الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

التحول البحري الصيني : قراءة في دلالات التحديث العسكري واستراتيجية تجنب الصدام الإقليمي

بقلم : د. محمد حسين سبيتي_ مدير مركز بينة للدراسات في لبنان وباحث في الشأن الصيني

  • المركز الديمقراطي العربي

 

تشهد الصين في العقد الأخير طفرة غير مسبوقة في تطوير قدراتها العسكرية، ولا سيما البحرية منها، في سياق تحولات استراتيجية أوسع ترتبط بتعاظم التحديات الأمنية في محيطها المباشر، وتزايد التوترات مع الولايات المتحدة وحلفائها في شرق آسيا. وقد انتقلت بكين من مقاربة دفاعية تقليدية، ظلّت ملازمة لسياستها البحرية منذ سبعينيات القرن الماضي، إلى تصور أشمل يقوم على بناء قوة قادرة على الردع وإظهار النفوذ خارج المياه الإقليمية، بما ينسجم مع رؤية الرئيس شي جين بينغ لتحويل الصين إلى قوة بحرية كبرى بحلول منتصف القرن.

أولًا: البيئة الاستراتيجية وضغوط الجغرافيا البحرية

تتفاعل سياسة التحديث العسكري في الصين مع بيئة إقليمية تتسم بارتفاع مستوى التهديدات، أبرزها النزاعات السيادية في بحر الصين الجنوبي، والاحتكاك البحري والجوي حول بحر الصين الشرقي، والملف الحسّاس المتعلق بتايوان. وفي هذه المساحات المتوترة، ترى بكين أن تعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية أصبح ضرورة لحماية خطوط الملاحة الحيوية التي تنقل الجزء الأكبر من تجارتها ومواردها الاستراتيجية، إضافة إلى التعامل مع سيناريوهات تتراوح بين الحصار البحري والتدخل العسكري متعدد الأطراف.

وتشير البيانات المتاحة إلى توسّع كبير في البنية التحتية لقوة الصواريخ الصينية خلال السنوات الأخيرة، بما تجاوز 60% في بعض التقارير الرسمية، الأمر الذي يعكس توجهًا نحو بناء مظلة ردع صاروخية متقدمة تدعم الأداء البحري والجوي في محيطات النزاع.

فقد كشف تقرير لشبكة CNN في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، بمراجعة صور أقمار اصطناعية وخرائط رسمية أن أكثر من 60% من أصل 136 منشأة مرتبطة بإنتاج الصواريخ أو تابعة لقوة الصواريخ في الجيش الصيني شهدت توسعًا ملحوظًا في المساحة والمرافق خلال السنوات الخمس الماضية. وذكر التقرير أيضًا توسعًا بأكثر من مليوني متر مربع في المنشآت الإنتاجية بين عامي 2020 و2025.

ثانيًا: سفن Type 076 و”فوجيان”… تكامل القوة العميقة

ضمن هذا المسار الذي يرتكز على التطور النوعي المستجد، والذي تمثل بالكشف عن منصات مثل Type 076 والسفينة الجديدة “سيتشوان”، في خطوة نوعية بإطار إعادة تشكيل قدرات البحرية الصينية. فهذه الفئة من السفن تتجاوز الدور التقليدي لسفن الإنزال البرمائي، لتقترب من مفهوم “حاملة الطائرات المسيّرة” بفضل اعتمادها على تقنيات الإطلاق الكهرومغناطيسي (EMALS) ومنصات تشغيل الطائرات غير المأهولة والأنظمة الشبكية التي تسمح بالتحكم بعمليات معقدة عن بعد.

وتُعد سفينة Type 076 الهجومية البرمائية الصينية أحدث قفزة نوعية في الترسانة البحرية لبكين، حيث تمثل أول سفينة هجينة في العالم مصممة للعمل كـ “حاملة طائرات مسيّرة” ضخمة (بإزاحة تتجاوز 40 ألف طن)، وذلك بفضل تجهيزها بنظام المنجنيق الكهرومغناطيسي (EMALS) المتطور، مما يمنحها القدرة على إطلاق أسراب من الدرونز والطائرات الثابتة الجناح بفعالية غير مسبوقة. ويرتبط هذا التطور الاستراتيجي ارتباطًا وثيقًا بالتحديات الجارية، إذ يهدف بشكل أساسي إلى تعزيز قدرات الصين على إسقاط القوة في سيناريوهات معقدة مثل غزو أو حصار تايوان، كما يمثل ردًّا مباشرًا على الهيمنة البحرية الأمريكية من خلال دمج قدرات الإنزال البرمائي والحرب الجوية غير المأهولة.

أما حاملة الطائرات “فوجيان”، فتُعدّ أول منصة صينية بمحطة دفع كهربائية كاملة وقدرات إطلاق متقدمة تضاهي أحدث حاملات البحرية الأمريكية. وتعكس هذه التطويرات رغبة بكين في تضييق الفجوة النوعية مع واشنطن، بل وخلق مساحات جديدة للقوة الصينية في البحار المفتوحة.

هذا التكامل بين السفن الهجومية، والمنصات المسيّرة، وأنظمة الصواريخ بعيدة المدى يؤسّس لما يمكن وصفه بـ”القوة العميقة”، أي القدرة على تنفيذ عمليات هجومية أو دفاعية واسعة النطاق على مسافات تتجاوز سلسلة الجزر الأولى والثانية، مع إمكان التحكم بالفضاءات البحرية والجوية المحيطة بتايوان في سيناريوهات التصعيد.

ثالثًا: تايوان… العقدة المركزية في الاستراتيجية الجديدة

تشكل تايوان محورًا رئيسيًا في هندسة القوة الصينية، لاعتبارات قومية وأيديولوجية، إضافة إلى أنها تمثّل نقطة ارتكاز استراتيجية للتحكم بالمضائق البحرية الحيوية والانتشار في المحيط الهادئ. وترى بكين أن بقاء الجزيرة خارج سيطرتها يتيح لواشنطن هامشًا لتعطيل حركة التجارة الصينية أو ممارسة ضغط جيوسياسي خلال الأزمات.

ولذلك، تكثّف الصين مناوراتها الجوية والبحرية حول المضيق، وتجري اختبارات مستمرة لأنظمة الصواريخ والطائرات المسيّرة. وفي هذا السياق، يأتي التوتر الأخير مع اليابان بعد تصريحات مسؤوليها بشأن تايوان، إذ اعتبرت بكين تلك المواقف سابقة نوعية تستدعي ردًا سياسيًا حازمًا، يعكس إدراكها لتنامي التحركات العسكرية الأمريكية – اليابانية المشتركة في المنطقة.

وعن تفاصيل التوتر الياباني الصيني المستجد، وفي تصعيد دبلوماسي حاد، وجهت بكين احتجاجًا شديد اللهجة مطالبة رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي (Sanae Takaichi) بالتراجع عن تصريح أدلت به حول تايوان، حيث وصفت الصين هذا التصريح تحديدًا بأنه “أول تهديد ياباني باستخدام القوة” ضد بكين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قبل 80 عامًا. هذا الوصف غير المسبوق يعكس حساسية الصين المفرطة تجاه أي تدخل ياباني في شأن تايوان، التي تعتبرها بكين جزءًا لا يتجزأ من أراضيها. ويؤكد هذا التوتر أن اليابان، كحليف رئيسي للولايات المتحدة في غرب المحيط الهادئ، أصبحت طرفًا متزايد الأهمية في صراع القوة في بحر الصين الشرقي وحول مضيق تايوان، مما ينذر بمزيد من التدهور في العلاقات بين الجارتين الآسيويتين.

رابعًا: دلالات التوسع البحري… بين الردع وفرض الوقائع

يُظهر تسارع تطوير الأسطول البحري أن الصين تتجه نحو تغيير قواعد التوازن التقليدي في غرب المحيط الهادئ. فمع أسطول يتجاوز 340 قطعة بحرية، أصبحت بحرية التحرير الشعبي الأكبر عددًا في العالم، وتتقدم تدريجيًا في الجودة التقنية عبر: دمج تقنيات الإطلاق الكهرومغناطيسي، توسيع استخدام الطائرات المسيّرة، تطوير قدرات الإنزال البرمائي الهجومية، وتعزيز أنظمة الحرب الإلكترونية والاستشعار المتقدم.

وتُعدّ هذه التطورات مؤشرًا على دخول المنطقة مرحلة جديدة من المنافسة البحرية، قد تعيد صياغة معايير الردع بين بكين والتحالف الأمريكي – الياباني، خصوصًا مع انتقال الصين من “الردع السلبي” إلى “فرض الوقائع” عبر المناورات الواسعة، وتشغيل منصات قد تغير طبيعة العمليات المستقبلية.

خامسًا: كيف تحاول الصين تجنّب مأزق تهديد الجيران الآسيويين؟

رغم النمو المتسارع في القوة البحرية، تدرك بكين أن أي إشارة إلى نوايا توسعية قد تدفع جيرانها الآسيويين اليابان، كوريا الجنوبية، الفلبين، فيتنام، والهند إلى تشكيل اصطفافات مضادة وتعزيز الوجود الأمريكي في المنطقة. لذلك تتبع الصين سياسات مزدوجة تجمع بين القوة والضبط:

1. الدبلوماسية الوقائية
تستخدم قنوات سياسية مبكرة لاحتواء الاحتكاكات، وتعتمد على منتديات آسيوية متعددة الأطراف، وتفضّل حلولًا هادئة لتجنب الانجرار إلى أزمات مفتوحة.

2. الحياد البراغماتي
تجنّب الاصطفاف الحاد في النزاعات الإقليمية، وتقديم نفسها كطرف متوازن يركز على المصالح الاقتصادية المشتركة.

3. التعويل على التعاون الاقتصادي
من خلال مبادرة “الحزام والطريق” والشراكات التجارية، تسعى الصين إلى جعل التكلفة الاقتصادية لأي صدام عسكري مرتفعة بما يكفي لردع خصومها.

4. خطاب الأمن المشترك
تسعى بكين إلى إعادة صياغة قواعد الأمن الإقليمي بعيدًا عن “الهندسة الأمريكية” التقليدية، عبر الدعوة إلى أمن جماعي لا يقوم على التحالفات العسكرية الصلبة.

5. التحكم في وتيرة الظهور العسكري
رغم تسارع التحديث، تتجنب الصين إطلاق رسائل هجومية صريحة، وتصر على أن برامج التسلّح تهدف إلى “الدفاع الوطني” وليس تغيير الحدود.

نحو معادلة ردع جديدة في آسيا والمحيط الهادئ

يمثل التوسع البحري الصيني جزءًا من مشروع استراتيجي طويل المدى يهدف إلى صياغة بيئة إقليمية تسمح لبكين بالتحرك بثقة، وبناء توازن جديد مع واشنطن، وفرض حضور عسكري قادر على حماية المصالح الحيوية في لحظات التوتر. وفي الوقت نفسه، تدرك الصين أن التحديث العسكري يحمل كلفة سياسية ودبلوماسية، وأن الحفاظ على شبكة العلاقات الآسيوية يقتضي مقاربة محسوبة تجمع بين الاستعراض العسكري والنشاط الاقتصادي الواسع.

إن قراءة التطورات الراهنة تشير إلى أن الصين تدخل مرحلة تُعيد فيها تعريف الردع في غرب المحيط الهادئ، وربما تعيد معها هندسة المشهد الأمني الآسيوي بأكمله، في زمن تتغير فيه معايير القوة وحدود النفوذ بوتيرة غير مسبوقة.

3/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى