وعند مصر ..يكرم البرلمان أو يهان
بقلم : د. إبراهيم حسن الغزاوي
خبير دولي في إدارة الانتقال والإصلاح المؤسسي
-المركز الديمقراطي العربي
أيام قلائل …وتبدأ الاختبارات الحقيقية لكل أعضاء البرلمان المصري الجديد…
وهي بالفعل اختبارات عميقة .. لأنها تشكل واقعيا سلسلة متشابكة ومعقدة من التحديات والالتزامات والمسئوليات الجسيمة ..التي ربما يعيها بعض من نجحوا في البرلمان ..وربما لا يعيها البعض..
وحتى لمن يعيها ..يجب أن يكتمل الوعي بسياقات العمل البرلماني في الفترة المقبلة …وهي سياقات أقل ما توصف به أنها مضطربة و بعضها مخيف وخطير ….
أما التحديات الثقيلة أمام البرلمان ..فهي تحديات متنوعة …
وأهم هذه التحديات هو أعادة تقديم عضو البرلمان بشكل منفرد في أداءه…وبشكل جمعي في أداء البرلمان مجتمعا، إلى الناس في صورة تتلاءم مع أهمية العمل البرلماني المتعارف عليها في الدول العريقة ديمقراطيا…
فالثابت من تاريخنا البرلماني الحديث ..أن البرلمان في معظمه كما وكيفا وأداءا..كان مجرد جهاز تنفيذي تابع للسلطة التنفيذية… وقلما خرج الأداء البرلماني عن هذا الإطار المخزي ….
وهو بالقطع كان إطار مخزي ..أن يقبل البرلمان أن تهيمن الحكومة على مقدراته وأسلوب العمل به للحد الذي يضيع صورة جهاز التشريع الأوحد..وجهاز الرقابة الأقوى ..وعين وقلب المجتمع النابض بمصالحه …
ولأن البرلمان هو السلطة الأعلى في مجال التشريع …والأقوى في مجال الرقابة..ولأن البرلمان هو السلطة المستقلة التي تمثل جموع الناس …ولأن البرلمان بسلطته وكياناته يشكل هيئة مستقلة تماما ..عن السلطة التنفيذية..ولأن البرلمان بطبيعة واجباته ومسئولياته التي صاغها الدستور..هو السلطة التي تضبط أداء الحكومة وفروعها باعتبارها سلطة تنفيذية..فالعكس دوما هو الصحيح..أي أن تنتهج الحكومة نهجا يتوائم مع البرلمان …
وهنا تتجسد خطورة البرلمان..إذ كيف يكون له السيادة الواقعية …تشريعا ورقابة ومتابعة وتوجيها ..إذا كان أدائه يتسم بتحري رضا الحكومة ويتلمس لها المخارج من سياساتها التى قد تكون أحيانا غير مواتية للمصلحة العامة من وجهة نظر الفرد والمجتمع أو بعضه ….
ولن ندرك قيمة التشريع ودور البرلمان فيه إلا إذا اكتمل علمنا بأن رقي الشعوب لا يقاس بما تملكه من أموال ..ولا ما تحوزه من متاع أو تقف عليه من تاريخ أو مجد..بل في سيادة القانون فيها …واحترام الفرد بصفته كإنسان … وهنا يكون البرلمان هو حجر الزاوية في الارتقاء بالوطن..وكيف لا هو منوط به مراجعة التشريعات الغزيرة .والقديمة..ليتيقن من استوائها على جادة العدل وميزان الكفاية ..فمن القوانين ما ظلم .. كما يتيقن من انضباطها في مسار المقبول من المعايير الدولية للعالم المتحضر..من حقوق وحريات ورسم دقيق لضوابط وأحكام العلاقة بين الفرد والمجتمع والحكومة…
ثم إن حديثنا عن التشريع لن يتم به إنجاز للبرلمان …فالتشريع وإن كان الخطوة الأهم في ميزان العمل النيابي …فهي تصبح بلا قيمة إن لم يتلو ضبط التشريعات التيقن من احترام السلطة التنفيذية لها … وهنا يأتي الدور الثاني للبرلمان..الرقابة على احترام القانون ..والرقابة على الأداء المجمل والمفصل للسلطة التنفيذية… والتيقن بالفعل والرقابة اللصيقة والجادة من احترام الحكومة للتشريعات …وإلا تكون حبرا على ورق ..وكم من تشريعات راقية ظلت حبيسة الأوراق .لأنها لم تحترم…
ولا يجب أن نتغافل عن كون البرلمانات القوية تضطلع بالارتقاء بأوضاع المعايش في المجتمع بشكل شمولي..فالبرلمان يجب عليه أن يتلمس في عمله كل مفيد ومنتج وناجح من تجارب البشر، ولو خارج البلاد.. للمدارسة وإمكانية تطبيقه .. هنا فقط يكون أعضاء البرلمان أمناء على الرسالة ….
ثم إننا أمام فترة تحديات متنوعة مجتمعية …منها الداخلي ومنها الخارجي…وفي وقت المخاطر التي تحدق بنا ..يتبدى دور أهم للبرلمان في ضبط منظومة العمل ككل في المجتمع..من خلال رقابته وحرصه الواجب على أن تنساب أمور الإدارة في أفضل مجرياتها المتاحة أما السلطة التنفيذية… وأن يكون البرلمان يقظا لأي محاولة لإضعاف المجتمع أو النيل من الدولة ككيان مؤسسي..أو تعريضها للضرر… وفي ذلك الشأن… تبين لنا أهمية عضو البرلمان الواعي والمثقف والمدرك لأبعاد الوضع المصري…والمقدر للمعاناة التى يعيشها المواطن العادي…والمحيط بطبيعة وقدرات الموارد المتاحة للتعاطي الناجح مع مشكلات مصر المزمنة…
وختاما …فعضو البرلمان يضطلع بواجب ليس قليل الخطر في أن يخرج وينأى بنفسه عن دائرة السقوط في حبائل المغريات المتنوعة والحصانات والامتيازات التي تحيل البرلمان من سلطة تشريعية سامية إلى مركزا للانتفاع والتربح…حيث لم يعد هذا ممكنا اليوم..وبعد ثوريتين متتاليتين … وبعد مجلس شعب 2011 الطائفي الفج الذي حله القانون ولفظته الجموع قبله…وبعد إحباطات متتالية للمصريين ..من تباطؤ مسارات التنمية والتغيير ومحاربة الفساد…
عندما يبدأ البرلمان عمله ..تبدأ معركة الأعضاء الحقيقية..لكي يثبتوا للمجتمع أنهم مواطنين شرفاء ولهم عزم وفيهم تصميم وإصرار ..وأمامهم طموح للتغيير الإيجابي لهذا المجتمع…
هنا ..وهنا فقط ..يكون برلمان مكرما وليس مهانا … مكرما بالعطاء المخلص..وليس مهانا بالانقياد وراء المصالح الشخصية… مكرما بالتفهم الجاد لتحديات الواقع المصري..وضرورة أن تتناغم حركة البرلمان وحركة الحكومة سويا للدفاع عن أمن مصر من ناحية..ومن ناحية أخرى لوضع أسس متينة للانطلاق الاقتصادي والعلمي والثقافي في كافة المجالات .