هندسة الإرادة الوطنية: كيف تصنع الدول استراتيجياتها الشاملة في زمن التحولات الكبرى

بقلم : د.حمدي محمود – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
تمثّل صناعة الاستراتيجية الشاملة في الدولة الحديثة لحظة وعي سياسي ومؤسسي تتجاوز حدود التخطيط التقليدي إلى إعادة اكتشاف الذات الوطنية بكامل مكوّناتها. فالدول لا تُبنى فقط بالقوانين والمؤسسات، بل تُبنى قبل ذلك برؤية تُعبّر عن روحها العميقة وطموحاتها التاريخية وقدرتها على التكيّف مع عالم متغيّر يتسارع فيه الزمن وتتداخل فيه القوة بالمعرفة، والاقتصاد بالسياسة، والهوية بالأمن القومي. ومن هنا فإن صناعة الاستراتيجية ليست مجرد وثيقة حكومية أو خطة خماسية تُودع في الأدراج، بل هي فعل تأسيسي يعيد ترتيب العلاقة بين الدولة ومجتمعها وبيئتها العالمية، ويحوّل الإمكانات المتناثرة إلى مشروع وطني متكامل يشمل الاقتصاد، الأمن، العلاقات الدولية، الثقافة، التعليم، والطاقة، وحتى شكل الدولة الذهني في المستقبل.
تبدأ عملية صناعة الاستراتيجية عادة بإعادة طرح السؤال الجوهري: ماذا تريد الدولة أن تكون؟ هذا السؤال البسيط ظاهريًا هو في جوهره سؤال الهوية والغاية والمصير. تتولّد منه الرؤية الطويلة المدى، تلك التي تُرسَم لعقود لا لسنة أو اثنتين، وهي رؤية تُعبّر عن الطموح الوطني في الأمن والازدهار والكرامة والتنمية. ثم تأتي لحظة التحليل الموضوعي حيث تخضع الدولة لتشخيص شامل لواقعها: نقاط القوة، مصادر الضعف، فرص النمو الممكنة، والتهديدات التي تتربّص بها داخليًا وخارجيًا. هنا تُستدعى أدوات التحليل الحديثة، من نماذج SWOT إلى تحليل أصحاب المصلحة، ومن قراءة الاتجاهات العالمية إلى بناء سيناريوهات مستقبلية تُختبر بها قدرة الدولة على الصمود أو التراجع أو التقدّم. هذا التشخيص لا يهدف فقط إلى معرفة ما هو موجود، بل إلى كشف ما هو غائب أيضًا، وما يجب تغييره أو ترميمه أو بناؤه من جديد.
ومع اكتمال التشخيص تبدأ المرحلة الأكثر حساسية: تحويل الرؤية إلى منظومة خيارات سياسية واستراتيجية تتوزع على ميادين متعددة، من الأمن القومي إلى الاقتصاد، ومن التعليم والبحث العلمي إلى الصحة والبنية التحتية، ومن الدبلوماسية إلى الثقافة والهوية الوطنية. ويتطلب هذا التحويل قدرة على صياغة أهداف قابلة للقياس، ومؤشرات أداء دقيقة، وجداول زمنية واضحة، ومواءمة مع الموازنات العامة والموارد المتاحة. فنجاح الاستراتيجية لا يُقاس بما تحتويه من أفكار عظيمة، بل بمدى قابلية هذه الأفكار للتحقق على أرض الواقع، وبمدى قدرة مؤسسات الدولة على تنفيذها بفعالية وكفاءة. وهنا يتجلّى دور البنية المؤسسية، حيث لا بد من وجود هيئة وطنية عليا تتولى التنسيق بين الوزارات والقطاعات المختلفة، وتشرف على سير التنفيذ، وتعيد توجيه المسار عند ظهور انحرافات أو تحديات غير محسوبة.
لكن الاستراتيجية ليست عملًا تقنيًا فحسب، فهي مشروع سياسي بامتياز يحتاج إلى إرادة حقيقية تتجاوز الحسابات الضيقة وتعقيدات البيروقراطية. فالدول التي تنجح في بناء استراتيجيات شاملة هي تلك التي تُدير مواردها بحكمة، وتخلق توازناً بين طموح الحاضر واحتمالات المستقبل، وتتمتع بقيادة واعية قادرة على إقناع المجتمع بأن التغيير ضرورة لا ترفًا. كما تعتمد على إشراك المواطنين والقطاع الخاص والمجتمع المدني في فهم الأهداف الكبرى ودعمها، فلا تنجح أي رؤية وطنية إذا بقيت حبيسة المكاتب أو حكراً على النخب السياسية. المشاركة هنا ليست مجرد شعار، بل شرط أساسي يمنح الاستراتيجية شرعية مجتمعية تمنع تصادمها مع مصالح الناس وتُضفي عليها قوة الدفع الشعبي.
ومع بدء التنفيذ، يبدأ الاختبار الحقيقي. فالاستراتيجية الشاملة ليست وثيقة ثابتة، بل كائن حي يحتاج إلى متابعة وتقييم وإعادة ضبط مستمرة. تتغير الظروف، تتقلب الأسواق، تظهر أزمات مفاجئة، وتفرض البيئة الدولية معادلات جديدة. ولذا تنجح الدول التي تمارس ما يمكن وصفه بـ«الحكمة الديناميكية»، أي القدرة على الثبات في الهدف والمرونة في الوسيلة. وترتبط هذه المرونة بامتلاك الدولة لنظام معلومات وبيانات دقيق يسمح لها بقياس الأداء وتحديد مكامن الخلل وإعادة التوجيه بسرعة. كما ترتبط بوجود ثقافة مؤسسية تحتفي بالابتكار وتحارب الجمود، وتعيد تعريف النجاح على أنه عملية تراكمية لا إنجاز لحظة واحدة.
ولأن الاستراتيجية مشروع طويل الأمد، فإن أعظم ما يهددها ليس الأزمات الخارجية بقدر ما يهددها الاضطراب السياسي الداخلي، أو ضعف المؤسسات، أو غياب الكفاءات، أو هيمنة المصالح الضيقة. هذه العوامل قادرة على تعطيل المسار وإهدار الجهود وإفراغ الأهداف من مضمونها. لكن الدول التي تدرك قيمة الاستراتيجية تدافع عنها باعتبارها الضامن لاستقرارها ونموها وسيادتها، فتعمل على تحصين مؤسساتها، ورفع كفاءة كوادرها، وتوسيع قاعدة الشراكات الداخلية والخارجية، وتوفير التمويل اللازم لاستمرار البرامج الحيوية، كما تعمل على بناء ثقافة وطنية تجعل من الرؤية المشتركة مرجعاً عاماً يوجّه حركة المجتمع والدولة معاً.
وفي نهاية المطاف، فإن صناعة الاستراتيجية الشاملة ليست خيارًا ترفيًّا، بل هي ضرورة وجودية في عالم أصبح شديد التعقيد، تتصارع فيه القوى الكبرى، وتتنافس فيه الدول على النفوذ والتكنولوجيا والموقع الجيوسياسي والموارد. الدول التي لا تمتلك استراتيجية شاملة تصبح رهينة الظروف، وتفقد القدرة على التحكم في مصيرها. أما الدول التي تمتلك رؤية واضحة وإرادة صلبة ومؤسسات فعّالة، فهي التي تستطيع أن تبني مستقبلها بوعي، وأن تحوّل التحديات إلى فرص، وأن ترتقي بقدراتها الوطنية إلى مستوى يناسب تطلعات شعبها ومكانتها في العالم.
هذه هي هندسة الإرادة الوطنية: لحظة تلتقي فيها الرؤية بالمؤسسة، والهدف بالقدرة، والطموح بالإمكان، ليولد منها مشروع وطني شامل يضع الدولة على طريق الاستدامة والقوة والازدهار.


