أطفال في قبضة الحروب: تحليل لظاهرة تجنيد الصغار في الصراعات الإفريقية

اعداد : عفاف ممدوح – باحثة دكتوراه في العلوم السياسية بكلية الدراسات الافريقية العليا – جامعة القاهرة
- المركز الديمقراطي العربي
شهدت القارة الإفريقية خلال العقود الأخيرة سلسلة من الحروب الأهلية والصراعات المسلحة وحالات التمرد وقد ارتبطت هذه الصراعات بانتشار ظاهرة تجنيد الأطفال واستخدامهم كجنود سواء من قبل الجهات الحكومية أو التنظيمات المسلحة غير الحكومية ، وتُعد هذه الظاهرة من أبرز القضايا المثيرة للقلق في إفريقيا إذ انه وبين عامي 1990 و2025 تورطت نحو 23 دولة إفريقية في صراعات مسلحة شهدت تجنيداً واسعاً للأطفال كما حدث في سيراليون وبوروندي وليبيريا مرورا برواندا وأنغولا وأوغندا ووصولا إلي جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان وساحل العاج ونيجيريا وغيرها ، وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة تجنيد الأطفال في الصراعات المسلحة بإفريقيا وذلك من خلال استكشاف أبعادها الإنسانية والأمنية والوقوف على التهديدات التي تمثلها لحقوق الطفل إلى جانب دراسة الأسباب الكامنة وراء انتشارها وتقييم آثارها على تفاقم الانتهاكات الحقوقية الأخرى وذلك بغية تحديد آليات فعالة للحد منها.
أولا: ظاهرة تجنيد الأطفال في أفريقيا وأسبابها
تُعد ظاهرة تجنيد الأطفال في إفريقيا إحدى أخطر الظواهر المرتبطة بالصراعات المسلحة إذ أصبحت مشكلة مزمنة تعكس هشاشة البنى السياسية والأمنية في العديد من الدول الإفريقية ، وتشير التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية إلى أن آلاف الأطفال بعضهم لا يتجاوز سن العاشرة قد جُنّدوا قسراً أو طوعاً في صفوف القوات النظامية والجماعات المسلحة غير الحكومية حيث يتم استخدامهم كمقاتلين أو حتى كدروع بشرية ، وتعزى هذه الظاهرة إلى مجموعة من العوامل المتداخلة أبرزها الفقر المدقع وانهيار مؤسسات التعليم وغياب الرقابة الحكومية فضلاً عن استغلال الجماعات المسلحة لضعف الوعي الحقوقي لدى المجتمعات المحلية ، وقد أسفر تجنيد الأطفال عن انتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية وأثر سلباً على فرص التنمية والاستقرار في القارة الإفريقية مما جعلها قضية مركزية تتطلب تدخلات دولية ووطنية شاملة لمعالجة أسبابها وجذورها العميقة ، وتتعدد أسباب تجنيد الأطفال في القارة الإفريقية ويمكن تصنيفها كالتالي ؛
- الأسباب السياسية : أدّت هشاشة الدول الإفريقية وضعف مؤسساتها الأمنية إلى بروز جماعات مسلحة تبحث عن مصادر بشرية زهيدة وسهلة السيطرة فوجدت في الأطفال ضالتها ، كما أسهمت الصراعات والحروب الأهلية والانقسامات الاثنية في توفير بيئة خصبة لتجنيد القاصرين خصوصًا في المناطق التي يغيب عنها القانون وتنهار فيها سلطة الدولة .
- الأسباب الاقتصادية والاجتماعية : يعد الفقر المدقع وانعدام فرص التعليم يدفعان الأطفال إلى الانضمام للجماعات المسلحة أملًا في الحصول على الغذاء أو المال أو الحماية وغالبًا ما تستغل هذه الجماعات جهل الأسر وفقرها لتجنيد أطفالها طوعًا أو قسرًا ، ومن جانب آخر تسهم العوامل الثقافية والنفسية في ترسيخ الظاهرة حيث يتم غسل عقول الأطفال عبر خطاب ديني أو أيديولوجي يربط القتال بالبطولة أو الخلاص مما يحوّلهم إلى أدوات طيّعة للعنف.
وعلي الرغم من أن تلك الظاهرة انخفضت في السنوات الأخيرة بسبب الجهود الدولية وزيادة الوعي إلا أنها لا تزال مستمرة في العديد من المناطق ، ويعد استخدام الأطفال الجنود في أفريقيا مدفوع بمزيج من الصراع المسلح والفقر وضعف الحكم والاستغلال مما يجعل الأطفال عرضة للتجنيد من قبل الجماعات المسلحة ومع استمرار هذه العوامل فمن الصعب إنهاء هذه الممارسة على الرغم من الجهود الدولية ، وتُعدّ بعض الدول مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان ومالي بالإضافة إلى الصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى من أكثر الدول التي شهدت تجنيدًا واسعًا للأطفال، ففي الكونغو استخدمت الجماعات المتمردة الأطفال كمقاتلين وحراس للطرق، بينما في الصومال استغلت حركة “الشباب” الفقر والانقسام الديني لتجنيد آلاف القُصّر ، أما في جنوب السودان فقد أُجبر الأطفال على القتال بعد تفكك الجيش الرسمي لتتحول المدارس والقرى إلى ساحات استقطاب مسلح ، كما أدى الصراع المستمر في جمهورية أفريقيا الوسطى إلى تجنيد الأطفال من قبل جماعات مسلحة مختلفة بما في ذلك جيش الرب للمقاومة ، وقد اشتهرت الجبهة المتحدة الثورية في سيراليون وغيرها من الجماعات المتمردة باستخدام الأطفال كجنود مما أدى في كثير من الأحيان إلى تعرضهم لأعمال عنف مروعة.
ثانيا : آثار وتداعيات تجنيد الأطفال في إفريقيا
تُعد ظاهرة تجنيد الأطفال في إفريقيا واحدة من أكثر الانتهاكات فداحة في العصر الحديث إذ تحرم ملايين الأطفال من حقهم في الطفولة والتعليم والأمان وتُدخلهم في دوامة من العنف النفسي والجسدي يصعب الخروج منها ، وقد اتخذت هذه الظاهرة أبعادًا إنسانية وأمنية عميقة حيث تركت آثارًا مدمرة على الأفراد والمجتمعات والدول وأصبحت من أبرز العوائق أمام جهود التنمية والسلام المستدام في القارة الإفريقية فهذه الظاهرة تُخلّف آثاراً عميقة ومتعددة الأبعاد والمستويات ، فعلى المستوى الإنساني يتعرض الأطفال المجندون لصدمات نفسية وجسدية خطيرة نتيجة مشاركتهم في القتال أو تعرضهم للعنف ما يؤدي إلى اضطرابات سلوكية ونفسية طويلة الأمد تعيق اندماجهم لاحقاً في الحياة المدنية كما يُحرم هؤلاء الأطفال من حقهم في التعليم والنمو الطبيعي مما يسهم في إنتاج أجيال تعاني من الأمية والحرمان الاجتماعي .
أما على المستوى المجتمعي فيؤدي تجنيد الأطفال إلى تفكك الروابط الاجتماعية وتراجع رأس المال البشري ويعمق دوائر العنف في المجتمعات المتأثرة بالصراع ، كما يُعد فقدان الثقة المجتمعية بين الضحايا والمجتمعات المحلية أحد أبرز التداعيات الاجتماعية حيث يُنظر إلى الأطفال العائدين من القتال بعين الريبة والخوف وهو ما يعيق عمليات المصالحة وإعادة الدمج ، وعلى الصعيد السياسي والأمني تُضعف هذه الظاهرة قدرة الدولة على بسط سلطتها وبناء مؤسساتها كما تُعيق جهود إعادة الإعمار والمصالحة بعد انتهاء الحروب ، ومن ثمّ فإن معالجة تداعيات تجنيد الأطفال تتطلب برامج شاملة لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي وتعزيز نظم الحماية القانونية والتعليمية التي تضمن منع تكرار هذه الممارسات في المستقبل.
ثالثا : الجهود الدولية لمجابهة ظاهرة تجنيد الأطفال
شهدت العقود الأخيرة تزايداً في الجهود الدولية والإقليمية لمواجهة ظاهرة تجنيد الأطفال في إفريقيا وذلك من خلال تبني الأطر القانونية والسياسات التنفيذية الرامية إلى حماية حقوق الطفل في مناطق الصراع فعلى المستوى الدولي أصدرت الأمم المتحدة مجموعة من الاتفاقيات والمواثيق أبرزها “اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989” وبروتوكولها الاختياري المتعلق بإشراك الأطفال في الحروب والصراعات المسلحة لعام 2000 ، عذا بالإضافة إلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة مثل القرارين رقم 1261 و1612 اللذين أدانا تجنيد الأطفال وطالبا بفرض عقوبات على المنتهكين ، كما تقوم منظمات كاليونيسف ومنظمة العفو الدولية ومكتب الممثل الخاص للأمين العام المعني بالأطفال والصراع المسلح بدور محوري في توثيق الانتهاكات ودعم برامج إعادة التأهيل والدمج الاجتماعي للأطفال المحررين .
أما على الصعيد الإفريقي تعمل الحكومات الأفريقية والهيئات الإقليمية والمنظمات الدولية على مكافحة تجنيد الأطفال من خلال التدابير القانونية والاتفاقيات الدولية والجهود الشعبية والتي تشمل الاستراتيجيات الرئيسية تعزيز القوانين الوطنية وأنظمة حماية الطفل ودعم برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج واستخدام الدبلوماسية للضغط على الجماعات المسلحة لوقف التجنيد ، كما تلعب المنظمات غير الحكومية دورًا حيويًا في تقديم المساعدة المباشرة ورفع مستوى الوعي على مستوى المجتمع وقد تبنّى “الاتحاد الإفريقي” و”الميثاق الإفريقي لحقوق ورفاهية الطفل” التزاماً واضحاً بمنع تجنيد الأطفال دون الثامنة عشرة هذا بالإضافةً إلى الجهود الإقليمية من قبل المجموعات الاقتصادية والسياسية مثل “الإيكواس” و”الإيغاد” في تطوير استراتيجيات للوقاية والمساءلة ، ومع ذلك، تظل فعالية هذه الجهود مرهونة بتوافر الإرادة السياسية لدى الحكومات الإفريقية وتعزيز التعاون بين المؤسسات الوطنية والدولية لتجفيف جذور الظاهرة وضمان حماية دائمة للأطفال من ويلات الحروب .
خاتمة
إنّ تجنيد الأطفال في الصراعات الإفريقية لا يُعد مجرد انتهاك صارخ لحقوق الإنسان أو خرقًا للمواثيق الدولية بل هو انعكاس لأزمة بنيوية عميقة تمسّ جوهر الدولة والمجتمع معًا ، فانتشار هذه الظاهرة يعكس ضعف مؤسسات الدولة وغياب العدالة الاجتماعية وانهيار منظومات الحماية التي يفترض أن تصون الطفولة من الاستغلال والعنف ، فالطفل الذي يُنتزع من مقاعد الدراسة ليُزجّ به في ساحات القتال ليس ضحية حرب فحسب بل هو أيضًا نتاج إخفاقات متراكمة في التنمية والتعليم والإدارة والحكم الرشيد ، ولذلك، فإنّ مواجهة هذه الظاهرة لا يمكن أن تقتصر على الحلول الأمنية أو الإغاثية بل تتطلب مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد تبدأ من معالجة الأسباب الجذرية التي تدفع الأطفال إلى حمل السلاح وذلك عبر الاستثمار في التعليم وتوفير فرص اقتصادية بديلة للأسر الفقيرة وبناء منظومات حماية اجتماعية فعّالة قادرة على رصد حالات الخطر مبكرًا والتدخل قبل وقوعها .
كما يجب تعزيز المساءلة القانونية ضد الأفراد والجماعات والدول التي تتورط في تجنيد الأطفال أو تمويل عملياتهم، وضمان عدم إفلات الجناة من العقاب بما يرسخ ثقافة الردع والعدالة ، وإلى جانب ذلك، ينبغي أن تتكامل جهود الدول الإفريقية مع المنظمات الدولية والإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة وذلك من خلال وضع استراتيجيات طويلة الأمد لإعادة بناء النسيج الاجتماعي في المجتمعات المتأثرة بالصراعات وتوفير برامج شاملة لإعادة تأهيل الأطفال المجندين وإدماجهم في الحياة المدنية عبر التعليم والدعم النفسي والمهني ، وفي النهاية، فإن حماية الطفولة في إفريقيا ليست مجرد واجب إنساني أو التزام قانوني بل هي استثمار في مستقبل القارة ذاتها، لأنّ التنمية الحقيقية والأمن المستدام لا يمكن أن يتحققا في مجتمعات تُفرّط في أجيالها الناشئة أو تسمح بتحويلهم إلى أدوات للحرب .
قائمة المراجع
أولا : مراجع باللغة العربية
- عبد القادر محمد علي ، نصف المجندين الأطفال في العالم منخرطون بصراعات أفريقيا ، شبكة الجزيرة ، متاح على الرابط التالي ؛
https://2h.ae/CtCj
- محمد جلال حسين ، ظاهرة «الجنود الأطفال» في أفريقيا بين الدوافع والآثار (دراسة) ، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية ، متاح على الرابط التالي ؛
- مصطفى ابراهيم سلمان ، تجنيد الاطفال في النزاعات المسلحة الافريقية وابعادها الدولية ، مجلة العلوم السياسية ( بغداد : كلية العلوم السياسية جامعة بغداد ، العدد 64 ، 2022 ) ص.ص 171-204 .
ثانيا : مراجع باللغة الإنجليزية
- Naomi Haupt , Keeping the spotlight on Africa’s child soldiers , iss today , available at
https://issafrica.org/iss-today/keeping-the-spotlight-on-africa-s-child-soldiers