إعادة رسم خرائط النفوذ : السباق الفضائي وأشباه الموصلات في ميزان الهيمنة العالمية

بقلم : د حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
يشهد النظام الدولي اليوم تحوّلات بنيوية عميقة تعيد رسم ملامح القوة والنفوذ، وتضع الصين في موقع المنافس الجاد للولايات المتحدة على زعامة العالم. هذا التحول لا يُختزل في مؤشرات اقتصادية أو تفوّق تجاري، بل يتجاوزهما ليبلغ مستويات غير مسبوقة من الصراع التكنولوجي والعسكري والجيوسياسي، يمتد إلى الفضاء وما فوقه، ويغوص في أعماق شرائح السيليكون التي تصنع عقول الآلات. في قلب هذا المشهد، تقف الصين كقوة صاعدة تمتلك مشروعًا استراتيجيًا متكاملًا لا يهدف فقط إلى اللحاق بالولايات المتحدة، بل إلى إعادة صياغة قواعد النظام العالمي ذاته، بما يتيح لها لعب دور المركز لا الهامش بحلول عام 2050.
الصين لم تعد ذلك الكيان النامي الذي يعيد إنتاج منتجات الغرب، بل أصبحت مختبرًا عالميًا للابتكار التكنولوجي. خلال العقد الأخير، ضاعفت بكين استثماراتها في البحث والتطوير، ورفعت من تنافسيتها في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، وشبكات الجيل الخامس، والطاقة المتجددة، والتقنيات الحيوية. في هذا السياق، تبرز مدينة “شنتشن” (والمعروفة باسم وادي السيليكون الصيني نظراً لكونها مركزاً عالمياً لصناعة التكنولوجيا) كرمز للتحول البنيوي في الاقتصاد الصيني، حيث تنتج شركات مثل “هواوي” و”زد تي إي” حلولًا متقدمة في الاتصالات، بينما تنطلق منصات مثل “بايت دانس” و”تينسنت” لتنافس كبرى الشركات الأمريكية في التأثير الرقمي والثقافي. لكن هذه الطفرة لا تحدث بمعزل عن الطموحات الجيوسياسية، بل في سياق رؤية أشمل تسعى لفك التبعية التقنية، وفرض نوع من السيادة الرقمية المستقلة.
في هذا الإطار، تأخذ حرب أشباه الموصلات طابعًا مصيريًا، إذ أصبحت الرقائق الدقيقة بمثابة النفط الجديد في الجغرافيا السياسية. تدرك بكين أن السيطرة على هذه الصناعة تعني امتلاك مفاتيح المستقبل، من الذكاء الاصطناعي إلى أنظمة التوجيه العسكرية. ولذلك، تسعى جاهدة إلى بناء قدرة ذاتية في هذا القطاع، وتستثمر المليارات في تأسيس مصانع للرقائق المتقدمة، وتقليل الاعتماد على الموردين الغربيين، خاصة بعد القيود الأمريكية الصارمة على تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين. في المقابل، تعمل الولايات المتحدة على تحصين موقعها عبر دعم شركة “إنفيديا” و”إنتل” وتشجيع شركات مثل “TSMC” على توطين إنتاجها داخل أراضيها، ضمن ما يُعرف بـ “الاستراتيجية الدفاعية التكنولوجية”، في محاولة لاحتواء الطموحات الصينية. هذا الصراع لا يدور حول أرباح الشركات فحسب، بل يتعلّق بالأمن القومي، وبتحديد من يمتلك أدوات التحكم في الاقتصاد الرقمي العالمي خلال العقود القادمة.
على الصعيد العسكري، تدرك الصين أن التفوق التكنولوجي لن يكتمل دون بنية دفاعية موازية، فشرعت في إعادة هيكلة شاملة لجيش التحرير الشعبي، طامحة إلى جعله قوة “عالمية المستوى” بحلول مئوية تأسيس الجمهورية في 2049. تشمل هذه الخطة تطوير قدرات هجومية فرط صوتية، وتعزيز التفوق البحري والجوي، وتوسيع قاعدة الابتكار في الصناعات الدفاعية المحلية. والأهم من ذلك، هو الانخراط المتسارع في السباق الفضائي، الذي بات اليوم مرآة للهيمنة المستقبلية. الصين لم تكتف بإطلاق أقمار صناعية أو إرسال مسبارات إلى القمر والمريخ، بل أسست محطتها المدارية “تيانقونغ”، وتخطط لإنشاء قاعدة مأهولة على سطح القمر خلال العقد القادم، مما يجعلها المنافس الأبرز لوكالة “ناسا” وبرامج الفضاء الأوروبية. وفي عالم يتزايد اعتماده على البنية التحتية الفضائية لأغراض الاتصالات والمراقبة والملاحة، فإن من يسيطر على المدار، يتحكم بكوكب الأرض.
كل هذه المؤشرات تُظهر أن الصين لا تسعى فقط إلى مجاراة القوة الأمريكية، بل إلى إعادة ترتيب أولويات القوة العالمية وفق رؤيتها الخاصة. وإذا كانت واشنطن تستند إلى تاريخ طويل من الريادة التكنولوجية والعسكرية، فإنها اليوم تواجه تحديات داخلية مقلقة: انقسام سياسي حاد، واحتقان اجتماعي، ومشاكل بنيوية في التعليم والرعاية الصحية، فضلًا عن تصاعد الفجوة الاقتصادية. هذه العوامل تنعكس سلبًا على قدرتها في الحفاظ على قيادة النظام الدولي كما عرفته منذ نهاية الحرب الباردة. ورغم تفوقها النسبي في بعض القطاعات، فإن خسارة جزء من التفوق الاستراتيجي في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي أو أشباه الموصلات أو الفضاء، يهدد موقعها العالمي ويجبرها على الدخول في مواجهات أكثر مباشرة لاحتواء التنين الصيني.
لكن رغم الصعود الصيني اللافت، تظل التحديات الداخلية قائمة: شيخوخة سكانية متسارعة، تباينات تنموية بين الأقاليم، ضغط بيئي متفاقم، وديون محلية مرتفعة. كما أن النموذج السياسي المركزي، رغم كفاءته في إنجاز المشروعات الكبرى، يثير تساؤلات حول جاذبيته على الصعيد العالمي، خصوصًا في دول تؤمن بالتعددية والشفافية. لذا فإن صعود الصين إلى قمة النظام الدولي ليس أمرًا حتميًا، بقدر ما هو مشروط بقدرتها على تجاوز أزماتها، وبتفاعل النظام الدولي مع صعودها.
ومع دخول العالم في مرحلة من السيولة الجيوسياسية، يبدو أن سيناريو 2050 لن يكون نهاية لمنافسة بين قوتين، بل بداية لنظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تتداخل المصالح والتحديات بين قوى رئيسية على رأسها الصين والولايات المتحدة، إلى جانب تكتلات إقليمية صاعدة. لكن المؤكد أن من سيتحكم في الفضاء، ومن سيمتلك أسرار الرقائق، ومن سيقود الذكاء الاصطناعي، هو من سيكتب قواعد اللعبة العالمية الجديدة. وفي هذا السباق المصيري، تبدو الصين في موقع متقدم، لكن النهاية لا تزال مفتوحة على احتمالات شتى.