كشف الحقيقة وظاهرة الثأر في اليمن: نحو مقاربة للعدالة المستدامة
إعداد : ق.د. علي مرشد العرشاني – قاضٍ ودكتور في العلوم القانونية والسياسية (الجمهورية اليمنية)
- المركز الديمقراطي العربي
مقدمة:
يعد الثأر ظاهرة اجتماعية وتاريخية منتشرة في حياة المجتمعات البشرية وإن اختلفت من حيث أشكالها ومظاهرها بل وأنواعها، فثمة الثأر القبلي والثأر السياسي والاقتصادي بل وهناك الثأر الثقافي(1)، وما يهمنا في هذه الدراسة هو الثأر القبلي تحديداً وخصوصاً في اليمن.
فالثأر ظاهرة أثرت بشكل كبير على المجتمع اليمني وتحولت إلى معضلة حقيقية خصوصاً مع استمرار الحروب والأزمات التي عطلت المؤسسة الأمنية في كثير من المناطق وقلّصت إلى حد كبير من دور المؤسسات القضائية، وكل ذلك انعكس تأثيره على النسيج الاجتماعي بشكل كبير.
فاستمرار الحروب والصراعات وانتشار ظاهرة الثأر القبلي يُعدان من أهم مواطن ضعف النظام القبلي اليمني، كما أن بقاء هذه الظاهرة من دون حل جاد أدى إلى حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهناك العديد من العوامل التي تزيد من هذه الظاهرة كضعف وبطء المؤسسات العدلية في تنفيذ القوانين الموضعية والإجرائية، إضافة إلى استمرار العلاقات العصبية بين القبائل، واستمرار الثقافة القبلية التي قد تُشرعِن لمن يأخذ حقه بيده(2).
- كشف الحقيقة في سياق العدالة الانتقالية:
بصورة عامة يعد كشف الحقيقة وظيفة القضاء والمؤسسات ذات الصلة، حيث يفترض أن الدولة تحتكر الحق في كشف الجرائم وتحديد مسؤولية مرتكبيها، فيما يعد كشف الحقيقة أحد الركائز الجوهرية للعدالة الانتقالية إذ لا يمكن للمصالحة الوطنية أن تتحقق في ظل الغموض أو الإنكار، فتوثيق الانتهاكات والجرائم وتحديد المسؤوليات والاعتراف بمعاناة الضحايا تشكل خطوات أساسية لترميم الثقة بين المواطن والدولة.
وقد تم استحداث تجربة لجان الحقيقة والمصالحة لتسوية آثار الانتهاكات المرتكبة في الماضي وتبني أشكال من العدالة الملائمة للمرحلة الانتقالية في سياق سياسي أو اجتماعي محدد، ومن الشروط الأساسية لنجاح هذه اللجان توافر إرادة سياسية حقيقية لإجراء الإصلاحات اللازمة، وقد تتجلى مبادرات الكشف عن الحقيقة في صور متعددة مثل جمع المعلومات ورفع السرية عن المحفوظات والتحقيق في مصير المفقودين أو تأسيس لجان تحقيق غير قضائية، وهو ما جعلها جزءًا أساسياً من منظومات العدالة الانتقالية عبر العالم(3).
وقد أظهرت التجارب الدولية كما في جنوب أفريقيا والمغرب وتشيلي أن لجان الحقيقة لعبت دوراً محورياً في كسر دوامة العنف من خلال تمكين الضحايا من نيل حق الاعتراف بما تعرضوا له، ومنح الجناة فرصة للإقرار بجرائمهم وتقديم الاعتذار ويكون ذلك أحياناً في إطار عفو مشروط(4)، وهو ما قد يجعلها أداة فعالة لتحقيق العدالة التصالحية وإرساء أسس سلام مستدام، وفي السياق اليمني تظهر أهمية هذه التجارب بوضوح عند مقاربة ظاهرة الثأر وما تطرحه من تحديات أمام أي مسار للعدالة الانتقالية.
- تأثير ظاهرة الثأر في اليمن على آليات العدالة الانتقالية:
إن ظاهرة الثأر في اليمن تُعد من أبرز المعضلات الاجتماعية والأمنية التي تعرقل بناء الدولة الحديثة وتعزيز سيادة القانون، وهي مرتبطة بموروث قبلي متجذر يقوم على فكرة “استرداد الحق” عبر الانتقام المباشر بدلاً من اللجوء إلى مؤسسات العدالة الرسمية(5)، ويمكن ربط هذه الظاهرة بإشكالية كشف الحقيقة سواء في إطار العدالة الجنائية أو العدالة الانتقالية.
كما تمثل هذه الظاهرة إحدى أبرز العقبات أمام تحقيق العدالة الانتقالية إذ قد يؤدي غياب الحقيقة المؤسسية وعجز الدولة عن كشفها رسمياً إلى إحلال الآليات العرفية محل القانون حيث يُنظر إلى الثأر كوسيلة بديلة للحصول على العدالة، وبذلك فإن الثأر يعزز الانتماء القبلي على حساب الانتماء الوطني، ويضعف مفهوم سيادة القانون.
غير أن هذا المسار يكرس دوامة متواصلة من الانتقام ويحول دون بناء ذاكرة جماعية قائمة على الاعتراف والتوثيق، وهو ما يترك لكل طرف روايته الخاصة ويعمق الانقسام المجتمعي، ومن ثم فإن معالجة هذه الظاهرة لا يمكن أن تقتصر على الإجراءات القضائية التقليدية بل تستلزم اعتماد إطار شامل للعدالة الانتقالية يوازن بين الاعتراف بحقوق الضحايا وتقديم بدائل للتعويض وجبر الضرر، مع توفير ضمانات تحول دون استمرار اللجوء إلى الانتقام الفردي، كما أن طبيعة المجتمع اليمني تفرض قراءة مختلفة لعملية كشف الحقيقة لما يمكن أن ينشأ عنها من آثار اجتماعية معاكسة.
- دور كشف الحقيقة في تنامي ظاهرة الثأر في اليمن:
كشف الحقيقة كما رأينا قد يكون أحد أبرز مقومات تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، غير أنه في المجتمع اليمني الذي يغلب عليه الطابع القبلي قد يشكل كشف الحقيقة عائقاً كبيراً أمام تحقيق الهدف من العدالة الانتقالية وهو الوصول إلى عدالة وسلام مستدامين، حيث إن تسييس فكرة الثأر القبلي من قبل بعض الأطراف المتضررة من جهود إحلال السلام قد يؤدي إلى تعميق المشكلة ويزيد من تنامي هذه الظاهرة(6).
كما أرى بأن كشف الحقيقة والإعلان عن المتسببين بانتهاكات وجرائم جسيمة سيحرك فكرة الانتقام ويوقظ فتيل الثأر لدى الضحايا وذويهم الذين ينتمون لمجتمعٍ يُغلّب فكرة استرداد الحق على فكرة العفو، وهذا الأمر قد يُفسَّر اجتماعياً كدعوة مفتوحة للثأر وفرصة لتبرير الانتقام خصوصاً في ظل ضعف الدولة وغياب الضمانات القضائية، ومن هذا المنطلق سيشكل كشف الحقيقة خطراً على السلم الاجتماعي.
فإذا لم يُقرن كشف الحقيقة بضمانات تقدمها الدولة وتتزامن بآليات العدالة البديلة كالتعويض والمصالحة سيبقى الضحية أمام خيار وحيد وهو الأخذ بالثأر، فضعف مؤسسات الدولة يجعل الضحايا وذويهم يعتقدون أن الدولة لن تحاسب الجناة فيلجؤون إلى العدالة الذاتية والثأر بأنفسهم، وأيضاً لا ننسى أن تضخم العصبية بسبب النزاعات المستمرة لأكثر من عقد من الزمن قد يجعل من فهم آلية كشف الحقيقة كاتهام جماعي لقبيلة أو جهة معينة مما يفتح باباً لصراعات أوسع، ومن خلال ذلك يصبح ضرورياً الانتقال من توصيف هذه المخاطر إلى بحث الآليات القادرة على تحويل كشف الحقيقة إلى أداة للتهدئة لا إلى محرك للثأر.
- تعزيز دور كشف الحقيقة لتفكيك ظاهرة الثأر في اليمن:
يمكن القول إن كشف الحقيقة بصورة منهجية ومؤسسية يمثل مدخلاً مهماً لتفكيك دوامة الثأر في اليمن، إذ يتيح للضحايا وأسرهم إطاراً رسمياً يضمن توثيق معاناتهم والاعتراف بها بما يُضعف الحاجة إلى استدعاء أدوات الانتقام العرفية، لذا يصبح من الضروري وضع إطار مؤسسي وقانوني محكم يحقق التوازن بين حق الضحايا في العدالة ومعرفة الحقيقة وضمان عدم توظيفها لإشعال دوامة انتقام جديدة.
ويُقترح في هذا السياق إنشاء هيئة مستقلة للكشف عن الحقيقة ذات ولاية دستورية وقانونية تعمل بمعزل عن الضغوط السياسية والقبلية، وتربط بين كشف الحقيقة ومسارات العدالة التصالحية مثل التعويض والاعتذار العلني أو العفو المشروط، كما ينبغي أن تُسَن تشريعات خاصة تحمي الضحايا والشهود والجناة الذين يقرون بمسؤولياتهم من أي أعمال انتقامية لاحقة، إلى جانب اعتماد التدرج في إعلان الحقائق بحيث يتم البدء بسرديات عامة أو جماعية قبل الانتقال إلى تحديد المسؤوليات الفردية، وكل ذلك ضماناً لعدم تهديد السلم الاجتماعي.
كما أن الانتقال من منطق المسؤولية الجماعية إلى المسؤولية الفردية يشكل حجر الأساس في أي معالجة قانونية جادة لظاهرة الثأر في اليمن، فالثقافة القبلية المهيمنة تميل إلى تحميل القبيلة بأسرها تبعات فعل فردي وهو ما يكرس منطق الانتقام الجماعي ويؤدي إلى توارث النزاعات عبر الأجيال، غير أن المبادئ الشرعية والقانونية تقرر أن المسؤولية الجنائية هي مسؤولية شخصية بحتة ولا تمتد إلى الغير، وهو ما يستوجب إعادة ترسيخ هذا المبدأ في مسار العدالة المستدامة.
فاعتماد آليات منظمة للكشف عن الحقيقة تعمل من خلال مؤسسات مستقلة وبخطاب قانوني يركز على المسؤولية الفردية لا الجماعية، يساهم في تحويل مسار النزاع من منطق القبيلة ضد القبيلة إلى منطق المساءلة القانونية الفردية، ويعيد الاعتبار للضحايا عبر الاعتراف الرسمي والاعتذار العلني أو التعويض المادي والرمزي، كما أن هذا النهج يفتح المجال أمام تسويات بديلة للثأر ويعزز مشروعية برامج وطنية للتعويض ترعاها الدولة أو المجتمع الدولي، بما يجعل الانتقام خياراً فائضاً لا ضرورة له.
ولا يكتمل هذا المسار إلا بإشراك القيادات القبلية والدينية في ترسيخ خطاب الحقيقة من أجل السلام، وبالتدرج في الإعلان عن الحقائق بما يحفظ السلم، وبهذا الشكل يصبح كشف الحقيقة حين يدار ضمن مؤسسات شرعية وشفافة أداة بنيوية لتفكيك الثأر وترسيخ العدالة التصالحية كركيزة أساسية لبناء العدالة والسلام المستدامين.
- الخاتمة:
يتضح من خلال هذه الدراسة أن كشف الحقيقة في اليمن يمثل شرطاً ضرورياً لتفكيك ظاهرة الثأر، لكنه قد يتحول إلى عامل تفجير اجتماعي إذا جرى خارج إطار مؤسسي قادر على حماية الضحايا والمجتمع من دوائر الانتقام، ومن هنا تصبح العدالة المستدامة مشروعاً تراكمياً يتطلب إرادة سياسية واضحة ووجود دولة تحتكر سلطة كشف الحقائق وتعيد الاعتبار لمبدأ المسؤولية الفردية بدلاً من العقاب الجماعي.
وفي هذا السياق يشكل غياب إطار قانوني منظم للعدالة الانتقالية أحد أبرز العوامل التي تغذي نزعات الثأر، إذ يظل كشف الحقيقة بلا قانون مجرد رواية مفتوحة قد تُستغل لإشعال الصراع، ويمكن لقانون خاص بالعدالة الانتقالية أن يوفر الضوابط اللازمة لذلك من خلال حماية الضحايا والشهود، وتجريم الأعمال الانتقامية، وتحديد المسؤولية الجنائية كشخصية لا جماعية، وتنظيم التعويض وجبر الضرر، ومنح هيئة وطنية مستقلة ولاية واضحة في كشف الحقيقة ضمن مسار قانوني يحول دون توظيف المعلومات لإدامة العنف والنزاع.
ولكي تنتقل هذه الرؤية من المجال النظري إلى التطبيق العملي تبرز لدينا الحاجة إلى أدوات واضحة تشمل: سن قانون للعدالة الانتقالية وإنشاء هيئة وطنية مستقلة للكشف عن الحقيقة وتوفير آليات تعويض وبرامج لحماية الشهود والضحايا، على أن يتم تنفيذ هذه الإجراءات بصورة تدريجية تراعي الظروف الأمنية والمؤسسية التي يمر بها اليمن.
وستظل استدامة هذا المسار رهينة وجود مؤشرات قياس واضحة مثل انخفاض جرائم الثأر وارتفاع معدلات اللجوء إلى القضاء وتراجع الهويات العصبية لصالح الهوية الوطنية، كما يستلزم الأمر أبحاثاً ميدانية متخصصة حول الثأر والبنى القبلية وآليات فض النزاع بما يسمح ببناء سياسات تستند إلى معرفة حقيقية لا إلى افتراضات عامة.
وبذلك يصبح كشف الحقيقة ليس نهاية العدالة بل نقطة انطلاق لإعادة بناء الثقة بين الشعب والدولة، وصياغة عقد اجتماعي جديد يجعل من الثأر ممارسة تنتمي إلى الماضي لا إلى المستقبل.



