الدراسات البحثيةالمتخصصة

أثر التكنولوجيا على نظريات الجغرافيا السياسية (الفضاء السيبراني باعتباره إقليم جديد)

The Impact of Technology on Geopolitical Theories (Cyberspace as a New Territory)

اعداد : أيمن عمر –  باحث مستقل، اليمن

المركز الديمقراطي العربي : –

  • مجلة الدراسات الاستراتيجية للكوارث وإدارة الفرص : العدد السادس والعشرون حزيران – يونيو 2025 – المجلد  7 – وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي المانيا- برلين.
  • تعنى المجلة مجال الدراسات التخصصية في مجال إدارة المخاطر والطوارئ والكوارث ،قضايا التخطيط الاستراتيجي للتنمية،  الجيوبولتيك، الجيواستراتيجية، الأمن الإقليمي والدولي، السياسات الدفاعية، الأمن الطاقوي والغذائي، وتحولات النظام الدولي، والتنافس بين القوى الكبرى، إضافة إلى قضايا التنمية، العولمة، الحوكمة، التكامل الأقتصادي ، إعداد وتهيئة المجال والحكامة الترابية , إضافة إلى البحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
Nationales ISSN-Zentrum für Deutschland
ISSN 2629-2572
Journal of Strategic Studies for disasters and Opportunity Management

 

للأطلاع على البحث من خلال الرابط المرفق : –

 

ملخص :

تناولت هذه الدراسة تأثير التقدم التكنولوجي على مفاهيم ونظريات الجغرافيا السياسية، مع التركيز على ظهور الفضاء السيبراني كإقليم جديد للصراع الدولي. تُظهر الدراسة أن الثورة التكنولوجية الراهنة، التي تتسم باندماج الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس والتطورات في الحوسبة الكمومية، أعادت صياغة العلاقات الدولية. يوازي الفضاء السيبراني الأقاليم التقليدية (البر، البحر، الجو، الفضاء الفيزيائي)، لكنه يتسم بسمات فريدة مثل اللامركزية، تضخم دور الفاعلين غير الدولتيين، وصعوبة الإسناد القانوني للهجمات.

تُبرز الدراسة الحاجة إلى إعادة النظر في النظريات الجيوبوليتيكية التقليدية، إذ لم تعد القوة تُقاس فقط بالعوامل المادية، بل أصبحت القدرات السيبرانية عنصرًا حاسمًا. تضمنت الدراسة ثلاثة سيناريوهات مستقبلية للصراع الرقمي: احتكار القوة من قبل أفراد أو كيانات غير دولية، ظهور نظام ثنائي أو متعدد الأقطاب للهيمنة الرقمية، وصراع شامل تتداخل فيه كل الفواعل الدولية وغير الدولية.

في الختام، تؤكد الدراسة أهمية صياغة منظومة قانونية دولية تعزز الحوكمة الرقمية وتحمي الأمن السيبراني العالمي، مع التركيز على بناء القدرات في الدول النامية لمواكبة التحولات الرقمية.

Abstract

This study examines the impact of technological progress on the concepts and theories of geopolitics, focusing on the emergence of cyberspace as a new territory for international conflict. The study shows that the current technological revolution, characterized by the integration of artificial intelligence, fifth-generation networks, and developments in quantum computing, has reshaped international relations. Cyberspace parallels traditional territories (land, sea, air, physical space), but it has unique features such as decentralization, the expanding role of non-state actors, and the difficulty of legally attributing attacks.

The study highlights the need to reconsider traditional geopolitical theories, as power is no longer measured solely by physical factors, but cyber capabilities have become a decisive element. The study includes three future scenarios for digital conflict: the monopoly of power by individuals or non-state entities, the emergence of a bipolar or multipolar system of digital dominance, and a comprehensive conflict in which all international and non-state actors are intertwined. In conclusion, the study emphasizes the importance of formulating an international legal system that enhances digital governance and protects global cybersecurity, with a focus on building capacity in developing countries to keep pace with digital transformations.

