تحليلات

نفوذ الدين في الساحة السياسية الأمريكية

اعداد الباحث : ماهر لطيف – باحث مختص في الشأن الايراني – دراسات حضارية اختصاص حضارة حديثة – صفاقس – تونس

  • المركز الديمقراطي العربي

 

زعمت الدُول الغربية أنّ الفصل بين الدّين والدولة شرط من شروط الديمقراطية ومقياسها النظري، ولكننا عندما نفحص الواقع نجد خلاف ذلك.

منذ أيام خرج ترامب من قبو البيت الأبيض هربا من حصار المُحتجّين على مقتل جورج فلويد وكان يحمل الإنجيل في يده ويُلوّح به في محاولة للاحتكار على السلطة الأخلاقية ولتبرير العنف المُسلّط على المتظاهرين ولتعبئة وحشد الناخبين المُحافظين وخاصّة المسيحيين الإنجيليين البيض الذّين يُعتبرون من بين أكثر مُؤيّديه.

وقد أثار هذا التصرّف حفيظة مُنافسه الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة “جو بايدن” الذي تهكّم عليه قائلا “رفع الرئيس الإنجيل في كنيسة سان جون أمس، آمل أن يكون قد فتحه مرّة واحدة في يوم من الأيام، بدلا من التهديد به، إذا فتحه يوما كان ليتعلم شيئا،إنّ المطلوب منا أن نُحبّ بعضنا مثلما نُحب أنفسنا، وهذا عمل يتطلّب جهدا كبيرا، ولكن لمصلحة أمريكا”

صحيح أنّ دستور الولايات المتحدة الأمريكية قد فصل بين الدين والدولة لكن هذا لم يمنع من تحالفهما، فلطالما تجلّت العلاقة الوثيقة بينهما في شعارات عديدة رفعها مُرشّحون سياسيون على غرار “الربّ يُبارك أمريكا” “وفي الله نثق” و”المسيح هو المُخلّص وهو الحلّ”،

ونجد هذا التأثير أيضا في عبارة “أمّة واحدة بأمر الربّ” الموجودة في قسم الولاء للدولة، وعبارة “نثق في الربّ” المنقوشة على العُملة الأمريكية. ومن هنا تم تصنيف أمريكا بأنّها دولة مسيحية.وهو ما ساعد على إرساء تقليد اجتماعي ديني ميّز الساحة السياسية الأمريكية وطبعها بنوع من الخُصوصية تحت ما يُسمّى بالدّين المدني الذي نشأ مع  صاحب فلسفة العقد الاجتماعي جون جاك روسو(1762) وبلغ ذروة تطوّره مع عالم الاجتماع روبرت بلاّه في كتابه “الدين المدني في أمريكا” (1967).

فالسياسة بما تطرحه من رؤى وخيارات وتوجهات متشابكة بقيم ومُثل وشعارات لم تعد الوحيدة الصانعة للفعل السياسي بل باتت تتوسّل وتستعين بالدّين لإضفاء نوع من المشروعية الأخلاقية باعتباره قُوّة خفيّة في المجتمع قادرة على مدّ السياسي بالدعم اللازم خاصّة عند محاولة تمرير مشاريع شائكة وخلافية تتطلب تضافر قُوى مُتنوّعة وتوافق وطني لضمان انجاحها.

واللاّفت للنظر في التحوّل الأمريكي أنّ السياسة هي التي احتاجت الكنيسة وليس العكس، هذه التحول كان بحاجة إلى مناخ مسيحي خالص نقي من التأثيرات العلمانية، كانت أولى تجلياته مطلع عام 1980 حين عبّر مُرشحو الرئاسة الأمريكية ريغن وكارتر وأندرسون عن ميولاتهم الدينية الصريحة في حملاتهم واجتماعاتهم الانتخابية، فقد عبر ريغن أمام أنصاره المحافظين في دالاس بأنه يتبنّى مفهوم الخلق بمدلوله التوراتي الحرفي كما هو موجود في الكتاب المُقدّس وأنه يُعارض النظرية الداروينية في نظرتها للكون والنشأة، وهذا التصريح له مدلولات عميقة تمسّ عديد الجوانب في المجتمع الأمريكي على غرار التربية والتعليم والأخلاق.

وتميزت حركة الاحياء الديني في تلك الفترة بالرجعية والتشدّد وصنّفت الكتاب والفلاسفة  وميّزتهم على أساس دينهم، عانى من هذا التمييز ارنست همنغواي وجورج اريل والكسندر سولجنيستين، وقد كان للكنائس دور في اختيار رئيس الولايات المتحدة من خلال التأثير على أنصارها للانتخاب شخصية مُعيّنة لا تعادي الكنيسة بل وتلتزم بالقيم المسيحية الأصيلة، نذكر هنا دور الكنسية البروتستانتية في العمل السياسي من خلال مُساندتها لليمين الجديد ودعمها لريغن دفاعا عن قيم العائلة ورفضها للإجهاض واستعمال حبوب منع الحمل و وفرض إقامة القُدّاس في المدارس.

واستطاعت السياسة ولأوّل مرة توحيد كلّ من الكنيسة البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكية رغم حجم الصراع التاريخي بينهما للهيمنة على الولايات المتحدة الأمريكية وبناء تحالف يميني صلب في وجه العلمانية. ساهم هذا التحالف في ظهور المحافظين الجدد أو ما يسمون ب “النيوكون” الذين يستدعون الأدوات الدينية والمعارف اللاهوتية سواء عند تحليلهم الأوضاع الاجتماعية أو عند تبرير ترسيخ القيم الكنسية في المجال العمومي مُبرّرين ذلك بتراجع القيم والأخلاق في المجتمع الأمريكي نتيجة انتشار العلمانية.

وقد تواصل استخدام الدين والاستشهاد بالعبارات الدينية من الكتاب المقدس في عهد كلينتون أيضا، ونذكر هنا خطابه الافتتاحي عام 1997 الذي استهلّه بعبارة من التوراة قائلا “استرشادا بالرؤية القديمة لأرض الميعاد فلنوجه أبصارنا اليوم إلى أرض ميعاد جديدة”، ويعد جورج بوش من أكثر الرؤساء تدينا واستشهادا بالنصوص الدينة لتبرير كثير من مواقفه وخاصة في  تبريره الحرب على أفغانستان (2001) والحرب على العراق (2003) الذي وصفها بأنها حرب صليبية بصريح العبارة وليست زلّة لسان كما قال البعض، وهو بذلك يكشف عن الموقف الديني الأمريكي من الحروب حيث الخير هو الحق المسيحي والشر هو الذي تحاربه أمريكا وهو الإسلام، والذي يعيد على أذهاننا الأسس الدينية التي كانت تقوم عليها جميع الحروب الصليبية في العصور الوسطى بدعم من أعلى هرم السلطة الروحية وهو البابا الذي كان يستند إلى نصوص دينية من التوراة والإنجيل لحث أتباعه على القتال تحت مُسمّى الحروب المُقدّسة، وحتى أوباما الغير مُتديّن لم يسع إلى معاداة الدين بل عمل على كسب تأييد الكنيسة من خلال تأسيسه أول مجلس استشاري لشؤون الأديان في البيت الأبيض كما كان يحرص على الظهور في الكنيسة المجاورة له. لذلك يعتبر موقف ترامب من الدين سواء من خلال استعماله للكتاب المقدس أو من خلال زياراته للكنيسة أمر طبيعي وقديم، وهو مواصلة لسياسات أسلافه الذي حكموا البيت الأبيض وتوسلوا بالدين خدمة لمصالحهم السياسية وإضفاءً للمشروعية على قراراتهم.

هكذا نرى أن التجربة الأمريكية تختلف مع التجربة الأوروبية في الفصل التام بين الدين والدولة، ولا يمكن لنا فهم تاريخ أمريكا المعاصر دون فهم جدلية العلاقة بين الدين والسياسة التي تعد المنظور الكامل للتاريخ الأمريكي، حيث تعد العلاقة بين الدين والسياسة أحد أهم مُؤثّراته ومُحّركاته الخفية. وغدت الدولة المدنية في المنظور الأمريكي هي التي تؤيد الدين من خلال ربط الكنيسة بالدولة تماهيا مع حكام أوروبا القدامى الذين طبقوا مبدأ “الحُكّام على دين مُلوكهم”

وعلى الرغم من استمرار ظاهرة انحسار وتراجع العلمانية في مختلف أنحاء العالم باستثناء أوروبا الغربية، يُعدّ المجتمع الأمريكي من أكثر المجتمعات المتقدمة المتجه بسرعة نحو المزيد من التدين الواضح رغم علمانية النظام السياسي، إلا أن هناك اختلافا في طبيعة مفهوم الدين ونوعه الآن، فالدين الذي تحدث عنه الأنبياء والذي يدعو إلى رفض الظلم وبناء مجتمع فاضل وعادل لم يعد موجودا في زماننا هذا، أمّا الموجود الآن فهو دين جديد يتماشى مع رأسمالية المجتمع ويخضع لآليات السوق ومعادلة العرض والطلب،يتمثل في تأسيس علاقة فردية بين الإنسان والقيم الدينية، فالفرد المعاصر المُتدّين ليس له مؤسسة أو مرجعية تحتكر الدين وتفرضه عليه. بل يختار عن طواعية ما يُريد من المعروض من الأديان كأي بضاعة استهلاكية أخرى، يختار الدين الذّي يُعجبه والذي يتناسب مع وضعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ويُحقق له التوازن النفسي والروحي، وهذا الدين في نسخته الأمريكية يتلاءم مع ما وصلت إليه المجتمعات الإنسانية من حداثة وتقدم.

لذلك فالتدين الأمريكي الحديث يتشابه إلى حد كبير مع التدين اليهودي في إسرائيل حسب حاجة الأفراد ومكانتهم الاجتماعية وميولاتهم السياسية، ولا يشترك أعضاء التحاف المسيحي أو اليهودي بالضرورة في آراء دينية متطابقة ولكنّ الجامع بينهم آراءهم السياسية والقيم المتشابهة والمصلحة التي تكفي لضمان التعاون في تحقيق الأهداف السياسية المشتركة وفي إقامة التحالفات الضرورية.

ويختلف هذا النوع من التدين عن التدين الإسلامي الثابت والغير متحوّل، والذي يقوم على سلطة المرجعية الدينية الحاكمة على الأفراد والجماعات والتي تفرض نوعا من التدين قد يتعارض أحيانا مع الحقوق والحريات رغم محاولات الدولة لتطويعه.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى