الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

الصراعات المسلحة في الكونغو الديمقراطية: ديناميكيات النزاع واستراتيجيات تحقيق الاستقرار

إعداد الباحث : محمود سامح همام – باحث سياسي متخصص في الشؤون الأفريقية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية في مطلع عام 2025 تصعيدًا عسكريًا خطيرًا مع استيلاء حركة إم 23 على مدينة غوما، المركز الإقليمي الاستراتيجي في شرق البلاد، وذلك بدعم مباشر من رواندا التي نشرت آلاف الجنود لتعزيز الهجوم. وأسفر هذا التطور عن نزوح آلاف المدنيين، معظمهم كانوا نازحين داخليًا بالفعل، وسط تفاقم الأزمة الإنسانية. وفي 4 فبراير، أعلنت الحركة وقفًا أحاديًا لإطلاق النار، إلا أن حصيلة القتلى كانت كارثية، حيث تراوحت التقديرات بين 900 قتيل وفقًا للأمم المتحدة و2000 وفقًا للحكومة الكونغولية. ويأتي هذا التصعيد امتدادًا لعقود من التدخلات الإقليمية والتنافس على الأراضي والموارد الطبيعية في شرق الكونغو، ما أدى إلى تعميق حالة عدم الاستقرار السياسي، وتصاعد التوترات في العاصمة كينشاسا، خاصة بعد الانتخابات الوطنية في ديسمبر 2023. ومع وجود مليون لاجئ كونغولي خارج البلاد و21 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، باتت الكونغو الديمقراطية واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية وأكثرها تعقيدًا وخطورة على مستوى العالم، مما يستدعي تدخلاً إقليميًا ودوليًا عاجلًا للحيلولة دون مزيد من الانهيار الأمني والإنساني.

وفي هذا السياق، سنناقش في هذا التقرير محاولة استشراف الوضع الراهن للنزاعات المسلحة في جمهورية الكونغو من خلال المحاور التالية:

أولًا: التطور التاريخي للصراعات المسلحة في جمهورية الكونغو: الجذور والأبعاد السياسية

ثانيًا: المشهد الحالي للنزاعات المسلحة في كينشاسا: التداعيات الأمنية والإنسانية

ثالثًا: السيناريوهات المستقبلية للصراعات في جمهورية الكونغو الديمقراطية: التحديات وآفاق الاستقرار

أولًا: التطور التاريخي للصراعات المسلحة في جمهورية الكونغو: الجذور والأبعاد السياسية

  • جذور الصراع وبداية الحروب الكونغولية

منذ عام 1996، شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من أكثر النزاعات دموية في إفريقيا، حيث أدت الصراعات المسلحة إلى مقتل ما يقرب من ستة ملايين شخص. تعود جذور الأزمة إلى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، التي أعقبها نزوح مليوني لاجئ من الهوتو إلى شرق الكونغو، من بينهم متطرفون أعادوا تنظيم صفوفهم داخل البلاد. وتصاعدت التوترات مع نشوء ميليشيات التوتسي المدعومة من رواندا، مما أدى إلى اندلاع حرب الكونغو الأولى (1996-1997)، التي أطاحت بحكم موبوتو سيسي سيكو وأسفرت عن تنصيب لوران كابيلا رئيسًا.

  • حرب الكونغو الثانية والتدخلات الإقليمية

في عام 1998، تفاقمت الأزمة مع اندلاع حرب الكونغو الثانية نتيجة انهيار التحالف بين كينشاسا وكيغالي. أمر لوران كابيلا بانسحاب القوات الأجنبية، مما دفع رواندا وأوغندا إلى غزو البلاد مجددًا بحجة حماية أمنها القومي. تحولت الكونغو إلى ساحة معركة إقليمية، حيث دعمت أنغولا وزيمبابوي وناميبيا حكومة كابيلا، بينما دعمت رواندا وأوغندا مجموعات متمردة لإضعاف النظام الكونغولي. ووسط هذه الفوضى، اغتيل لوران كابيلا عام 2001، وتولى ابنه جوزيف كابيلا الحكم، قبل أن يتم توقيع اتفاقيات السلام في 2002، التي أنهت رسميًا الحرب ولكنها لم تضع حدًا للعنف. 

  • استمرار النزاعات وصعود الجماعات المسلحة

رغم تشكيل حكومة انتقالية بقيادة جوزيف كابيلا عام 2003، استمر عدم الاستقرار في شرق الكونغو، حيث نشأت جماعات متمردة جديدة، أبرزها حركة 23 مارس (M23)، التي دخلت في مواجهات مباشرة مع الجيش الكونغولي بدعم مشتبه به من رواندا. وأدى تدخل بعثة الأمم المتحدة (مونوسكو) إلى تقليص نفوذ الحركة مؤقتًا، لكنه لم ينهِ التوترات الإقليمية.

  • البعد الاقتصادي وتدويل النزاع

تزايدت تعقيدات النزاع مع انتشار عمليات التعدين في شرق الكونغو، حيث تمتلك البلاد أكبر احتياطيات من المعادن الأرضية النادرة المستخدمة في الصناعات التكنولوجية. ومع انسحاب الشركات الغربية، سيطرت الصين على قطاع التعدين عبر صفقات اقتصادية وعسكرية مع النظام الكونغولي. وبرزت مخاوف دولية من احتكار بكين لصناعة التعدين الكونغولية، مما زاد من التوترات الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة في سياق المنافسة على الموارد الاستراتيجية.

  • تداعيات سياسية وأمنية مستمرة

رغم انتقال السلطة إلى فيليكس تشيسكيدي عام 2019، لا تزال الكونغو تعاني من اضطرابات سياسية وأمنية، وانتقادات دولية بشأن نزاهة الانتخابات. كما أن العلاقة المتشابكة بين النزاعات المسلحة واستغلال الموارد جعلت المنطقة ساحة صراع ممتد بين الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، مما يُعقد آفاق تحقيق سلام دائم واستقرار مستدام في البلاد.

ثانيًا: المشهد الحالي للنزاعات المسلحة في كينشاسا: التداعيات الأمنية والإنسانية

تشهد جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية تعقيدًا في العالم، نتيجة عقود من الصراعات المسلحة بين القوات الحكومية والجماعات المسلحة غير الحكومية، إلى جانب الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، والعنف القائم على النوع الاجتماعي. وقد أدى تصاعد حدة النزاع إلى نزوح أكثر من 7 ملايين شخص داخل البلاد، بينما اضطر أكثر من مليون شخص إلى اللجوء خارج الحدود. وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، واصلت دول الجوار مثل أنغولا، بوروندي، أوغندا، ورواندا تطبيق سياسة الباب المفتوح لاستقبال اللاجئين، مما يعكس البعد الإقليمي للأزمة. في المقابل، تستضيف الكونغو الديمقراطية نفسها أكثر من نصف مليون لاجئ وطالب لجوء من دول الجوار، مما يزيد من تعقيد المشهد الإنساني.

  • تصاعد العنف والنزوح الداخلي في عام 2024

شهدت البلاد منذ مطلع عام 2024 موجة عنف غير مسبوقة، حيث أدى تجدد الاشتباكات المسلحة إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا وتشريد أكثر من 738 ألف شخص بين يناير ومارس. وقد تفاقم الوضع في المقاطعات الشرقية، لا سيما شمال كيفو، جنوب كيفو، وإيتوري، حيث أجبرت المواجهات العنيفة بين الجماعات المسلحة آلاف العائلات على الفرار إلى مناطق تعاني أصلاً من محدودية الوصول الإنساني. كما شهدت مواقع النزوح الداخلي توغلات من قبل جماعات مسلحة غير تابعة للدولة، ما أدى إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وتهديد مباشر لحياة النازحين. وفي إيتوري، تصاعد العنف الطائفي، مخلفًا عشرات القتلى وانتهاكات إنسانية خطيرة، بينما بلغ عدد النازحين في النصف الأول من عام 2024 أكثر من 940 ألف شخص، معظمهم تعرضوا للنزوح المتكرر.

  • التداعيات الإنسانية وانهيار سبل العيش

أدت موجات النزوح المستمرة إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، حيث يعاني النازحون من ملاجئ غير كافية، وتدهور خدمات الصرف الصحي، وانعدام فرص توليد الدخل. ومع تصاعد الصراع، يواجه النازحون داخليًا واللاجئون ظروفًا معيشية كارثية في ظل انعدام الموارد واستمرار الهجمات على المدنيين.

  • فشل الاستجابة الدولية وانسحاب قوات حفظ السلام

في أبريل 2024، أصدر رؤساء اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات – وهي هيئة تضم 20 ممثلًا عن المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة – تحذيرًا عاجلًا بشأن تفاقم العنف الجنسي والنزوح القسري والجوع في البلاد. ومع ذلك، جاء هذا التحذير في وقت بدأت فيه بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو الديمقراطية (مونوسكو) انسحابها التدريجي، حيث أنهت عملياتها في جنوب كيفو في أبريل، ونقلت مسؤولياتها الأمنية إلى الحكومة بحلول يونيو 2024. ورغم الالتزامات الدولية بالعمل الجماعي لضمان انتقال سلس، لم يتم بعد تحديد جدول زمني واضح لانسحاب البعثة من شمال كيفو وإيتوري، مما يترك فراغًا أمنيًا قد تستغله الجماعات المسلحة لتوسيع نطاق عملياتها.

ثالثًا: السيناريوهات المستقبلية للصراعات في جمهورية الكونغو الديمقراطية: التحديات وآفاق الاستقرار

  • استمرار النزوح القسري وتفاقم الأزمة الإنسانية

من المتوقع أن يستمر النزوح القسري في عام 2025، لا سيما في المقاطعات الأكثر تضررًا من النزاع المسلح، مما يزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية التي تعصف بالبلاد. مع 27 مليون شخص بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، تظل جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من أكثر مناطق العالم تضررًا من الصراعات وانعدام الأمن الغذائي والتغيرات المناخية والأوبئة. كما أن البلاد تظل مركزًا عالميًا لوباء الجدري المائي، حيث سجلت أعلى معدلات الإصابة عالميًا، ما يضيف تحديًا صحيًا جديدًا إلى الأوضاع المتأزمة.

  • الأولويات الاستراتيجية في الاستجابة الإنسانية

في عام 2025، ستظل حماية المجتمعات المحلية، ورصد انتهاكات حقوق الإنسان، وضمان الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم وسبل العيش من الأولويات الرئيسية للمجتمع الدولي. ومن المتوقع أن يستفيد أكثر من 273 ألف طفل ومقدم رعاية من برامج حماية الطفل، بينما ستُنفذ برامج متخصصة لمكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي يستفيد منها أكثر من 170 ألف لاجئ ونازح داخلي، مما يسهم في تعزيز الأمن الاجتماعي والاستقرار داخل المناطق الأكثر تضررًا.

  • دعم التعليم والرعاية الصحية للاجئين والنازحين

بهدف تمكين اللاجئين من عيش حياة كريمة وتعزيز الاندماج الاجتماعي، سيتم تسجيل نحو 50 ألف طفل في التعليم الابتدائي والثانوي، إلى جانب توفير 90 ألف استشارة طبية ضمن خدمات الرعاية الصحية التي تدعمها المفوضية. كما ستتم زيادة مستويات الاعتماد على الذات من خلال دعم 27 ألف لاجئ وعائد ببرامج اقتصادية تعزز فرص العمل والإدماج الاجتماعي.

  • تعزيز الحماية وآليات الاستجابة للأزمات

ستواصل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قيادة مجموعة الحماية والمأوى وإدارة المخيمات، مع إعطاء الأولوية لتعزيز التدخلات الوقائية ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي، وآليات التخفيف من المخاطر، ودعم المجتمعات في مواجهة التغيرات المناخية. وستسعى الجهود الإنسانية إلى توسيع نطاق الحلول الدائمة، بما في ذلك توفير سبل آمنة ومستدامة للعودة الطوعية وإعادة التوطين.

  • التعاون الإقليمي والدولي لضمان حماية اللاجئين

في ظل استمرار تدفق اللاجئين إلى دول الجوار، ستتعاون المفوضية وشركاؤها مع حكومات أنغولا، بوروندي، رواندا، تنزانيا، أوغندا، وزامبيا لضمان الوصول العادل إلى إجراءات اللجوء، وتعزيز حقوق اللاجئين في التعليم والرعاية الصحية، وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية. كما ستواصل المفوضية قيادة خطة الاستجابة الإقليمية للاجئين، التي تهدف إلى تعزيز التنسيق الإنساني وجذب التمويل لدعم اللاجئين والمجتمعات المضيفة، وذلك بالتعاون مع أكثر من 100 شريك إنساني وتنموي.

  • دعم العودة الطوعية وإعادة الإدماج

مع تحسن الظروف الأمنية في بعض المناطق، ستُعطى الأولوية لبرامج العودة الطوعية وإعادة الإدماج، حيث ستعمل المفوضية على إعادة توطين اللاجئين في دول مثل أنغولا، ملاوي، موزمبيق، ناميبيا، جنوب إفريقيا، وزامبيا. وبحلول 2025، من المتوقع أن يتم تقديم دعم لإعادة الإدماج لأكثر من 16 ألف لاجئ عادوا إلى ديارهم، مما يمثل خطوة نحو تحقيق الاستقرار طويل الأمد.

  • الاستقرار والتحديات المستقبلية

لا تزال التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية تُلقي بظلالها على مستقبل جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث يتطلب تحقيق الاستقرار إصلاحات هيكلية تعزز سيادة القانون، وتحسين آليات الحوكمة، ومعالجة الأسباب الجذرية للنزاع. في ظل استمرار التدخلات الدولية والإقليمية، تبقى فعالية السياسات الوطنية، ومدى قدرة الحكومة الكونغولية على تنفيذ استراتيجيات مستدامة لحماية المدنيين، وتعزيز التنمية الاقتصادية، عوامل حاسمة في رسم ملامح مستقبل البلاد.

ختامًا، تعكس النزاعات المسلحة المستمرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية تعقيد المشهد السياسي والأمني، حيث تتداخل العوامل التاريخية، الإقليمية، والاقتصادية في إطالة أمد الصراع وعرقلة جهود تحقيق الاستقرار. ومع استمرار النزوح القسري، وتصاعد العنف السياسي، وتدهور الأوضاع الإنسانية، يظل التحدي الأكبر هو توفير حلول مستدامة تعالج جذور الأزمة، بدلاً من الاكتفاء بالاستجابات الطارئة، وإن تحقيق سلام دائم في الكونغو الديمقراطية يستدعي إصلاحات سياسية عميقة، وتعزيز سيادة القانون، وتقوية المؤسسات الحكومية، إلى جانب تحقيق تكامل إقليمي ودولي أكثر فاعلية في دعم جهود المصالحة والتنمية. كما أن إدارة الموارد الطبيعية واستغلالها بطريقة شفافة وعادلة تبقى عاملاً حاسمًا في تحجيم نفوذ الجماعات المسلحة، ومنع التدخلات الخارجية التي تؤجج النزاع.

3/5 - (5 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى