الايرانيةالدراسات البحثية

الرحلة الصوفية في سينما عباس كياروستامي

اعداد : سعاد زريبي  – قسم الفلسفة المعهد العالي للعلوم الإنسانية – تونس – جامعة المنار

المركز الديمقراطي العربي : –

  • مجلة مدارات إيرانية : العدد الثاني والعشرون كانون الأول – ديسمبر 2023 المجلد 6, دورية علمية محكمة تصدر عن #المركز_الديمقراطي_العربي  ألمانيا –برلين” .تعنى بالشأن الإيراني داخليا واقليميا ودوليا.
  • فصلنامه مدارات إيرانية فصلنامه  أي علمي از طرف مركز دمكراسي عربي برلن منتشر مي شود.
Nationales ISSN-Zentrum für Deutschland
ISSN  2626-4927
Journal of Iranian orbits

 

للأطلاع على البحث “pdf” من خلال الرابط المرفق :-

https://democraticac.de/wp-content/uploads/2023/12/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D9%85%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%83%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%E2%80%93-%D8%AF%D9%8A%D8%B3%D9%85%D8%A8%D8%B1-2023.pdf

مقدمة :

مقدمة لقد مثلت سينما عباس كياروستامي لحظة مميزة من تاريخ السينما الإيرانية و السينما العالمية نظرا لتلك الخيارات الفنية التي سعى الى الاشتغال عليها و تأكيدها داخل السينما بعامة و داخل الشرق السينمائي من جهة أخرى . حازت خصوصية اختيارات كياروستامي تأثيرا و تأثرا كبيرا في ساحة العالمية للسينما و للمهرجانات و داخل مدونات النقد السينمائي الفرونكوفوني و الانغلوفوني و الذي يبدو الاشتغال عليه شحيحا في مجال النقد السينمائي العربي . لقد عبر كياروستامي في أفلامه عن خصوصية العلاقة بين الفيلم و المناخ الثقافي و التراثي الفكري الذي صور و انتج فيه لذلك وجد كياروستامي في موروثه الثقافي الإسلامي و الصوفي و الفارسي ارض خصبة من أجل انتج شكل خاص من السينما متشبعة بتراثها الديني و الصوفي و تاريخها الشعري الزاخر و سنقف في هذا المقال على أهم المميزات الصوفية لسينما عباس كياروستامي من خلال النظر في مفهوم الرحلة الصوفية في سينما عباس كياروستامي نظر لما تعنيه الرحلة في التاريخ الصوفي من دلالات روحية عميقة من جهة و نظرا لما جسدته من خصوصية فريدة في أعمال المخرج الإيراني عباس كياروستامي

1 سينما بين الرحلة و السفر الروحي :

تندرج سينما عباس كياروستامي ضمن سينما الرّحلة ، ولكن لنحترس، فليست الرحلة في هذه السينما مرتبطة بمفهوم الرّحلة أو “التسكع” Balade  الذي تنضوي تحت رايته سينما الواقعية الجديدة في إيطاليا و الموجة الجديدة في فرنسا و الرحلة في أفلام أوزو بوصفها أساس الواقعية، بل إنّها هنا تتّصل بالسّفر بوصفه مفهوما فلسفيا ، شعريا وصوفيا يُضمر ثقافة كاملة : فارسية ،عربية ،إسلامية . وربّما هذا ما جعل الدّارسة سوزان شمس تقول في كتابها سينما عباس كياروستامي ،رحلة نحو الشرق الصوفي : ” تنضوي سينما  كياروستامي تحت ثلاثية أساسية هي : السفر ، الشرق و الصوفيّ”[1].
لقد شكلت الرحلة مفهوما أساسيّا في السينما العالمية ، عجت بها كلّ الأفلام.والمخرج يعتمدها كشكل من أشكال البحث الذي يقود البطل إلى اكتشاف الواقع و كشفه للمشاهد. وطبيعي حينها أن يفرّق النقّاد بين أنواع في السينما مثلما صنع ويليام جي كوستانزو في كتابه السينما العالمية من منظور الأنواع الأربعة[2]،  فقد ميّز بين أفلام البطل المحارب   و الزفاف و الرّعب و وبين أفلام الطريق ، ويعرض  رسما لجغرافيا سينما الطريق في العالم، و يذكر من بينها فيلم العودة من روسيا 2003 ، فيلم الذهاب إلى المنزل صحبة الثور من كوريا الجنوبية 2010 وفيلم السفر وحيدا لآلاف الأميال 2005 من الصين ، ماكس المجنون 1979 ومغامرات بريسيلا ملكة الصحراء 1994 ،المشهد وسط الضباب 1988   و من الولايات المتحدة فيلم حدث ذات ليلة 1934 ، الراكب البسيط 1969 و اركب الحافلة 1996، دون أن ينسى أفلام جان لوك غودار و فرانسوا تريفو عن الموجة الجديدة بفرنسا    و أفلام الواقعية الجديدة بإيطاليا: ألمانيا السنة صفر لروسيليني ، الطريق La Strada لفيليني وفيلم بيرمان التوت البري 1958 بوصفها أيقونات السينما العالمية. تعجّ السينما العالمية بأفلام الطريق وهي سينما ارتبطت بمفهوم أساسي في السينما الواقعية:”البحث”، فكل أبطال أفلام الطريق يبحثون عن صيغة للتذوّت و رسم فلسفة هويّة تخصّهم ، مرتحلين في ثنايا الأزمة الإنسانية و إشكاليات الواقع مشيا على الأقدام أو على الدراجة أو في السيارة   أو في الحافلة.

دي سيكا ،سارق الدراجة ،1948

ينتهي البطل في أفلام الرّحلة إما بالانتحار أو الهروب أو الصّدمة.من الواضح أنّ  سينما الرحلة قد ارتبطت بمأساوية الواقع وسوداويته إزاء ما حدث للإنسان إبّان كل أحداث القرن العشرين ، فهي وثيقة الصّلة بالشّرّ، بالسّقوط في الهاوية من فرط الرؤية ! يقول بطل فيلم هيروشيما حبيبتي: “لقد رأيت كلّ شيء. كيف أستطيع أن أنفي النظر؟ كيف أستطيع أن لا أرى”، إنها مرحلة تلتقي فيها العناصر المتضادّة :الصدمة المحض أمام المتضادات القصوى عند “اكتمال كل شيء”[3]في تلاقيها ! لكنه  الاكتمال الموحش معنى. فهل سترتبط سينما كياروستامي بهذا الفهم السينمائي و التاريخي للرّحلة بوصفها مأزقا يودي بحياة البطل ؟ إطلاقا ، لم تندرج هذه السينما تحت هذا المفهوم الفني للرحلة، ولا المفهوم السينمائي العالمي لها، على العكس،  قد اختار الطريق المقابل لسينما الرحلة ،إنها تبدأ من الألم ، وتنتهي بالاستمرارية ، على الضّدّ من سينما الرحلة العالمية التي تبدأ بالاستقرار       و رغبة المشاهدة و تنتهي بالفاجعة[4]. فلئن كانت الرحلة مع أبطال الواقعية في أغلب الأحيان  تنتهي بانسداد الأفق كالموت أو الجنون فإنّ سينما المخرج الإيراني تنغلق بالانفتاح على الأمل والحياة حيث الطبيعة الخضراء تدلي بستارها على المشهد. ما من ريب في أنّ النّهل من الشعر الصوفي و التشبّع بالثقافة الإسلامية و الفارسية قد ساعدا كياروستامي على أن يكون المخرج المختلف الذي أحدث تغييرا في مفهوم الرحلة. إنّها ترتكز لديه على معاني عدة، هي: “البحث”، “صعوبة الطريق”، فقدان الاتجاهات، الطبيعة الوطن و الرفقة. نجد أن جل أفلام عباس كياروستامي هي أفلام تجسد للسفر الروحي المضني الذي يسعى من خلاله البطل الى البحث و التأكيد على اشراقه بوصفه كائنا بهيا أو مشرق فمنذ فيلمه الأول خبز و زقاق استطاع كياروستامي ان يعلن على الصفة المميزة لأفلامه وهي رحلة البحث و الذي تأصل بشكل متدرج في أفلامه الأكثر شهرة :أين منزل صديقي ؟، و تستمر الحياة ، بين أشجار الزيتون ، ستحملنا الريح ،طعم الكرز ، عشرة و نسخة مطابقة للأصل .

عباس كياروستامي ،طعم الكرز ،1997

لقد مثلت الرحلة في سينما الإيرانية نقطة مشتركة بين جل المخرجين الإيرانيين فنجد أن جل الأفلام الإيرانية تندرج ضمن سياق الرحلة بوصفها سفر روحي محفوف بالوجع و الألم كمثل فيلم الأب لمجيد مجيدي أو رحلة نسيم في فيلم سائق الدراجة لمحسن مخملباف و فيلم ضلال البيضاء لمحمد رسولوف أو رحلة التسكع في فيلم جعفر بناهي تاكسي الذي صور فيه جعفر بناهي رحلته داخل المدينة متسكعا بين شوارع المدينة و التي رصد فيها شخصيات مختلف للمواطن الإيراني في حياته اليومية

يعيش كياروستامي وجمهوره أزمة صعوبة الطريق، إذ يقف البطل دائما أمام مخاطر تمنعه من العبور أو تكشف له صعوبة العبور إلى ما يريد : سواء أ كان مكانا أو شخصا . منذ بداية تجربته في الإخراج السينمائي في فيلم الخبز و الطريق أعلن أنّ الطريق هو المفهوم الرّئيسي الذي لن يغيب عن كل أفلامه ، رغم أنه في ذاك الفيلم لم يؤسس لنفسه منهجه السينمائي بعد، وهو ما يؤكد أنّ الطريق ليس استراتيجيا أو برنامجا فنيا بقدر ما هو ثقافة روحية في تفكير المخرج، تلك الثقافة التي تأسّست على مفهوم “الصّعاب” و السّفر الذي يتطلّب الجهد و العناء، فمنذ بداية الإسلام ارتبط مفهوم السّفر بمفهوم الجهد و التضحية    و ركوب الصّعاب لطلب العلم أو لطلب الرزق أو من أجل الحياة. و يعود  هذا الارتباط إلى القران الكريم الذي يعتبر أنّ المفهوم ذو دلالات شتى و اتجاهات مختلفة، لكن في جميع أشكاله مرتبط بالعلاقة التلازمية بين الحياة الإنسانية و السفر، لعل أبرزها الإسراء بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم مثلما تخبر الآية: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى” الاسراء 1، و خروج آدم من الجنة سفر ابتلاء، وهو الهبوط من العلوّ إلى الأسفل :” قلنا اهبطوا منها جميعا” البقرة 38، سفر إدريس عليه السلام هو سفر العزّ والرفعة مكانا ومكانة، “و اذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا 56 ورفعناه مكانا عليا “57 مريم، سفر النجاة مع نوح عليه السلام ،”اركبوا فيها بسم الله مجراها   و مرساها  إن ربي لغفور رحيم “هود 41 ، سفر الهداية مع إبراهيم الخليل عليه السلام ،”إني ذاهب إلى ربي سيهدين” الصافات 99، سفر الإقبال و عدم الالتفات و هو ذهاب لوط إلى إبراهيم الخليل عليه السلام و اجتماعه به ، سفر المكر و الابتلاء  في قصّة يعقوب  و يوسف عليهما السلام ، سفر الميقات الإلهي لموسى عليه السلام ” و لما جاء موسى لميقاتنا ” الأعراف ،سفر الرضا، سفر الغضب و الرجوع ” ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ” الأعراف 150 ، سفر السعي على العائلة ،سفر الخوف ” فخرج منها خائفا يترقب” القصص 21، سفر الحذر “و إنّا لجميع قادرون” الشعراء” خذوا حذركم”، النساء 81 “و يحذركم الله نفسه و الله رؤوف بالعباد” ،آل عمران[5].
و يعرض ابن عربي في كتابه الإسْفار عن نتائج الأَسفار جملة من ذلك ، وهي سفر القران الرباني ، سفر الخلق ،سفر الابتلاء ،سفر إدريس، سفر النجاة ،سفر الهداية ،سفر الإقبال ،سفر المكر ،سفر الغصب    و الرجوع ، سفر الخوف ، سفر الحذر. ثمّ يحدّد ثلاثة أنواع للأسفار قائلا : ” أما بعد فإنّ الأسفار ثلاثة لا رابع لها أثبتها الحق عز وجل، وهي سفر من عنده ، و سفر إليه، و سفر فيه ، و هذا السفر فيه هو سفر التيه والحيرة ، فمن سافر من عنده فرِبحه ما وجد، و ذلك هو ربحه ، ومن سافر فيه لم يربح سوى نفسه، و السفران الأولان لهما غاية يصلون إليها و يحطون عن رحالهم ، وسفر التيه لا غاية  له”[6]. تؤسّس هذه الأسفار للبنية الداخلية العميقة للثقافة الإسلامية و التي تؤثر بشكل ما في المنظومة الفكرية  و الحياتية للمسلم، فلا غرابة أنْ نجد عباس كياروستامي قد استطاع الانزياح عن مفهوم الرحلة في السينما العالمية بوصفها تسكعا إلى مفهوم السفر بوصفه مفهوما روحيا، فقد تشبّع بهذه الثقافة الروحية الشرقيّة و اتّكأ عليها يفكر بها و من خلالها.
تؤسس سينما الرّجل للرحلة بوصفها رحيلا  في المكان بين الأعلى و الأسفل ، بين الهنا و الهناك ، بين ذاك البعيد المَقصي وهذا القريب ، إنّها ترحال بين الجبال و الهضاب والسهول والتلال و سير في مختلف مجالات الطبيعة كشفا لأسرار الوجود، وهي سفر في الزمان الماضي و الحاضر ، بين الذاكرة و صناعة المستقبل ، سفر في الروح الإنسانية بين أوجاعها وتطلعاتها و أحزانها متشوّقة إلى ما هو أجمل ، من البيّن أنّ هذه الرحلة تروم  الوقوف عند مفاهيم الوجود و اكتناه معانيها : الحياة و الموت، حتمية الموت و حب الحياة ، صعوبة البقاء واستمرارية الحياة. إنّها التّشوّفُ لفهم نظرة الإنسان إلى الكون والوجود     و علاقاته بهما .
الطريق الكياروستامي مليء بالمخاطر و الصعاب ، فهو يشكو من الخطر الذي يهدّد استمرارية الرحلة كصورة الكلب الذي يقطع طريق الطفل أو المنحدرات التي تنذر بالسّقوط ، و قد يودي بسالكها ، مثل مشهد خروج السيارة عن طريقها في فيلم طعم الكرز ولكن العمال يعيدونها إلى اتجاهها الصحيح، فتواصل السير أو أن تشكو الشخصيّة  انعدام معرفة بالاتجاه مثل ما نرى في فيلم ستحملنا الريح أو أنها لا تملك خريطة واضحة لسيرها فتفقد الاتجاهات ، فيحتاج البطل دائما إلى “الدليل” و “المرشد” و “العارف” ، أو أن تشكو تعطلا في إمكانية استمرارية السير  ما يلزم البطلَ بالبحث عن طرق أخرى شأن ما شاهدنا في فيلم و تستمر الحياة حيث تمنع الصّخور السيارات من مواصلة الطريق، أو تحتاج إلى من يدفعها إلى الأعلى كي تستمر ، أو الركض السريع من أجل بلوغ منزل الصديق، تلك الرحلة التي ولّدت في ذهن المشاهد  صورة للترابط بين القريتين من خلال مشاعر الصديق تجاه صديقه. تعتبر الصخور   والمرتفعات و الكلب ..وغيرها المكبلات التي تقطع استمرارية السّفر، لكن أبطال كياروستامي يتجاوزون دائما هذه الصعوبات ويصلون إلى “المنتهى”.

تكمن صعوبة الطريق في سينما  كياروستامي في شكل الطريق  في حدّ ذاتها إذ لا نجد طرقا مستقيمة تصبح الرحلة معها ممكنة  ميسّرة ، كل طرق  عنده ملتوية  حادّة فوق منحدرات ، على رؤوس الجبال العالية ، ضيقة و طويلة المدى ،لا تنتهي، ولكنها تبدأ بصعوبة و تنتهي بانفراج ، تبدأ بتيه و تنتهي بيقين ، نرى البطل في البداية حزينا منهكا شديد التعب ، ثم ينتهي الفيلم سعيدا. و لعل أبرز هذه الطرقات و أقربها إلى قلب المخرج هي تلك الطريق التي صنعها بنفسه و التي تربط بين قرية بوشته     و قرية كوكر حيث يسير الطفل أحمد بور “بلا دليل” !
إنّ طريق الرّحلة السينمائيّة عند  المخرج  كياروستامي تتوافق مع مشاعر التيه و الرغبة في الوصول ، ولذلك يقول عنها فيليب راقال : “الطريق هي أيضا العبور ،القيادة ، مؤقتة، متقلبة، طريق خاصّة من بين جميع الطرق الممكنة التي يختارها البطل”[7] .

عباس كياروستامي ، ستحملنا الريح ،1999

و لئن كانت صعوبة الطريق في  هذه سينما السّمة البارزة لصورتها لديه فإنّ هذه الصعوبة تدفع بالأبطال إلى البحث الدائم ، فهم مسكونون  بهذا مشغوفون به، وبديهي أن يكون الأمر ترجمة أو انعكاسا لما يحمله المخرج من رؤى وأفكار تجد في المساحة الفِيلميّة ما يسمح لها بالبروز بشكل أو بآخر ، ليس هذا مجرّد تخمين أو استنتاج ، فقوله التّالي يسعفنا بما يطمئنّ إليه الباحث ويَرْكُنُ : ” لا أعتقد أن هناك فيلما مهما بلغت أهميته قادر على إيقاف الزمن ، كل شيء يتحرك و السّينما حركة ، المشاهدُ بينما هو جالس في مقعده يشاهد الفيلم يتحركُ ، يذهب بعيدا مع أفكاره و خياله …ربما لأن البحث حتى إن كان بلا غاية أو هدف ، ركن أساسي في فلسفات الشرق . البحث ، الرغبة في الاكتشاف هو ما يحركنا، الحياة بالنسبة إلي حركة ، حتى في سكونها أو ثباتها حركة مادية أو ذهنية”[8]
تنشأ الرحلة  من قرار البحث : البحث عن صديق؟ أو عن البطل الصغير أو عن كيفية العبور أو عن طريقة للذهاب إلى مشاهدة مباراة كرة قدم…؟ و تقوم الرحلة على سؤالين متعلّقين بالاتجاه و بالكيف أي أين نمضي ؟ وكيف نعبر؟
يتحاور البطلان في فيلم ستحملنا الطريق عن الطريق :
[ أين نحن؟ لقد فقدنا الاتجاهات !؟ اقرأ العنوان لترى أين نكون ؟ كم مرة يجب علي أن أقرأه؟

  • بعد الملتقى …تأخذ الطريق المتعرج .
  • هذا هو الطريق المتعرج نحن عليه، بعد هذا الطريق نأخذ الطّريق المنحدر، ثم هناك شجرة واحدة
  • “لا أعتقد أننا سنصل إلى أيّ مكان “
  • “لا يسلك الناس هذا الطريق
  • لا هناك العديد من الطرق المختلفة إنه طريق صعب ، هذا ليس الطريق الرئيسي ،إنه طويل و بعيد ..هذا الطريق أقصر[9].]

تعود بنا هذه الصورة إلى الغزلية عدد 11 في قصيدة لحافظ الشيرازي حيث ذكرت فيها مفردة ((أين)) ست عشرة مرة، وهو ما يؤكد مفهوم التيه في شعر الشيرازي وفي سينما كياروستامي ، تقول بعض أبيات الغزلية :أين صلاح الحال.. أين؟ أين دير المجوس؟… أين الشراب المصفى؟ ..أين سماع الوعظ؟،أين المصباح المنطفئ …؟ “

يعتبر الشيرازي من بين شعراء الفرس الذين أثروا في عباس كياروستامي في السينما كما في الشعر، نهل من ينابيع شعره أجمل الصور السينمائية الشعرية ، و قطف من قصائده أجمل الأقوال ، و اشترك معه في سمة التّيه ، فكلاهما يُعَبّر عن التيه بوصفه قانون الحياة و أساسها . إنّ الحياة هي الطريق، والطريق مليء بالأضداد، ولكن يصل دوما بسالكه إلى “ماء الينابيع” ، انطلاقا من هذا المعنى كان يرفض الطرق المستقيمة فهي تؤدي إلى نهاية محتومة ، في الوقت الذي كان يحثّ فيه على سلوك الطرق المتعدّدة المتشعبة لأنّها تؤدّي إلى الكنوز رامزا إلى ذلك بقوله: “لا تدع التسول حتى تعثر على الكنز[10]  “فعلى الطريق المستقيم لا أحد تائه”، مثلما جاء في كتاب ” غزليّات حافظ الشّيرازي”.
يُسْلم صاحب فيلم طعم الكرز أبطاله إلى ريح البحث عن طرقهم الخاصّة كي يصلوا إلى ينابيعهم الخاصة. إن التيه في تصوره هو “العربدة”، “التسوّل”، “خلوة إلى القلب”، و العالم متقلّب فلا يُعوَّل على الطريق المستقيم ، فلن يخرج منه السّالك بطائل ، في المقابل نجد أنّ التيه هو طريق المعرفة عنده ، وفيه يجب على المرء أن يعرف “لغة السوسن”، كذا ، في نوع من التّرميز والإيحاء إلى المعرفة في شتّى صورها، و الظّامئون إلى الاستزادة من المعارف ريّا لقلقهم يأنفون من أن تضرب الأسوار حولهم فتحول دون بلوغ مرادهم ، فهم يركبون التّيه طريقا للأحرار كالبلابل لا تقبل أن تكون أسيرة في قفص. في هذا الطريق الوجودي الطويل يدعو كياروستامي الإنسان أن يفرح ،أن يقطف الورد ،أن يطمح إلى ينابيع الماء بما هي رمز المعرفة.
ولمّا كان مفهوم الضياع/ التيه  يحمل  معاني فقدان الإنسان بوصلة بحثه عن الحقيقة و المعرفة  وعن كل المعاني الجميلة التي تأسر الوجود بجمالها في ما تواطأ عليه الناّس مضى بنا عبّاس  كياروستامي من خلال هذا المفهوم  إلى الصّورة الشعرية عند الشيرازي، فثمّة يجد الباحث دلالة مغايرة تتجاوز المعنى المبسّط والمختزل للمصطلح إلى أفضية معرفيّة رحبة تمنح مشروعيّة لهذه المعاني التي نجدها في أفلامه. ولئن اختلفت أشكال البحث وصوره لديه، فإنّ قصة البحث عن الصديق في فيلم أين منزل صديقي تظلّ الصورة المميزة لذلك عنده بوصفها تدشّن مجالا إنسانيّا خصبا، وترفع الصّديق إلى مصاف “رفيق القلب” بالنسبة إلى سالك طريق العارفين . ثمَّ إنّ كلّ ما يبحث عنه أبطال كياروستامي ينضوي تحت راية المشاعر الإنسانية الخالصة :الصداقة ،الحب ،الحياة والنفس التي يعود إليها في نهاية كل فيلم .
فلئن تسارعت خطوات أحمد بور وتاهت في البحث عن صديقه متكبدا مشاقّ الطريق و قطّاعه ، فإنّه يجده في نهاية الفيلم في نفسه لأنه عندما يقف أمام باب بيته يضع كراس صديقه تحت ثيابه وفوق صدره على جانبه الأيسر، ويعود ليقوم بالواجب المدرسي بنفسه . و تتكرر الصورة التي تنتهي فيها الرحلة بالعودة إلى النفس في فيلم طعم الكرز فيعود بادي إلى الحياة و إلى نفسه.
إنّ رحلات كياروستامي السينمائيّة محكومة بالطواف الدائم مشيا على الأقدام أو في السيارة ، يصور أبطاله وهم في حركة دائمة يفتحون الطرقات و المسارات . لقد مثلت الطبيعة عنصرا أساسيا في إمكانية حركة “الطواف” في هذه السينما ، ففي حقول الجيلان و فوق السهول المفتوحة رسمت الشخصيات حركة دائرة  تحيط دائما بفكرة ما في رأس البطل . لقد اختار المخرج  من الطبيعة ديكورا رسميّا لأعماله ، خاصّة في أفلام :                       أين منزل صديقي/ وتستمر الحياة / بين أشجار الزيتون / طعم الكـــــــرز
واستمرت في تجربة أفلامه خارج إيران ، نذكر خاصّة فيلم نسخة مطابقة للأصل الذي صُوّر في إيطاليا. إلاّ أنّ البداية في الدّاخل كانت أقرب إلى فكر كياروستامي الشاعر و الفنان النوراني العرفاني المتشبّع بثقافته الفارسية و الإسلامية و الصّوفية.
ترتكز أفلامه على الطواف الدائم، كأنّه يذكرنا  بالرقص الصوفي في الثقافة الفارسية أين يعدّ الدوران الدائم أساس الرقصة الصوفية ، ففي حوار بين محمود القونوي – وهو من أهل الجدال و الحجاج – وجلال الدّين الرّوميّ يسخر  القونوي من استمتاع الرّومي بمشهد الرقص، فيردّ عليه :
” لابد من إزالة ضروب الصدأ       و الرين عن مرايا القلوب “.
ولكن كيف يكون ذلك؟
لابتغاء تصفية الروح لابدّ من السّماع و الدوران . السّماع و الدوران وسيلة لا هدف:

اذهب و أزل الصدأ عن وجه              ثم بعد ذلك تأمل ذلك النور

إن الدوران و السماع علاج للآلام الروحية”[11] ،لأن “الدوران و السماع ،وفق مقولة الشاعر و العارف الإيراني الشهير الحكيم سنائي ، سفر نحو الحق و عوائد الفتح و معاني الكشف ، وهو قوت للروح وحياة للقلب”[12].

يترحل كياروستامي في انتقال متواصل جيئة و ذهابا، لا بداية تبدو ولا نهاية تأتي ،  وفي هذا الانتقال المستمرّ يظهر عالم لم يعد يؤمن بشيء بحيث تصبح أفلامه شكلا من نجوى الحزين و حركته. وتتطابق أفلامه مع ما قاله عمر الخيام في لمّا وصفت رباعياته بالرباعيّات :
” هذه ليست رباعيات ؟ هذه نجوى روح ذابلة معذبة، دوار فكر واقعي النظرة غارق في عدة دوائر ،فهو يدور و يدور ،ودائما ينهض من دائرة ليقع في دائرة ،وهو لا يجد في أي منها قرارا و لا يجد استقرارا”[13].
يختار عباس كياروستامي مغادرة المدينة من أجل أن يطهر أفلامه من أحقادها و قضاياها ،ويرسم بذلك خطوط إفلات تكسر فكرة المركز ،إنها رحلة خارج فضاء المركزي . ربّما يسمح  لنا هذا أن نلحظ – في هذه السينما – تجسّد  فكرة دولوز الأساسية في تاريخ الفلسفة المعاصرة ، يقول دولوز “هناك خطوط لا يمكن إرجاعها إلى مسار نقطة ،خطوط تنفلت من البنية ،خطوط هروب و صيرورات، خطوط دون مستقبل و دون ماض، و دون ذاكرة و ذات مقاومة إزاء الآلة المزدوجة ،أي صيرورة امرأة وليست برجل ولا بإمرأة ،صيرورة حيوان ليس ببهيمة ولا بإنسان. يتعلق الأمر بتطورات لا متوازية بين كائنات لا متجانسة ،تطورات لا تعمل عبر التشكيل وإنما تقفز من خط إلى آخر. يتعلق الأمر بتصدعات  و انفعالات متعذرة الإدراك ،تكسر الخطوط حتى و إن أدى بها الأمر إلى الاستمرار في مكان آخر ،قافزة على القطعيّات الحاملة للدلالة .. الجذمور هو كل هذا ..تكون للخط وليس للنقطة .إنه تكوين تعمير داخل صحراء ما وليس تكوين أنواع أو أجناس في غابة”[14] .
لكن  مع بداية الألفية الجديدة يتغير كياروستامي فيصور فيلمه “عشرة “في المدينة، حيث يعرض العديد من القضايا التي تخصّ المرأة، وهو فيلم يشبه فيلم جعفر بناهي “التاكسي” في الشكل و المضمون.

خاتمة

لقد حولت أفلام عباس كياروستامي المفاهيم الصوفية ،الدينية و الشعرية الى صورة بصرية فنقلتها من اللغة المكتوبة الى الصورة البصرية و كانت أفلامه خير سفير سلام من أجل ثقافة كونية تجسد عمق الروابط الروحية بين البشر رغم كل نوازع الهووية و السياسية. بعيدا عن التطرف الديني للملة سعى كياروستامي من جعل تراث الشرق الفارسي الإسلامي و الصوفي و الشعري رمزا للإنسانية و منطقة للقاء روحي بين البشر .

[1]Sussan Shams, Le cinéma Abbas Kiarostami, Un Voyage vers l Orient mystique, L Harmattan, 2011, p !!

[2] ويليام قيكوستانزو ،السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية ، ت زياد إبراهيم ،هنداوي ،2018،

[3]Jacques Rancière, La Fable cinématographique, Editions du Seuil, 2001, p 166

[4]Voir Jacques Rancière, Courts voyages au pays du peuple, la chute des corps, Paris, Seuil, coll Points Essais, 2o15, p 140

[5]أنظر محي الدين ابن عربي ،رسائل ابن عربي ، كتاب الإسفار عن نتائج الأسفار ،علي بيضون ،لبنان ،2001،ص 353

[7]Philippe Ragel, « Chemin faisant… Avec Abbas Kiarostami », Entrelacs [En ligne], 8 | 2011, mis en ligne le 01 août 2012, consulté le 17 mars 2022. URL : http://journals.openedition.org/entrelacs/235 ; DOI : https://doi.org/10.4000/entrelacs.235

[8]فجر يعقوب، فاكهة السينما الممنوعة، دار كنعان للدراسات والنشر،2002، ص 76

[9] من فيلم ستحملنا الريح

[10]عباس كياروستامي ، غزليات حافظ الشيرازي ،ت ماهر جمو :دار المدى ،ط 1 ،2013 ،ص 197

[11] عطاء الله تدين ،للبحث عن شمس من قونية الى دمشق جلال الدين الرومي و شيخة شمس تبريز، ت عيسى علي العاكوب، دار نينوى، دمشق، ط1، 2015، ص 113،114

[12] المصدر السابق ،ص 210

[13]محمد محمدي،الأدب الفارسي :في أهم رواده و أشهر أعلامه، منشورات قسم اللغة الفارسية وآدابها الجامعة اللبنانية، بيروت، 1967،ص 257

[14]جيل دولوز ،حوارات في الفلسفة و الأدب والتحليل النفسي والسياسة ، ص 37

5/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى