التكنولوجي، والضغط الاقتصادي، والتحريض الدبلوماسي عبر الحلفاء. هذه المقاربة تتيح لها تحقيق أهداف الاحتواء من دون تحمّل كلفة الحرب المباشرة، وتبقي بكين في حالة استنزاف دائم سياسي واقتصادي وعسكري.
وبذلك، يمكن القول إن واشنطن لا تريد حربًا شاملة مع الصين، بل تريد إبقاء شبح الحرب قائمًا بوصفه أداة ضبط وإدارة للتوازنات، وضمانًا لاستمرار اصطفاف الحلفاء الآسيويين خلفها في مواجهة “الخطر الصيني” المرسوم بعناية.
في الختام، تؤكد الأزمة الصينية – اليابانية حول تايوان كنموذج أن النظام الدولي يشهد تحولًا بنيويًا جذريًا في إطار توالي الأزمات المرتبطة والشبيهة بالأزمة التايوانية في أكثر من نقطة صراع حول العالم. فـ “نظرية التحول السلمي للقوة” تبدو أقل واقعية، حيث تعمل القوى القائمة (الولايات المتحدة) على استخدام حلفائها (اليابان) لـ “إدارة الصراعات المدارة” (Managed Conflict) الجهود التي تبذلها القوى الكبرى، وخاصة القوى المهيمنة، للحفاظ على حالة من التوّتر والصراع عند مستوى معين ومحسوب دون السماح له بالتصعيد إلى مواجهة شاملة ومباشرة ومكلفة وإنشاء بؤر توتر إقليمية مُدارة، تُجبر القوى المنافسة (مثل الصين) على تحويل مواردها المالية والعسكرية وتركيزها الإستراتيجي نحو النزاعات المحيطة بها بدلًا من التنافس العالمي المباشر.
الأولوية على الساحة الدولية لم تعد تتمثل في منع الحرب الشاملة بشكل مطلق، بل في إدارة التوترات بطريقة تمنع أي تصعيد غير مقصود ينجم عن الحسابات الخاطئة في لعبة الردع. في هذا الإطار، يترسخ الدور الأميركي كـ “رئيس” في هندسة التوترات الإقليمية، حيث تستخدم واشنطن حلفاءها لخلق بؤر توتر إستراتيجية تستنزف موارد القوى المنافسة وتحافظ على الهيمنة. في خضم هذه الديناميكية، تلعب الولايات المتحدة دور “القوّة الدافعة”، حيث تدفع طوكيو نحو دور أمني أكثر تدخلًا وتؤجج المنافسة الإستراتيجية؛ ونتيجة لذلك، تتحول بكين إلى دبلوماسية الردع العسكري للرد على هذا الاحتواء. ومن ثم، يتعين على المجتمع الدولي إدراك أن مصير الاستقرار الإقليمي والدولي معلق بالقدرة على إدراك الأبعاد الإستراتيجية العميقة التي تحرك هذه التوترات، وأن أي تلاعب بالنار في مضيق تايوان يحمل في طياته مخاطر إستراتيجية عالمية لا يمكن احتواؤها بسهولة.



