الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

العدالة الانتقالية في اليمن وإشكالية السلام المؤجل: قراءة في ضوء العدالة المستدامة

إعداد : ق.د. علي مرشد العرشاني – قاضٍ ودكتور في العلوم القانونية والسياسية – (الجمهورية اليمنية)

 

المقدمة:

تعرف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة من الأدوات والسياسات المتنوعة التي تتخذها المجتمعات المتعافية من النزاعات أو الأنظمة الاستبدادية للتعامل مع إرث الانتهاكات السابقة، وتشمل هذه الأدوات ما بين مقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم حقوق الإنسان، وكشف حقيقة الانتهاكات من خلال لجان الحقيقة، وتقديم التعويضات للضحايا، وإصلاح المؤسسات القضائية والأمنية، بالإضافة إلى بناء مشروع للمصالحة الوطنية(1).

وتهدف العدالة الانتقالية في إطارها الأدنى إلى حماية حقوق ضحايا النزاع عبر آليات معينة بتمكين المسؤولين من تحمل تبعات أفعالهم، ومعالجة آثار النزاعات، ومنع تكرارها، غير أنها تظل أداة محدودة لا تكفي لمعالجة جذور الأزمات المتمثلة في سوء الحوكمة والتمييز التاريخي واللامساواة البنيوية(2).

وتنطلق الإشكالية الرئيسة لهذا المقال من الاعتقاد السائد بأن العدالة الانتقالية في اليمن تمثل العصا السحرية القادرة على معالجة مختلف الانتهاكات وحل جميع الاختلالات، غير أن الواقع يكشف خلاف ذلك، ومن هنا يثار التساؤل: هل ما زالت آليات العدالة الانتقالية في اليمن قادرة على الإسهام في تعزيز السلام والعدالة المستدامة؟ وما هي التحديات والقيود التي قد تجعلها تؤجل حل النزاع أو تفضي إلى سلام هش؟

أولاً: تشخيص واقع العدالة الانتقالية في اليمن:

تنطلق العدالة الانتقالية من الافتراض القائل بأنه لفك تشابك الصلات بين الماضي المعقد والحاضر المليء بالفظائع؛ يجب علينا إعادة بناء أسس الدولة الجديدة لضمان المساءلة وتكريم الضحايا، على الرغم من ذلك يثار جدل نظري حول التوتر الظاهري بين السلام والعدالة.

فهناك من يرى أن المطالبة بالمساءلة القضائية قد تعرقل مفاوضات السلام، إذ يرفض بعض الفاعلين السياسيين -الذين قد يواجهون تهماً لاحقاً- الانخراط في ترتيبات انتقالية تهدد مواقعهم، ما يجعل التركيز على المصالحة السريعة خياراً مفضلاً للمحافظة على استقرار هش، وقد مثلت تجربة جنوب السودان مثالاً واضحاً على ذلك حيث امتنعت أطراف النزاع عن المصادقة على محكمة هجينة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات خشية المساءلة، مما كاد أن يقضي على مسار السلام الضعيف آنذاك(3).

فيما يرى البعض أن العدالة الانتقالية تشكل حجر الأساس لتحقيق السلام الدائم وأن تجاهلها سيقوض شرعية المؤسسات الناشئة ويعيد إشعال دورة انتقام دائمة، وتشير بعض الدراسات إلى أن منطق السلام أولاً ثم العدالة لاحقاً قد يؤدي إلى تداعيات سلبية، كما أن استقراء واقع تجارب السلفادور وغواتيمالا وسيراليون وتيمور الشرقية يجعلنا ندرك إلى أن تأجيل المساءلة سيرسخ ثقافة الإفلات من العقاب ويعيد إنتاج دوائر العنف على المدى المتوسط والطويل(4).

غير أن هذا الطرح رغم وجاهته قد يُغفل أحياناً تعقيدات الواقع السياسي والإنساني والعسكري على الساحة اليمنية الذي يجعل المطالبة بالعدالة الجنائية الفورية محفوفة بالمخاطر وعائق أمام إحلال السلام.

ومن هنا برزت النظريات الحديثة الساعية إلى تجاوز ثنائية السلام والعدالة عبر طرح مقاربة تكاملية ترى أن مساري العدالة الانتقالية وبناء الدولة متلازمان ويعزز كل منهما الآخر؛ شريطة أن يتم تصميمهما بما يتناسب مع السياق المحلي وبما يوازن بين مقتضيات الاستقرار ومتطلبات المساءلة.

وبذلك فإن العيوب النظرية المعلنة للعدالة الانتقالية تكمن في كونها عملية مقيدة بالواقع السياسي والاجتماعي؛ إذ قد تضطر إلى تقديم تسويات ومنح بعض المجرمين حصانات وذلك في سبيل حفظ هدوء مؤقت، كما حدث في اليمن بعد أحداث 2011 والتوقيع على المبادرة الخليجية وأليتها المزمنة(5) وإصدار القانون رقم (1) لسنة 2012م بشان منح حصانة من الملاحقة القانونية والقضائية(6)، وهو ما يثير تساؤلات حول جدوى العدالة إذا كان التحقيق مع الجناة ومحاسبتهم عبارة عن مفهوم مجازي.

كما أن تركيز بعض التجارب -ومنها التجربة اليمنية بعد 2011- على المصالحة بالمعنى الواسع على حساب المساءلة أدى إلى شعور الضحايا بالمرارة وعدم الإنصاف وهو ما أدى بدوره إلى إضعاف مشروعية العملية الانتقالية.

وأيضاً فإن الحديث عن العدالة الانتقالية وآليات المصالحة الوطنية بدون وجود رؤية وطنية واضحة، مع تخبط منظمات المجتمع الوطني في طرح مشروع موحد لهذه العملية، وأيضاً عدم التلويح بسلاح المساءلة في ظل استمرار الانتهاكات وحالة الحرب؛ قد يجعل الأطراف المتورطة في هذه الجرائم تتمادى في أفعالها واعتداءاتها لاطمئنانها وضمانها في نهاية المطاف الحصول على العفو والانخراط في المصالحة الوطنية الشاملة.

ثانياً: العدالة الانتقالية والعدالة المستدامة حلول لأجل سلام دائم:

سبق وبينا المقصود بالعدالة الانتقالية، ولكن ما هي العدالة المستدامة؟

بصراحة فإن مصطلح العدالة المستدامة (Sustainable Justice) ليس متداولاً بشكل واسع أو مستقراً في الفقه القانوني الدولي كما هو الحال مع مصطلح العدالة الانتقالية، لكنه مصطلح بدأ يبرز في بعض الأدبيات الحديثة خاصة في مجال القانون البيئي والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، حيث تم استخدامه للإشارة إلى النهج طويل الأمد الذي يربط بين العدالة وحقوق الأجيال القادمة(7)، بحيث لا تقتصر العدالة على معالجة الماضي كما في العدالة الانتقالية، بل تمتد لضمان أن الأنظمة القانونية والسياسية والاقتصادية تظل عادلة وقابلة للاستمرار.

فالعدالة المستدامة هي ممارسة السلطة بهدف صون تماسك المجتمع على المدى الطويل من خلال معالجة المشكلات البنيوية التي تهدد استقراره، وتعزيز العلاقات المتبادلة بين الفاعلين المؤثرين، بحيث تصبح العدالة أداة لبناء مجتمع متوازن يحمي نفسه من قوى التفكك، ويعتمد في ذلك على مبادئ قريبة من قواعد حسن النية والإنصاف والعدل، مع تركيز خاص على الأبعاد الاجتماعية للعدالة بوصفها مبدأً قانونياً أصيلاً(8).

ومن خلال ما سبق رأينا بأن العدالة الانتقالية تمثل استجابة لمرحلة ما بعد النزاع من خلال آليات محددة قد تتضمن المساءلة وجبر الضرر والمصالحة والإصلاح المؤسسي، وكل ذلك يهدف إلى التخفيف من حدة الانتهاكات ويعيد بناء الثقة المجتمعية، إلا أن طابعها المؤقت وخضوعها للاعتبارات السياسية كثيراً ما يحد من فعاليتها في معالجة جذور الصراع.

كما تكشف التجارب التاريخية أن العدالة الانتقالية وحدها لا تضمن غاية السلام الدائم والعدالة المستدامة؛ بل يمكن أن تتحول في بعض الحالات إلى عامل مؤقت يثبت التسوية الشكلية للنزاعات، فالتركيز على المكاسب الآنية مع تأجيل المساءلة يؤدي إلى ما يوصف بالسلام الهش، وفي مثل هذه الظروف سيعمق الإفلات من العقاب ثقافة العنف ويفقد الضحايا الثقة بمشروعية المؤسسات خصوصاً في مجتمع كالمجتمع اليمني، وهو ما سيشكل مناخاً قد ينفجر من جديد بصورة أعنف إذا ما ساءت الظروف.

كما أن العدالة الانتقالية في اليمن من وجهة نظري تواجه العديد من التحديات العميقة التي تعيق تحقيق أهدافها، نذكر من أبرزها الانقسام السياسي والمؤسسي الذي يقوض حياد مؤسسات العدالة، وضعف البُنية المؤسسية للدولة، وانعدام الثقة بين المكونات الاجتماعية نتيجة الانتهاكات المتبادلة، فضلاً عن تفشي ظاهرة الإفلات من العقاب واتساع حجم الانتهاكات الإنسانية بما يفوق إمكانات المعالجات الجزئية.

وفي هذا السياق تبرز العدالة المستدامة كإطار أكثر شمولية وواقعية لمعالجة هذه التحديات إذ لا تقتصر على الآليات التقليدية للعدالة الانتقالية، بل تسعى إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة -وعلى رأسها مؤسسات العدالة- على أُسس فاعلة وشفافة، وتعزيز المصالحة المجتمعية طويلة الأمد، ومعالجة الأسباب الجذرية للنزاع بما يمنع تكراره، وهو ما يجعلها قادرة على تحويل مسار العدالة من مجرد تسوية مؤقتة إلى مشروع وطني يربط بين الإنصاف القانوني والتنمية المستدامة في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

فالعدالة المستدامة ينظر إليها كأفق أبعد يتجاوز التدابير الظرفية نحو إصلاحات بنيوية طويلة الأمد تهدف إلى ترسيخ مؤسسات الدولة، وضمان المشاركة المجتمعية، ومعالجة الأسباب المغذية للنزاع.

وبهذا المعنى فإن الجمع بين العدالة الانتقالية كمرحلة تأسيسية والعدالة المستدامة كإطار مستقبلي يعد مدخلاً ضرورياً لتحقيق السلام الحقيقي في اليمن بحيث لا يقتصر فقط على إنهاء آثار العنف المباشرة، بل يؤسس أيضاً لبيئة تحول دون تكراره مستقبلاً.

الخاتمة:

نستنتج من خلال طيات هذا المقال أن العدالة الانتقالية لا تمثل مشروعاً متكاملاً لتحقيق العدالة بقدر ما هي أداة سياسية ظرفية لتجاوز أزمات الماضي، إذ تتسم بعدم الشمولية لاقتصارها على معالجة فترة النزاع أو الاستبداد دون التطرق إلى البُنى العميقة المنتجة للظلم، كما أنها قد تقوم على مقايضات مثل العفو مقابل الحقيقة بما يفضي إلى إفلات الجناة من العقاب ويعمق شعور الضحايا بالخذلان، فضلاً عن تعرض آلياتها للتسييس لخدمة مصالح النخب السياسية والاجتماعية على حساب المصلحة العامة، إضافة إلى محدوديتها الزمنية باعتبارها مرحلة عابرة ما لم يتم تعزيزها بإصلاحات هيكلية تضمن استدامة نتائجها.

ونظراً لذلك طُرحت فكرة العدالة المستدامة بوصفها بديلاً طويل الأمد للعدالة الانتقالية، إذ تستند إلى فلسفة التنمية المستدامة وحقوق الإنسان، وتهدف إلى بناء مؤسسات قانونية وسياسية عادلة تحفظ حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية وتمنع تكرار الانتهاكات، مع التركيز على ترسيخ سيادة القانون عبر إصلاح القضاء والأمن والتشريعات، وتحقيق العدالة الاجتماعية بإدماج الأبعاد الاقتصادية والبيئية والاجتماعية التي يشكل غيابها أرضية للنزاعات، كما تقوم على مبدأ الوقاية من الانتهاكات بدلاً من الاكتفاء بمعالجتها بعد وقوعها.

ولغايات تكامل العدالة وبناء الدولة لا يمكن الاستغناء عن آليات العدالة الانتقالية بصورة نهائية ولكن في المقابل يجب النظر إلى العدالة الانتقالية والعدالة المستدامة كعمليتين متكاملتين تعززان بعضهما البعض لا كأهداف متعارضة، كما يجب أن تتم أي عملية إصلاح بمشاركة واسعة وبتوازن بين الاعتبارات السياسية والحقوقية.

فالسلام المستدام لا يمكن تحققه بنسيان الماضي فقط وفي الوقت نفسه لا يمكن فرض العدالة دون مراعاة هشاشة الواقع السياسي، ولهذا فإن نجاح أي مسار انتقالي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتزام الدولة والمجتمع الدولي ببنائه على قواعد واضحة وتعامل متوازن مع السلام والعدالة على حد سواء.

ويمكن القول في خاتمة المقال أن العدالة الانتقالية رغم أهميتها في إدارة مرحلة ما بعد النزاع إلا أنها كثيراً ما تتحول إلى تسوية سياسية تُغلِب منطق المصالحة الشكلية على منطق العدالة الحقيقية، ومن هنا تبرز الحاجة إلى تكاملها مع العدالة المستدامة التي تتجاوز معالجة الماضي إلى بناء دولة قوية موحدة القرار بمؤسسات مستقرة وقضاء مستقل ونظام قانوني ضامن للحقوق، فضلاً عن إدماج البعد الاقتصادي والاجتماعي كشرط لازم لتحقيق سلام دائم في اليمن قائم على المصالحة العادلة والوقاية من النزاعات المستقبلية.

المصادر:

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى