الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

من التقسيم الجغرافي إلى التقاسم الوظيفي : شرق أوسط بلا خرائط

بقلم : د. جمال خالد الفاضي – المركز الديمقراطي العربي

 

كلما تابعت أخبار الحرب وتحوّلات الإقليم، وجدت نفسي أمام سؤال واحد: هل ما نعيشه مجرد صراع عابر؟ أم أننا نقف أمام إعادة رسم غير معلنة للمنطقة؟. هذا السؤال لم يكن سياسيًا فقط، بل وجوديًا تقريبًا. فالجغرافيا نفسها، التي طالما اعتبرناها قدرًا ثابتًا، بدأت تتصرّف كأنها مادة سائلة.

لم يدفعني لكتابة هذا المقال مجرّد متابعة لحرب الإبادة أو قراءة لحدث آني يتدحرج ككرة الثلج، بل شعور متزايد بأن الشرق الأوسط الذي نعرفه يتفكك أمام أعيننا من دون أن نمتلك لغة جديدة لشرحه. الخرائط التي حكمت فهمنا للإقليم منذ قرن تتهاوى، والحدود التي بدت ثابتة تتحول إلى خطوط رخوة، والأدوار التي شغلتها الدول لم تعد نفسها.

من هنا جاءت الحاجة إلى كتابة قراءة مختلفة، لا تبحث في تفاصيل الحرب فقط، بل في التحول العميق الذي تعيشه المنطقة: انتقالها من منطق التقسيم الجغرافي الذي ورثناه عن سايكس–بيكو، إلى منطق التقاسم الوظيفي حيث يُعاد توزيع النفوذ لا على الأرض، بل على الأدوار. هذا الإدراك هو ما جعلني أكتب عن شرقٍ يُعاد تشكيله خارج الورق، في واقع تتبدل فيه الأدوار أسرع مما تتبدل الخطوط.

في شرقٍ تتغيّر خرائطه أكثر ممّا تتغيّر فصوله، لا ينجو إلا من يفهم أن الجغرافيا تُكتب بالقوة ولا تُرسم بالحبر. فمنذ مئة عام، وخرائط الشرق الأوسط تُرسم تحت أضواء غرف مغلقة وتُعاد صياغتها فوق طاولات القوى الكبرى أكثر مما تُرسم على الأرض نفسها. لكن ما يجري اليوم يتجاوز كل ما عرفناه من قبل؛ فالعالم يشهد ولادة شرق أوسط جديد، لا خطوطه من حبر، ولا حدوده من حجارة، ولا جغرافيته ثابتة بما يكفي لوضعها في كتاب مدرسي.

حرب غزّة، بما حملته من صدمة تاريخية وما خلّفته من زلازل سياسية وأمنية، لم تكن مجرد جولة عسكرية أخرى في تاريخ الصراع، بل كانت الشرارة التي كشفت أن الإقليم كلّه يعيد ترتيب نفسه، وأن الولايات المتحدة تعيد هندسة النفوذ بما يتجاوز منطق الدول. وفي قلب هذا المشهد، يتصدّر سؤال جوهري: هل نحن أمام سايكس–بيكو جديدة تُصاغ هذه المرة بثلاثة أقلام: القوة العسكرية الإسرائيلية، والاقتصاد العالمي، والقرار الدولي؟. وما الذي يجعل حربًا محدودة جغرافيًا (كحرب غزة) تتحول إلى نقطة انعطاف كبرى في رسم مستقبل الشرق الأوسط؟

في علم الجغرافية السياسية أو الجيوبوليتك، ظلّت الحدود لسنوات طويلة هي جوهر النزاعات، وفي المنطقة، تحديداً، شكّلت الحدود الجنوبية للبنان، وجغرافيا الجولان، وتقسيمات العراق وسوريا، وخرائط الأردن وفلسطين، بؤر الصراع الأساسية.

أما اليوم فقد هذه الحدود قدرتها على تفسير النفوذ أمام نمط جديد من النفوذ يقوم على وجود: مناطق أمنية متداخلة تتجاوز حدود الدول وتذيب الفواصل بينها؛ وفاعلين من غير الدول يتحركون فوق الجغرافيا التقليدية دون الاعتراف بها؛ وتحالفات عابرة للدول توزّع النفوذ وفق المصالح لا وفق الخرائط.  فالجغرافيا، التي طالما كانت أساس الهوية السياسية، أصبحت هامشًا في صراع يتقدم فيه الأمن والاقتصاد على حساب الأرض والتاريخ.

وهذا التحول يتقاطع بشكل مباشر مع منطق الواقعية السياسية التي تُعدّ الإطار الأكثر قدرة على تفسير ما يجري في الشرق الأوسط. فالواقعية ترى أن القوة والمصلحة، هي المحدد الأول لسلوك الدول وبناء الأنظمة الإقليمية. وفي سياق الخرائط المتحركة، تصبح الجغرافيا تابعًا لميزان القوة، ويغدو الأمن قبل السياسة، والتحالف قبل الهوية، وتوازن القوى قبل الشرعية. إنّ ما نشهده اليوم هو نموذج واقعي خالص: نفوذ يُرسم بالأمن، وحدود تتغير وفق القدرة على الردع، وفاعلون يكتبون الجغرافيا بأفعالهم لا بحدودهم الرسمية. وهذا يجعل الواقعية مفتاحًا ضروريًا لقراءة الشرق الأوسط الجديد وفهم دينامياته.

في المشهد الذي يتشكل اليوم، تبرز معادلة غير معلنة: إسرائيل تتصدر المنظومة الأمنية، فيما تحتفظ الولايات المتحدة بحق إدارة الاقتصاد والطاقة والمسارات الاستراتيجية. هذه المعادلة ليست وليدة حرب غزّة وحدها، بل امتداد لرؤية بنيوية تُبنى منذ سنوات: تحويل إسرائيل إلى مركز الأمن الإقليمي، بحيث تُمنع أي قوة محيطة من تقديم بديل أمني ينافسها. صناعة نزاعات قابلة للضبط لا للحل ، بهدف إعادة توزيع النفوذ، لا لإنهائها، لتظل المنطقة في حالة شدّ محكوم بميزان القوة.

أما الولايات المتحدة وبعض القوى الكبرى فتمسك بمفاتيح الاقتصاد والطاقة. لأن النفط، والغاز، والممرات البحرية، والتجارة العالمية ليست جزءًا من معركة الشرق الأوسط، بل من معركة نفوذ القوى الكبرى. وبذلك يتحول الشرق الأوسط من خريطة ثابتة إلى وظائف موزعة: أمن لإسرائيل، اقتصاد لأمريكا، نفوذ متداخل لقوى إقليمية، بينما تُترك الدول المحلية لإدارة ما يتبقى من سيادتها.

على الرغم من أن الحرب بدأت كردّ ظاهر على السابع من أكتوبر، إلا أن تداعياتها تشير بوضوح إلى أنها استُخدمت كمحرّك لإعادة هيكلة المنطقة. فقد تجاوزت نتائج الحرب أسبابها، ولو كانت حربًا للردع فقط، لكان مداها محدودًا. لكن ما يجري اليوم من: توسيع الحرب خارج حدود غزة ، تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، تدخل امريكي، و إعادة صياغة التحالفات خصوصاً الامريكية الخليجية، يدل على مشروع أعمق من مجرد ردّ عسكري. و كما استخدمت حرب العراق لإعادة رسم الشرق الأوسط في 2003، تُستخدم حرب غزّة اليوم لإعادة صياغة النظام الأمني للإقليم. إنها ليست حربًا على غزة فقط، بل على شكل الإقليم القادم.

في النظام الجديد، لم يعد الشرق الأوسط خريطة مغلقة، بل طبقات متعددة من النفوذ تتحرك وتتمدد وتتقاطع: لبنان: حدود تُدار ولا تُرسَم. سوريا: نفوذ دولي متشابك، يوزّع جغرافيتها بين مجموعة من القوى الخارجية. العراق: سلطة هجينة تتقاسمها الدولة والفاعلون المحليون. إيران: طبقة نفوذ عابرة للحدود، تمتد عبر فواعل محلية، وتشكّل توازنًا مضادًا للهيمنة الإسرائيلية، وتجعل حضورها عنصرًا لا يمكن تجاوزه في أي صياغة للنظام الأمني الإقليمي. البحر الأحمر والخليج: انتقال الصراع إلى المجال البحري والممرات العالمية. بينما تتشكل جغرافية فلسطين وفق اعتبارات أمنية أكثر منها في سياق رؤية سياسية.

بهذا الشكل، تختفي الحدود التقليدية ويحل محلها نفوذ وظيفي متغير. وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن الشرق الأوسط خلال العقد القادم سيتحول إلى فضاء نفوذ موزّع بين شبكات من القوى، لا بين حدود الدول. الخرائط ستصبح أقل صلابة وأكثر حركة، والجغرافيا السياسية ستتحدد وفق خطوط السيطرة الأمنية والممرات البحرية وعمق النفوذ الإقليمي، لا وفق ما هو مرسوم على الورق.

وقد نشهد نشوء مناطق عازلة دائمة، وأقاليم نفوذ مشتركة، وخرائط هجينة تتغيّر تبعًا للردع المتبادل أكثر مما تتغيّر بفعل الاتفاقيات. بمعنى آخر، سيصبح الشرق الأوسط فضاءً تتعدد فيه غرف القيادة، وتضعف فيه مركزية الدولة، ويتحوّل فيه الأمن إلى بوصلة إعادة رسم الجغرافيا لعقد كامل على الأقل.

يبدو الشرق الأوسط اليوم، وكأنه يرتدي جلده الرابع في قرن واحد. الخرائط لم تعد معيارًا، والحدود فقدت قيمتها، والجغرافيا لم تعد قدرًا محتومًا، بل تحولت إلى فضاء نفوذ يتبدّل تبعًا لميزان القوة لا تبعًا للتاريخ أو الهويات. حرب غزّة لم تكن الفصل الأخير في كتاب الصراع، بل الصفحة الأولى في كتاب جديد يُكتب الآن، تحت نار المواجهة، وصمت الدبلوماسية، ورقابة القوى الكبرى. إنه كتاب يُعلن نهاية النظام الإقليمي القديم، وولادة شرق أوسط جديد تُهيمن فيه إسرائيل أمنيًا، وتدير فيه الولايات المتحدة وقوى كبرى أخرى الاقتصاد والطاقة، بينما تُترك الدول والمجتمعات لمحاولة اللحاق بواقع يتغيّر أسرع من قدرتها على فهمه أو التكيّف معه.

لقد دخلنا مرحلة الخرائط المتحركة، حيث لا شيء ثابت، ولا تحالف دائم، ولا ميزان قوى مستقر. ويبقى السؤال المفتوح: هل ستتمكن القوى الإقليمية من كتابة روايتها في هذا النظام الجديد… أم ستُكتب عنها مرة أخرى كما حدث قبل قرن؟.

3.3/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى