الرقمنة كأداة للنفوذ السياسي والاقتصادي: التجربة الغانية في سياق التحولات الأفريقية

بقلم : أ. محمود سامح همام – باحث سياسي مصري متخصص في الشؤون الأفريقية
- المركز الديمقراطي العربي
في خضم التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي تعصف بالقارة الأفريقية، تبرز غانا كنموذج لدولة تحاول إعادة صياغة موقعها في النظام الدولي من خلال توظيف التحول الرقمي كأداة استراتيجية للتنمية وتعزيز النفوذ. فبينما تتعثر العديد من دول غرب أفريقيا تحت وطأة الأزمات السياسية والتقلبات الاقتصادية، اختارت أكرا مسارًا يقوم على دمج التكنولوجيا في صميم البنية المؤسسية، وإعادة هيكلة العلاقة بين المواطن والدولة، وربط الاقتصاد الوطني بالاقتصاد الرقمي العالمي. هذه المقاربة، وإن كانت محفوفة بالتحديات، تحمل في طياتها إمكانات هائلة لإعادة تموضع غانا كمحور استقرار ونمو في الإقليم، وتحوّلها من مجرد مصدر للمواد الخام إلى فاعل اقتصادي ذي قيمة مضافة عالية على الساحة الدولية.
أولًا: المقارنة التاريخية – مساران تنمويان مختلفان
منذ حصولهما على الاستقلال في حقبة الستينيات، انطلقت غانا وكوريا الجنوبية من خطوط بداية متقاربة من حيث مستوى الدخل الفردي، لكن سرعان ما بدأ مسارهما التنموي في التباعد بشكل حاد نتيجة لاختلاف جوهري في الخيارات السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية.
غانا، التي ورثت اقتصادًا استعماريًا قائمًا على تصدير المواد الخام مثل الذهب والكاكاو، افتقرت إلى قاعدة صناعية متطورة، كما تأثرت بتقلبات أسعار السلع في الأسواق العالمية، وهو ما جعلها رهينة لظروف اقتصادية خارجية غير مستقرة. تضاف إلى ذلك عوامل سياسية داخلية، أبرزها تذبذب أنماط الحكم بين الأنظمة المدنية والعسكرية، وعدم القدرة على صياغة رؤية تنموية طويلة الأمد تحافظ على الاستمرارية في السياسات.
على النقيض، كانت كوريا الجنوبية تخرج من حرب مدمرة، لكنها وضعت لنفسها خطة تنمية صارمة، اعتمدت على بيروقراطية كفؤة، وتعليم شامل، وتنظيم الأسرة، والتصنيع الموجه للتصدير. هذا التوجه مكّنها من تحويل شحّ الموارد الطبيعية إلى حافز للابتكار الصناعي، وبناء اقتصاد موجه نحو المنافسة العالمية.
النتيجة أن كوريا الجنوبية استطاعت خلال نصف قرن أن تقفز من دولة فقيرة إلى قوة صناعية عالمية، بينما بقيت غانا تعاني من اختناقات هيكلية في الإنتاجية والتكنولوجيا، وهو ما يبرز أن الفارق التنموي لم يكن حتميًا، بل نتيجة مباشرة لاختيارات سياسية واقتصادية مختلفة.
ثانيًا: التحول الديموغرافي كفرصة استراتيجية
تمر غانا اليوم بمرحلة ديموغرافية بالغة الأهمية، حيث تراجع معدل الخصوبة إلى 3.4 طفل لكل امرأة، وهو ما يمثل بداية انتقال نحو مجتمع أكثر اتزانًا من حيث نسبة السكان في سن العمل إلى المعالين. التوقعات تشير إلى أن البلاد ستدخل مرحلة “النضج الديموغرافي” بحلول عام 2033، أي قبل غالبية دول غرب أفريقيا، ما يوفر نافذة زمنية فريدة لتعزيز النمو الاقتصادي.
هذا التحول يأتي في سياق معدل تحضر مرتفع (60% عام 2023، متوقع أن يصل إلى 71% بحلول 2050)، الأمر الذي يسهل نشر الخدمات والبنى التحتية الرقمية، ويزيد من كفاءة تقديم الخدمات الحكومية والتعليمية والصحية.
سياسيًا، تمثل هذه المرحلة فرصة لإعادة توجيه الموارد العامة من الإنفاق على الاحتياجات الأساسية واسعة النطاق – مثل التعليم الابتدائي والرعاية الصحية للأطفال – نحو التعليم العالي، والتدريب المهني، وتنمية المهارات التقنية. ومع ذلك، يبقى الخطر الأكبر في عدم استيعاب القوى العاملة الشابة في الاقتصاد، ما قد يؤدي إلى بطالة واسعة النطاق أو اضطرابات اجتماعية.
إدارة هذه المرحلة بنجاح تتطلب إرادة سياسية قوية، واستثمارات استراتيجية في القطاعات الإنتاجية، وسياسات سوق عمل مرنة قادرة على ربط المهارات الجديدة بالفرص الاقتصادية الفعلية.
ثالثًا: الهوية الرقمية كعمود فقري للحكم الرشيد
أدركت غانا مبكرًا أن بناء اقتصاد حديث يحتاج إلى نظام هوية شامل وموثوق، ولذلك أطلقت عام 2008 مشروع الهوية الذكية المعتمد على البيانات البيومترية، مانحةً لكل مواطن رقم تعريف شخصي (PIN)، وهذا النظام تجاوز كونه مجرد وسيلة للتعريف، ليصبح أداة استراتيجية لتعزيز الشفافية ودمج القطاع غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي. فاليوم، يمكن للمواطن من خلال هذه الهوية فتح حساب مصرفي، وتسجيل شركة، والحصول على تراخيص، والتصويت في الانتخابات عبر نظام بيومتري، بل وحتى ربط معاملاته التجارية ورحلاته الجوية والمعابر الحدودية بسجله الرسمي.
ارتباط الهوية الرقمية بإجراءات الموانئ والاستيراد والتصدير أتاح للدولة الحد من التهريب والاحتيال التجاري، وربط التدفقات المالية والتجارية بالاقتصاد الرسمي، مما يزيد من القدرة على تحصيل الضرائب وتحسين الرقابة، هذه الخطوة عززت قدرة الدولة على التخطيط الاقتصادي والاجتماعي استنادًا إلى بيانات دقيقة ومحدثة، وهو ما يمثل تحولًا نوعيًا في القدرات الحوكميّة مقارنة بالاعتماد السابق على تقديرات جزئية.
رابعًا: البنية التحتية الرقمية – من العناوين الإلكترونية إلى البلوكتشين
في عالم يعتمد على البيانات والمعلومات أكثر من اعتماده على المواد الخام، استثمرت غانا في بناء بنية تحتية رقمية شاملة.
وفي سياق ذلك، إطلاق نظام “غانا بوست جي بي إس” الذي يمنح عنوانًا رقميًا لكل 5 أمتار مربعة، فتح المجال أمام دمج الشركات الصغيرة والأنشطة غير الرسمية في النظام الاقتصادي الرسمي، من خلال منحها القدرة على التسجيل والحصول على التمويل والوصول إلى الأسواق.
وفي قطاع الأراضي، تتجه الحكومة نحو رقمنة الملكية باستخدام تقنية البلوكتشين، ما يقلل من النزاعات العقارية، ويحسن مناخ الاستثمار، ويضمن الأمن القانوني للمعاملات العقارية.
هذه الإجراءات ليست تقنية فحسب، بل تمثل إعادة هندسة شاملة للعلاقة بين المواطن والدولة، حيث تصبح الأرض والعنوان جزءًا من المنظومة الاقتصادية الرسمية الخاضعة للضرائب والرقابة.
خامسًا: التعليم الرقمي وتنمية المهارات
لا يمكن لغانا أن تبني اقتصادًا رقميًا قويًا دون قاعدة بشرية مؤهلة، ولهذا تبنت الدولة سياسة واضحة لدمج التكنولوجيا في التعليم، وبدعم من البنك الدولي، يجري توسيع نطاق التعلم الإلكتروني وربطه بالمناهج الدراسية، بهدف خلق جيل قادر على المنافسة في سوق العمل العالمي.
ومبادرة “مليون مبرمج” تعد نموذجًا لهذه الرؤية، إذ تستهدف تدريب الشباب على البرمجة، وتحليل البيانات، وتطوير الذكاء الاصطناعي. هذه المهارات لا تزيد من فرص العمل محليًا فحسب، بل تجعل القوى العاملة الغانية قادرة على الاندماج في الاقتصاد الرقمي العالمي.
كما أن جذب شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل “جوجل” التي افتتحت أول مركز أبحاث ذكاء اصطناعي في أفريقيا بأكرا، يعكس أن غانا بدأت تتحول إلى مركز إقليمي للتكنولوجيا، لا مجرد سوق استهلاكية.
سادسًا: التكنولوجيا في ضبط الموارد الطبيعية
قطاع التعدين، خاصة الذهب، كان تاريخيًا مصدرًا رئيسيًا للإيرادات في غانا، لكنه أيضًا كان مسرحًا لممارسات غير قانونية أضرت بالاقتصاد والبيئة، فضلًا على ذلك، استخدام الطائرات المسيرة لمراقبة مواقع التعدين غير القانوني، وتدريب 150 طيارًا لهذه المهمة، يعكس تحولًا في طريقة الدولة لإدارة مواردها الاستراتيجية، هذا النظام يربط الإنتاج الفعلي بالاقتصاد الرسمي، ويحد من تسرب الثروات، ويعزز القدرة على التخطيط للإنتاج والتصدير.
سياسيًا، تمثل هذه الخطوة إعلانًا عن أن غانا لن تسمح بعد الآن بأن تكون مواردها خارج السيطرة المؤسسية، وهو ما يعزز الثقة الاستثمارية داخليًا وخارجيًا.
سابعًا: التحديات السياسية والحوكمة
رغم التقدم الملحوظ، تواجه غانا معضلة الحوكمة والانضباط المالي. الإنفاق الانتخابي المفرط على مشاريع مؤقتة أو غير مكتملة يظل عائقًا أمام الاستدامة الاقتصادية، ويقوض الثقة في السياسات العامة، وهناك مبادرات كبرى مثل “منطقة واحدة، مصنع واحد” فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة بتحويل الاقتصاد من تصدير المواد الخام إلى التصنيع واسع النطاق، مما دفع الدولة للعودة إلى استراتيجيات أكثر تقليدية، مثل إنشاء مناطق صناعية متخصصة لجذب الاستثمارات الأجنبية.
والتجربة تثبت أن التحول الرقمي وحده لا يكفي، بل يجب أن يواكبه إصلاح مؤسسي صارم، وضبط للمالية العامة، وربط الإنفاق الاستثماري بمردود اقتصادي واضح. من دون ذلك، قد تتحول المكاسب الرقمية إلى مجرد تحسينات شكلية لا تغير البنية العميقة للاقتصاد.
ختامًا، لقد أثبتت التجربة الغانية أن التحول الرقمي ليس ترفًا تكنولوجيًا، بل خيارًا سياسيًا وأمنيًا بامتياز، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرة الدولة على التحكم في مواردها، وتحصين اقتصادها، وتعزيز حضورها في النظام الإقليمي والدولي. ومع ذلك، فإن استدامة هذه المكاسب تظل مرهونة بمدى قدرة غانا على تحقيق الانضباط المالي، وتحصين مؤسساتها ضد التقلبات السياسية، وضمان استمرارية الرؤية الاستراتيجية بعيدًا عن اعتبارات الدورات الانتخابية. إن نجاح أكرا في تجاوز هذه المعضلات لن يعيد رسم خريطة التنمية الوطنية فحسب، بل سيمنحها وزنًا جيوسياسيًا متزايدًا في غرب أفريقيا، ويجعل منها نموذجًا للدول التي تسعى إلى القفز من هوامش النظام الدولي إلى قلبه عبر الابتكار المؤسسي والرقمنة الشاملة.