مقالات

الشرع وترامب في البيت الأبيض: مفترق الاستراتيجية السورية وإعادة ترتيب موازين القوة الإقليمية

بقلم : د.حمدي محمود – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر

 

يشكل اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض حدثًا مفصليًا في تاريخ السياسة الدولية والإقليمية للشرق الأوسط، لما يحمله من دلالات استراتيجية عميقة وإشارات إلى إعادة رسم موازين القوى في المنطقة. يأتي هذا اللقاء بعد أكثر من عقد من الصراعات الداخلية والحروب الأهلية والانقسامات الإقليمية، وتدخلات خارجية متعددة أعادت تشكيل المشهد السوري عدة مرات، مما يجعل هذا الحدث نقطة تحول حقيقية، إذ يضع سوريا في مركز لعبة استراتيجية معقدة تجمع بين المصالح الأمريكية، الروسية، والإيرانية، وبين دورها كفاعل محوري على الساحة الإقليمية والدولية.

يحمل اللقاء دلالات رمزية وسياسية جسيمة، أهمها الاعتراف الضمني بالشرعية السياسية للنظام السوري، الذي بالرغم من سنوات العزلة والعقوبات، استطاع الحفاظ على موقعه كفاعل سياسي وإقليمي مؤثر. ويعكس هذا الاعتراف إعادة تقييم القوى الدولية لموقع سوريا الاستراتيجي، إذ لم تعد دمشق مجرد ساحة صراع داخلي أو منطقة نفوذ خارجي، بل لاعب قادر على التأثير في أي تسوية سياسية إقليمية، بما يعيد تحديد مكانتها بين القوى الإقليمية والدولية. ويشير اللقاء إلى أن دمشق قد تصبح شريكًا فاعلًا في حوارات مستقبلية حول الاستقرار الإقليمي، وهو ما قد يدفع بعض الدول العربية والغربية إلى إعادة تقييم سياساتها تجاه سوريا، وطرح مقاربات أكثر واقعية وأقل انعزالية تجاه الأزمة السورية.

على الصعيد الاستراتيجي، يمثل اللقاء فرصة لإعادة التوازن الإقليمي، إذ يمكن للولايات المتحدة تعزيز تأثيرها في الملف السوري بعيدًا عن السيطرة الروسية المطلقة، مع فرض حدود لتوسع النفوذ الإيراني في المناطق الحساسة، وضمان حماية المصالح الأمريكية في شرق المتوسط. ويتيح اللقاء لسوريا فرصة تموضع سياسي أفضل على المستوى الدولي، من خلال المشاركة في مبادرات سياسية مشتركة مع واشنطن، والتفاوض حول ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب، بما يقلل من اضطرابات الحدود السورية-العراقية، ويعيد ضبط الفصائل المسلحة المتطرفة ضمن إطار أمني جديد. كما يفتح اللقاء أفقًا لإعادة ترتيب الملفات المتعلقة باللاجئين وإعادة الإعمار وفتح حوار حول القضايا الاقتصادية والسياسية المعقدة التي ظلت مغلقة لعقود، بما يسمح بدمج سوريا تدريجيًا في النظام الإقليمي والدولي.

تمتد أبعاد اللقاء إلى الاقتصاد بشكل ملموس، إذ يمكن أن يمهد لإعادة تقييم العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، وفتح قنوات محدودة للاستثمار في مشاريع استراتيجية تشمل البنية التحتية، والنقل، والطاقة، وإدارة الموارد الطبيعية، بما يسهم في تخفيف آثار الأزمة الاقتصادية الطويلة. كما يمكن أن يوفر اللقاء إمكانية تنفيذ مشاريع مالية مشتركة تحت إشراف دولي، ما يمنح دمشق موضع تفاوضي أقوى للاستفادة من مواردها المحلية والإقليمية، وتوسيع فرص الاستثمار الخارجي ضمن إطار مشروط يتوافق مع المعايير الدبلوماسية والسياسية التي ترعاها واشنطن.

إذا نظرنا إلى الأفق الزمني، فإن تأثير اللقاء يمتد على مستويات قصيرة ومتوسطة وطويلة، ففي المدى القصير، يمكن أن يعزز موقع سوريا على الساحة الدولية ويفتح قنوات اتصال اقتصادية ودبلوماسية محدودة، ويعيد ترتيب العلاقات مع بعض الدول العربية، كما قد يسهم في تحقيق استقرار نسبي في مناطق كانت عرضة للتوترات. وفي المدى المتوسط، من المتوقع أن تشهد سوريا إدماجًا تدريجيًا في حوارات إقليمية أوسع تشمل الأمن والطاقة وإعادة اللاجئين، إلى جانب إطلاق مشاريع استثمارية محدودة في القطاعات الحيوية، مع الحفاظ على توازن النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية. أما في المدى الطويل، فقد تصبح سوريا لاعبًا محوريًا في أي تسوية إقليمية شاملة، مع انعكاسات إيجابية محتملة على الاقتصاد الوطني، لكنها ستظل رهينة للتوازن بين العقوبات الدولية والقدرة على جذب الاستثمارات الخارجية، إضافة إلى التحديات الداخلية المتعلقة بالشرعية السياسية وموقف المعارضة، ومدى قدرة القيادة على إدارة التحولات المحلية بما يحقق الاستقرار والاستفادة الاستراتيجية القصوى.

وبالرغم من الفرص الكبيرة، يظل اللقاء محفوفًا بالتحديات والمخاطر، إذ قد ترى المعارضة السورية فيه تهديدًا لموقعها، ما قد يؤدي إلى تصعيد الاحتجاجات أو رفض بعض الفصائل للانفتاح مع الولايات المتحدة، وهو ما يعقد المشهد الداخلي ويزيد من صعوبة تنفيذ أي خطوات عملية. كما أن واشنطن ودمشق ستواجهان ضغوطًا وانتقادات دولية، خاصة من أوروبا ومنظمات حقوق الإنسان، التي قد تعتبر اللقاء خطوة غير متوازنة لإعادة الشرعية للنظام السوري دون ضمان إصلاحات ملموسة. ويظل الحفاظ على التوازن بين النفوذ الأمريكي والروسي والإيراني أمرًا بالغ الحساسية، إذ إن أي تحرك خاطئ قد يؤدي إلى تعقيد الوضع بدلًا من تحقيق الاستقرار، ويزيد من احتمالات صراعات إقليمية جديدة أو تصعيد المنافسة بين القوى الكبرى على الأرض السورية.

من منظور التحليل الاستشرافي، يمكن رسم سيناريوهين محتملين للمرحلة المقبلة. السيناريو الأول، السيناريو الإيجابي، يتضمن تحويل اللقاء إلى شراكات استراتيجية محدودة، تشمل دعمًا دوليًا لإعادة الإعمار، فتح قنوات اقتصادية واستثمارية، وتعزيز الأمن والاستقرار في المناطق المتضررة، ما يسمح لسوريا بتثبيت موقعها كلاعب دولي مؤثر. أما السيناريو الثاني، السيناريو السلبي، فيتمثل في عدم قدرة الأطراف على استثمار اللقاء، ما يؤدي إلى استمرار العزلة الدولية، تصعيد المعارضة الداخلية، وإطالة أمد التوترات الإقليمية، مع استمرار الهيمنة الروسية والإيرانية على الملف السوري.

وفي الملفات الأمنية، يمكن لهذا اللقاء أن يفتح بابًا لتنسيق محدود بين واشنطن ودمشق في مواجهة الجماعات المسلحة المتطرفة، وتخفيف التوترات على الحدود، وهو ما يمثل خطوة مهمة نحو استقرار أمني نسبي في المناطق الحدودية. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن اللقاء يمكن أن يكون منصة لإطلاق مشاريع إعادة إعمار محدودة، مع خلق فرص استثمارية جديدة، واستكشاف مصادر تمويل خارجية ضمن إطار دولي مراقب. وعلى الصعيد الدبلوماسي، يمثل اللقاء بداية إعادة إدماج سوريا تدريجيًا في النظام الإقليمي والدولي، مع تحسين العلاقات مع دول الجوار، وتقليل العزلة السياسية التي عانت منها دمشق على مدى سنوات.

إن هذا اللقاء ليس مجرد حدث رمزي، بل هو اختبار حقيقي لإمكانية تحويل الرمزية الدبلوماسية إلى نتائج عملية ملموسة، ويعكس مدى حكمة القيادة السورية ومرونة الإدارة الأمريكية واستعداد الأطراف الإقليمية والدولية للتعاون البناء. نجاح هذا اللقاء سيحدد ليس فقط مستقبل سوريا، بل سيعيد رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، ويضع المنطقة أمام مرحلة جديدة تتطلب ذكاء سياسيًا واستراتيجيًا عالي المستوى، وقدرة على إدارة الأزمات وتحويل الفرص الرمزية إلى إنجازات ملموسة على الأرض، بما يعزز الاستقرار ويعيد الاعتبار لدور سوريا كلاعب رئيسي في المنطقة.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى