سياسة التدخل الإيجابي: قراءة في أبعاد الانخراط الصيني الجديد في النزاعات الإفريقية

إعداد : محمود سامح همام – باحث سياسي متخصص في الشؤون الأفريقية
- المركز الديمقراطي العربي
في خطوة دبلوماسية غير مسبوقة، دعا مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، رواندا، إلى وقف تدخلها في الشؤون الداخلية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، فقد دعا مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة رواندا إلى أخذ موقف المجتمع الدولي بعين الاعتبار، والامتناع عن تقديم أي دعم عسكري لحركة “23 مارس”، وصوتت الصين لصالح قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي يدين تدخل رواندا في شؤون جارتها الكونغو الديمقراطية، وفقاً لما نقلته صحيفة “نيزافيسيمايا” الروسية. هذا الموقف العلني، الذي جاء على لسان ممثل دولة لطالما عُرفت بسياسة عدم التدخل، يُعد مؤشراً لافتاً على تحول ملموس في نهج الصين الدبلوماسي تجاه القارة الإفريقية، ويفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات جوهرية حول ملامح البراجماتية الجديدة التي باتت تطبع السياسة الخارجية لبكين، ودوافعها الحقيقية من هذا التحول الظاهر.
أولًا: الصين تراجع استراتيجيتها الدولية: التدخل المدروس بديلاً للانكفاء
في ظل التحولات المتسارعة في النظام الدولي، ومع تصاعد المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى، تبدو الصين وقد غادرت مربع الحياد التقليدي لتتبنّى ما بات يُعرف بسياسة “التدخل الإيجابي” كأداة دبلوماسية لحماية مصالحها الاستراتيجية وتوسيع نفوذها العالمي. هذا التحول لا يندرج ضمن إطار استعراضي أو عقائدي، بل يعكس قراءة صينية دقيقة لموازين القوة، وضرورة فرض حضور فعّال في المشهد الدولي المتشابك، لا سيما في مناطق الفراغ التي خلّفها الانكفاء الغربي، وهو تحول مدفوع بعدة عوامل استراتيجية واقتصادية وجيوسياسية:
- تعزيز النفوذ العالمي ومواجهة الهيمنة الأمريكية:
تسعى الصين إلى تعزيز مكانتها على الساحة الدولية من خلال لعب دور أكثر فاعلية في حل النزاعات الإقليمية، كما يظهر في وساطتها بين إيران والسعودية، ودورها المتنامي في قضايا الشرق الأوسط. هذا التوجه يهدف إلى تقديم الصين كقوة بديلة للولايات المتحدة في النظام الدولي، خاصة في ظل تراجع النفوذ الأمريكي في بعض المناطق.
- حماية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية:
مع توسع مبادرة “الحزام والطريق” وزيادة الاستثمارات الصينية في مناطق مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، بات من الضروري لبكين أن تتخذ مواقف أكثر فاعلية لحماية مصالحها الاقتصادية. على سبيل المثال، استثمارات الصين في البنية التحتية والطاقة في هذه المناطق تتطلب استقراراً سياسياً وأمنياً، مما يدفعها للتدخل الإيجابي لضمان هذا الاستقرار.
- 3. الرد على التحديات الأمنية والتكنولوجية:
تواجه الصين تحديات متزايدة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في مجالات مثل التكنولوجيا والأمن. التصعيد الأمريكي في المحيطين الهادئ والهندي، وتغيير سياسات الدفاع في اليابان والهند، يدفع الصين إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وتبني سياسات خارجية أكثر حزماً لحماية مصالحها الوطنية.
- 4. التكيف مع التغيرات في القيادة السياسية:
تحت قيادة الرئيس شي جينبينغ، شهدت الصين تركيزاً أكبر على تعزيز الدور العالمي للبلاد. الحكومة الجديدة، بقيادة لي كيانغ، تواصل هذا النهج مع التركيز على تحقيق النمو الاقتصادي وتعزيز الاستقرار الداخلي، مما يتطلب سياسات خارجية تدعم هذه الأهداف، وفي المجمل، يعكس هذا التحول في السياسة الخارجية الصينية رغبة بكين في لعب دور أكثر فاعلية على الساحة الدولية، مع الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والأمنية، ومواجهة التحديات المتزايدة من قبل القوى الغربية.
ثانيًا: الكونغو الديمقراطية في عين الاستراتيجية الصينية: تقاطع الضرورات الاقتصادية والرهانات الجيوسياسية
تُعدّ جمهورية الكونغو الديمقراطية محورًا استراتيجيًا في السياسة الخارجية الصينية، حيث تتقاطع فيها الأهداف الاقتصادية، الجيوسياسية، والتكنولوجية. تستند هذه العلاقة إلى مجموعة من الدوافع التي تُبرز أهمية الكونغو الديمقراطية في الاستراتيجية الصينية:
- 1. تأمين سلاسل التوريد للمعادن الحيوية
تُشكّل جمهورية الكونغو الديمقراطية ركيزة مركزية في منظومة الأمن الاقتصادي الصيني، نظرًا لما تمتلكه من احتياطات ضخمة من الكوبالت الذي يُعدّ حجر الأساس لصناعات الطاقة المتجددة وتكنولوجيا البطاريات. وإذ تُنتج الكونغو نحو 80% من الكوبالت العالمي، فإن الهيمنة الصينية على 80% من هذه الكميات المستخرجة تجعل من هذا البلد نقطة ارتكاز في معادلة السيطرة العالمية على المعادن الاستراتيجية. هذا التموقع يمنح بكين القدرة على ضمان استمرارية سلاسل التوريد لمصانعها الوطنية، وتأمين هامش من المناورة الجيو-اقتصادية في مواجهة الضغوط الغربية المتزايدة. وفي السياق نفسه، تُدرك بكين أن فقدان السيطرة على هذه الموارد سيُفضي إلى اختلال استراتيجي قد يُضعف قدراتها في السباق التكنولوجي العالمي، لا سيما في ظل تصاعد التنافس حول التكنولوجيا النظيفة.
- تعزيز النفوذ الجيوسياسي في إفريقيا
لا تندرج الاستثمارات الصينية في إفريقيا، وخاصة في الكونغو الديمقراطية، ضمن إطار اقتصادي بحت، بل تمثل جزءًا من منظومة موسّعة لإعادة تشكيل موازين القوى الجيوسياسية في القارة. فمن خلال ضخّ أكثر من 155 مليار دولار منذ بداية الألفية، ترسّخ الصين نموذجًا بديلًا للتنمية قائمًا على الشراكة الندية والاستثمار المباشر، مقابل نهج المؤسسات المالية الغربية المشروط بالإصلاحات. هذا التوجه يُعزّز تموضع الصين كفاعل سياسي موثوق به في إفريقيا، ويمنحها قنوات تأثير على النخب السياسية والاقتصادية في الدول المستقبِلة. أما في الكونغو الديمقراطية، فإن النفوذ الصيني يُترجم في الدعم الدبلوماسي، وفي النفاذ السلس إلى المشاريع السيادية، الأمر الذي يمنح بكين أدوات ضغط مرنة في الساحة الإفريقية الأوسع.
- ضمان السيطرة على سلاسل التوريد العالمية
ضمن استراتيجية الأمن الصناعي الصيني، تشكّل سلاسل التوريد العالمية للمعادن الحساسة رافعة أساسية للحفاظ على التقدم التكنولوجي في مواجهة سياسات الاحتواء الغربي. وبما أن الصين تُسيطر فعليًا على 60% إلى 90% من عمليات تكرير الكوبالت عالميًا، فإن اعتمادها على الكونغو الديمقراطية كمصدر أولي للكوبالت—إذ تُستورد منها نسبة 67.5% من الكوبالت المكرر—يُبرّر سعيها الحثيث إلى حماية مصالحها هناك بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك الدبلوماسية الاقتصادية، التمكين العسكري عبر قوات حفظ السلام، والتأثير على السياسات الداخلية للبلد. وتعي بكين أن أي اختلال في علاقتها بالكونغو سيمتد أثره إلى الصناعات الوطنية الحساسة، خصوصًا في مجالات الطاقة، التكنولوجيا، والدفاع.
- تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتحول الأخضر
مع التزام الصين بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، أصبح من الضروري تأمين مصادر موثوقة ومستدامة للمعادن النادرة التي تدخل في الصناعات الخضراء. ويُعدّ الكوبالت، إلى جانب الليثيوم، من العناصر الأساسية في تصنيع البطاريات القابلة للشحن والمستخدمة في السيارات الكهربائية، والطاقة الشمسية، وتخزين الطاقة. لذلك، فإن استمرارية الوصول إلى الكوبالت الكونغولي تُمثل بالنسبة للصين ليس فقط أولوية اقتصادية، بل أيضًا خيارًا استراتيجيًا لدعم تحولها البيئي ومكانتها العالمية في مجال التكنولوجيا النظيفة. وتعكس هذه الأولوية بُعدًا سياسيًا مهمًا في تماهي السياسات الصناعية الصينية مع الالتزامات المناخية على الساحة الدولية، وهو ما يمنحها شرعية إضافية في قيادة التحولات المستقبلية.
- تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الدول الإفريقية
تُدرك الصين أن تعزيز علاقاتها الثنائية مع الدول الإفريقية، بما فيها الكونغو الديمقراطية، لا يتحقق فقط عبر التمويل، بل من خلال مشاريع تنموية ملموسة تعود بالفائدة المباشرة على المجتمعات المحلية. لذلك، فإن استراتيجيتها تقوم على الربط بين الاستثمارات في قطاع التعدين وتمويل مشاريع البنية التحتية، مثل الطرق والموانئ وشبكات الكهرباء، ما يُعزّز من الاعتماد المتبادل بين الطرفين. وفي هذا السياق، تُوظّف الصين هذه الشراكات لتعميق حضورها الاستراتيجي في المدى الطويل، وتحصين مصالحها ضد محاولات الغرب إعادة تشكيل ميزان القوى في إفريقيا. كما تُستثمر هذه العلاقات في كسب الدعم السياسي داخل المحافل الدولية، وتشكيل تحالفات جنوب-جنوب تُقوّض الهيمنة الغربية التقليدية.
- مواجهة المنافسة الغربية: حماية هامش المناورة الاستراتيجي
تأتي تحركات الصين في الكونغو الديمقراطية ضمن سياق أوسع من التنافس الجيوسياسي مع القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذَين يعملان على تقليص الاعتماد على سلاسل التوريد الخاضعة للهيمنة الصينية. فالموارد الطبيعية في الكونغو، لا سيما الكوبالت والنحاس، تُعدّ من أبرز ركائز الصناعات المستقبلية، مثل المركبات الكهربائية، والطاقة المتجددة، والتكنولوجيا العسكرية. وفي هذا الإطار، تسعى الصين إلى ترسيخ نفوذها الميداني عبر السيطرة المباشرة وغير المباشرة على مواقع الاستخراج، وتوقيع عقود طويلة الأجل مع الحكومة الكونغولية، بما يقطع الطريق على أي اختراقات غربية مستقبلية. كما تسعى بكين إلى إحباط الجهود الغربية الرامية إلى إنشاء “سلاسل توريد بديلة نظيفة”، عبر تعزيز الاعتماد الدولي على بنيتها الصناعية المترابطة مع الكونغو.
- الاستفادة من ضعف البنية التحتية المحلية: توظيف الفجوات التنموية كورقة ضغط
تعاني جمهورية الكونغو الديمقراطية من هشاشة كبيرة في بنيتها التحتية، سواء في مجالات الطرق، أو الطاقة، أو النقل، مما يجعلها بيئة مناسبة لتفعيل النموذج الصيني القائم على “الاستثمار مقابل الموارد”. ويُعدّ اتفاق “سيكومينز” لعام 2008 نموذجًا رائدًا في هذا السياق، حيث قامت الصين بتمويل مشاريع بنية تحتية ضخمة مقابل امتيازات تعدينية ضخمة لشركاتها الوطنية. بهذا الشكل، لا تكتفي بكين بالحصول على المعادن الاستراتيجية، بل تفرض هيمنة على قطاعات اقتصادية وسيادية حساسة، وتربط الحكومة الكونغولية بشبكة من الالتزامات الاقتصادية المعقدة. هذا الأسلوب يُتيح لها أيضًا التحكم في وتيرة التنمية المحلية، وتوجيهها وفقًا لأولوياتها الاستراتيجية دون أن تتحمل أعباء سياسية مباشرة.
- تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الدول الإفريقية: توطيد النفوذ في المحيط الحيوي
تعتبر الصين أن القارة الإفريقية تشكل “محيطًا حيويًا” في سياستها الخارجية، وركيزة لتعزيز مكانتها كقوة عظمى عالمية. وفي هذا السياق، تستخدم الكونغو الديمقراطية كنموذج لعلاقات تبادلية استراتيجية قائمة على الثقة والتكامل، تتجاوز العلاقات التجارية التقليدية. ومن خلال الاستثمارات الموجهة في قطاع التعدين ومشاريع البنية التحتية، تعمل الصين على تكريس علاقات تبعية طوعية بين الدول الإفريقية وشركاتها العملاقة. كما تستخدم هذه العلاقات لتأمين دعم سياسي في المنتديات الدولية مثل الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، مما يُعزز من أدوات الضغط الصينية في الملفات ذات الطابع الجيوسياسي مثل تايوان، أو بحر الصين الجنوبي. الكونغو، بما تمتلكه من أهمية جيولوجية وديموغرافية، تمثل مركز ثقل في هذا المشروع الإفريقي الأشمل.
- تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتحول الأخضر: أولوية بيئية بمضمون جيواستراتيجي
تُدرك الصين أن الحفاظ على مكانتها في الاقتصاد العالمي لا يمر فقط عبر الهيمنة على الأسواق، بل أيضًا من خلال الريادة في التكنولوجيا الخضراء والتحول البيئي. وبما أن الكوبالت والليثيوم يدخلان بشكل مباشر في تطوير بطاريات الليثيوم أيون، ومكونات الطاقة الشمسية، والرياح، فإن السيطرة على مناجم الكونغو الديمقراطية تُعدّ من مستلزمات السيادة التكنولوجية في عالم ما بعد الوقود الأحفوري. لذلك، فإن استثمارات الصين في هذا البلد لا تُترجم فقط كمكاسب اقتصادية آنية، بل كاستراتيجية طويلة المدى لضمان الأمن البيئي، والسيادة الصناعية، والتماهي مع التحولات العالمية في مجال التنمية المستدامة.
- مواجهة المنافسة الغربية (تأكيد واستمرارية): تثبيت النفوذ وردع البدائل
إعادة التأكيد على مواجهة الغرب في هذه النقطة تُبرز مدى مركزية هذا التحدي في التفكير الاستراتيجي الصيني تجاه الكونغو الديمقراطية. إذ لا يقتصر الأمر على حماية المكاسب الحالية، بل يمتد إلى منع تشكّل بدائل محتملة قد تُضعف من هيمنة الصين على السوق العالمية للمعادن الاستراتيجية. ومع إطلاق مبادرات مثل “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية” من قبل مجموعة السبع، باتت الصين ترى في أي انخراط غربي في الكونغو تهديدًا مباشرًا لمصالحها. وبالتالي، تتحرك بكين في اتجاه تعزيز نفوذها العسكري غير المباشر، والدبلوماسي، وحتى الإعلامي، لخلق بيئة مقاومة للنفوذ الغربي، وتحويل الكونغو إلى نقطة ارتكاز دائمة في خارطة نفوذها العالمية.
ختامًا، يتّضح أن التحول في السياسة الخارجية الصينية، كما تعكسه مواقفها الأخيرة تجاه النزاع في الكونغو الديمقراطية، ليس مجرد انزياح تكتيكي بل هو تعبير عن استراتيجية كبرى تسعى إلى إعادة تعريف دور الصين في النظام الدولي. إن ما نشهده هو ولادة دبلوماسية صينية جديدة تتجاوز عقيدة عدم التدخل، لتصبح أكثر انخراطًا وتفاعلاً مع القضايا الإقليمية والدولية، دون أن تتخلى عن منطقها البراغماتي. وبينما تتصاعد حدة التنافس مع القوى الغربية، تظل إفريقيا، والكونغو الديمقراطية على وجه الخصوص، ساحة اختبار حاسمة لقدرة الصين على التوفيق بين الطموح الاقتصادي والانضباط الجيوسياسي، ضمن مشروع أوسع لإعادة تشكيل توازنات القوى العالمية وفقًا لمنطق صيني متجدد.