مقدمة

تُعَدّ الجغرافيا السياسية حقلًا علميًّا متعدد الأبعاد يُعنى بتحليل علاقات السلطة والنفوذ في إطار الموقع والمساحة والموارد، وقد شهدت عبر تاريخها محطات تحوّل رئيسة تواكب تطوُّر الأدوات والتقنيات التي استخدمتها الدول والقوى المختلفة في سعيها للسيطرة وبسط النفوذ. فمنذ حقبة الإمبراطوريات البرّية الأولى التي ارتكزت على نظرية “القوة البرّية”([1]) عند فريدريك راتزل، مرورًا بصعود القوى البحرية في نهاية القرن التاسع عشر كما أوضح ألفرد ماهان([2])، ثمّ الانتقال إلى عصر “القوة الجوّيّة”([3]) إبان الحربين العالميتين وما رافقه من تغيّرات جذرية في أساليب الحرب والردع، ظلّت العوامل التكنولوجية تؤثر باستمرار في صوغ الرؤى والنظريات حول كيفية إدارة الصراع العالمي والتحكّم بالإقليم.

على مدار القرن العشرين، اكتسب الفضاء الخارجي (منظومة الأقمار الصناعية والصواريخ البالستية العابرة للقارات) بعدًا استراتيجيًّا جديدًا في رسم توازنات القوى بين المعسكرات الكبرى، ولا سيما خلال الحرب الباردة. لكنّ التحوّل الأكثر عمقًا برز في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، حين اندمجت ثورة المعلومات وطفرة الاتصالات الرقمية مع التطورات المذهلة في هندسة الحواسيب والشبكات، ليظهر “الفضاء السيبراني” كميدان افتراضي تتنافس فيه الدول والجماعات والأفراد على حدّ سواء. وبهذا، دخلنا مرحلةً تتجاوز المفاهيم الجيوبوليتيكية القديمة التي تُركّز على السيطرة البرّية والبحرية والجويّة فقط، وأصبح هذا الفضاء الرقمي – بكل طبقاته التقنية والتنظيمية والاجتماعية – جزءًا رئيسًا من منظومة الأمن القومي للدول، ومن ثمّ ساحة صراع حيويّة لا تقلّ أهمية عن سائر الأقاليم المادية.

اليوم، وفي ظلّ الثورة الصناعية الرابعة التي اتسع نطاقها لتشمل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية ، بات النفوذ الرقمي يشكّل جزءًا محوريًّا من سياسات الدول في المجالات الأمنية والاقتصادية والثقافية. ولم يعد ممكنًا عزل مفهوم “القوة” عن تجلّياته الرقمية؛ إذ تظهر طفرات جديدة في عمليات القرصنة والتجسس الإلكتروني والهجمات السيبرانية المنظمة، تقف خلفها أحيانًا دول عظمى وأحيانًا أخرى شركات تكنولوجية أو حتى مجموعات قرصنة ذات إمكانات متقدمة. وبات مصطلح “السيادة الرقمية”([4]) يوازي في أهميّته السيادة التقليدية على الحدود والمياه الإقليمية والأجواء، بل ربما يفوقها في بعض الأحيان نظرًا إلى القيمة الهائلة للبيانات والمعلومات المترتّبة على التحكّم في البنى التحتية الرقمية.

تأتي هذه الدراسة في محاولةٍ لاستكشاف الأطر النظرية والعملية التي تظهر عند تقاطع الجغرافيا السياسية بتطوّرات التكنولوجيا الحديثة، وكيف تسهم هذه التقنيات في استحداث فضاء جيوسياسي جديد قابلٍ لتبديل موازين القوى العالمية. لقد تجلّت أبرز تلك المعالم في بروز “إقليم سيبراني” تحتاج الدول إلى فهم خصوصياته من أجل إدارة المخاطر والفرص الناشئة عنه. وتنبع أهمية هذه المقاربة من محدودية الطرح العلمي العربي الراهن حول هذا الموضوع، ومن اتساع نطاق التأثير الرقمي على مختلف السياسات العامة، بما فيها الدفاع والأمن والاقتصاد والتواصل الاجتماعي والثقافي

من هذا المنطلق، تسعى هذه الورقة للإجابة عن تساؤل رئيس:

(ما تأثير التقدّم التكنولوجي على مفاهيم ونظريات الجغرافيا السياسية؟)

وكيف يمكن فهم طبيعة الصراع حول الفضاء السيبراني الذي أخذ مكانته جنبًا إلى جنب مع الأقاليم التقليدية (البر، البحر، الجو، والفضاء الخارجي)؟ وهل باتت هناك حاجة إلى مراجعات جذرية للنظريات الكلاسيكية في الجيوبوليتيك لتتلاءم مع هذا الإقليم الجديد وما يرافقه من تحولات في طبيعة الصراع الدولي؟

  • مشكلة الدراسة وتساؤلاتها

تتمثل مشكلة الدراسة في رصد حجم وحدود أثر التقدّم التكنولوجي على مفاهيم الجغرافيا السياسية التقليدية، وصولًا إلى ظهور مفاهيم ونظريات حديثة أو متجددة تتعلق بالسيطرة على الفضاء السيبراني. وانطلاقًا من هذه المشكلة الرئيسة تتفرع الأسئلة الفرعية الآتية:

  • ما أهم التغيرات التي حدثت في مجال الجغرافيا السياسية ونظرياتها بسبب التقدّم التكنولوجي؟
  • ما الآثار المترتبة على هذه التغيرات بالنسبة لهيكلية واستراتيجيات الصراع الدولي؟
  • ما مستقبل الجغرافيا السياسية في ظلّ التحوّلات الرقمية وظهور فضاءات جديدة؟
  • فرضية الدراسة

تفترض هذه الورقة البحثية أنّ الثورة المعلوماتية الرابعة قد أفضت إلى تغييرات جوهرية في المفاهيم التقليدية للجغرافيا السياسية، الأمر الذي أفرز مصطلحات ومفاهيم جديدة انعكست على طرق ووسائل السيطرة والهيمنة الجيوسياسية والاستراتيجية. ويندرج الفضاء السيبراني في مقدمة هذه التحولات، التي قد تعيد صياغة “نظرية القوة” في حقل الجغرافيا السياسية.

  • أهداف الدراسة
  • اختبار تأثير التقدّم التقني على النظريات الكلاسيكية للجغرافيا السياسية القوة البرية، البحرية، والجوية.
  • الكشف عن أهم التغيرات المفترضة في مفاهيم الجغرافيا السياسية نتيجة بروز أقاليم أو فضاءات جديدة ذات طبيعة افتراضية.
  • اقتراح سيناريوهات واستشراف سياسات عامة حديثة تواكب التقدّم التكنولوجي وتحقيق أقصى استفادة ممكنة للدول والأفراد.
  • أهمية الدراسة
  • حداثة الموضوع المتناول وحيويته: حيث ما يزال تناول الفضاء السيبراني كإقليم جديد في الدراسات الجيوسياسية محدودًا.
  • مواكبة التقدّم التكنولوجي: إذ يمثل هذا التقدّم رافدًا مهمًا يعيد تشكيل الأطر المعرفية والتطبيقات العملية في العلاقات الدولية.
  • الإسهام في صياغة خيارات جديدة لصنّاع القرار من خلال إبراز التغيرات الجيوبوليتيكية المتوقعة، وتقديم توصيات مستندة إلى معطيات واقعية وتوجهات مستقبلية.

 

  • منهجية الدراسة

اعتمدت الدراسة على:

  • المنهج الاستقرائي – التحليلي في الجزء الأول، بهدف رصد العلاقة بين التكنولوجيا والجغرافيا السياسية وكيفية تطورها ومدى تأثير التقدّم التقني على مفاهيم السيطرة والنفوذ.
  • المنهج الاستشرافي (Foresight Methodology) في الجزء الثاني، لبناء سيناريوهات مستقبلية حول طبيعة الصراع في الفضاء السيبراني وكيفية هيكلته دوليًا.

إنّ ظهور الإقليم السيبراني وتزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والاتصالات فائقة السرعة كشفا عن مكامنٍ جديدة للصراع الدولي، ونوَّعا في الوقت نفسه خريطة الفواعل المؤثّرة فيه، لتشمل لأول مرة أطرافًا غير دولتية قادرة على مضاهاة نفوذ بعض الحكومات، سواء عبر السيطرة على أدوات الاتصال الاجتماعي أو تطوير برمجيّات فائقة القدرة على الاختراق والتعطيل. وتداخلت في هذا المشهد المعقّد أبعادٌ قانونية وتنظيمية وأخلاقية، جعلت من الصعب على المجتمع الدولي الاتفاق على أطرٍ موحّدة للحوكمة السيبرانية أو التعاون الأمني الرقمي، ما أدّى إلى ازدياد احتمالات تصاعد النزاعات “غير المرئية” في الساحة السيبرانية، وبروز أنماطٍ هجينةٍ من الحروب تمزج بين العمليات الميدانية وأساليب الحرب الإلكترونية.

بناءً على ذلك، تتمحور هذه الدراسة حول قراءةٍ نقدية للتطورات التكنولوجية وكيف انعكست على ركائز الجغرافيا السياسية، وذلك عبر رصد التحوّلات التي طرأت على الأقاليم التقليدية (البرّ، البحر، الجوّ، الفضاء الخارجي) بفعل التقدّم التقني، ثمّ بيان كيفية تشكّل الفضاء السيبراني بوصفه ميدانًا جديدًا للهيمنة والتنافس الاستراتيجي. وأخيرًا، نعرض أبرز السيناريوهات المحتملة للصراع في هذا الإقليم الافتراضي، محاولين تسليط الضوء على الفرص والمخاطر التي تواجه الدول العربية والنامية في سعيها لضمان تموضعٍ ملائمٍ في هذه المنافسة. ومن ثَمّ فإنّ هذه الورقة تمثّل مساهمةً بحثيّة في توضيح الملامح الأولية لهذا المجال الناشئ، آملين أن تشكّل قاعدةً معرفيةً تحفّز الباحثين وصنّاع القرار على اعتماد مناهجٍ أكثر شمولًا وابتكارًا في تقييم مستقبل السيطرة الجيوسياسية في عصر الرقمنة.

المحور الأول: التغيرات التي حدثت في مجال الجغرافيا السياسية ونظرياتها بسبب التقدم التكنولوجي

تُعَدّ الجغرافيا السياسية حقلاً دراسيًّا استراتيجيًّا يتناول العلاقة الوثيقة بين السلطة والموقع الجغرافي والدولة. وقد خضعت هذه العلاقة لتطوّرات متسارعة عبر التاريخ، خصوصًا عند كلّ طفرة تكنولوجية غيّرت من طبيعة أدوات القوة. وفي الوقت الذي كانت فيه القوى الكبرى تهيمن على البرّ ثمّ البحر فالجوّ، بدت حدود السيطرة تتّسع يومًا بعد يوم متأثرةً بتحوّلات العصر. ومع ظهور منظومات الاتصالات الحديثة والأقمار الصناعية والثورة المعلوماتية والرقمية، توسّع مجال الجغرافيا السياسية ليشمل أقاليم جديدة ومبتكرة، تؤثّر في صياغة استراتيجيات الدول وطبيعة الصراع العالمي.

يشير مفهوم “الأقاليم الجديدة للسيطرة”([5]) إلى فضاءاتٍ لم تكن ضمن نطاق التفكير الجيوبوليتيكي الكلاسيكي، مثل إقليم الفضاء الخارجي الذي يسمّى أحيانًا “الفضاء الفيزيائي (Physical Space) بما فيه من مدارات للأقمار الصناعية، وإقليم الفضاء الرقمي أو السيبراني (Cyber Space) الذي بات يجتذب تنافسًا محمومًا بين الدول والجماعات والأفراد على حدّ سواء. وفي ضوء هذه المستجدّات، ظهرت حاجة ماسّة لإعادة النظر في نظريات الجغرافيا السياسية الكلاسيكية (القوة البرية، القوة البحرية، والقوة الجوية)؛ إذ إنّ التحوّل التكنولوجي الراهن يدفع باتجاه بلورة رؤًى جيواستراتيجية حديثة تُراعي تلك الأقاليم غير التقليدية.

أولا: ظهور أقاليم جديدة للسيطرة

  1. إقليم الفضاء الفيزيائي

يشير مصطلح “إقليم الفضاء الفيزيائي”([6]) إلى نطاقٍ يتجاوز الغلاف الجوي للأرض، ويشمل المدارات التي تدور فيها الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية، بالإضافة إلى المساحات التي يمكن استغلالها في المجالات التجارية أو الدفاعية خارج كوكب الأرض. وعلى الرغم من أنّ الاهتمام بالفضاء الخارجي ليس حديثًا – فقد بدأ منذ منتصف القرن العشرين مع سباق التسلّح الفضائي خلال الحرب الباردة([7]) – إلا أنّ التطور التكنولوجي الكبير في العقود الأخيرة انعكس بشكل نوعي على هذا المجال.

1.1.دور التكنولوجيا في عسكرة الفضاء

لعب التقدّم التكنولوجي في مجال الصواريخ عابرة القارات وتطور منظومات الدفع الصاروخي (Reusable rockets) دورًا محوريًّا في تعزيز طموح الدول للسيطرة على الفضاء([8]). في الحقبة السابقة، كانت القدرة على إرسال الأقمار الصناعية أو المركبات الفضائية مقتصرةً إلى حد كبير على الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (ثمّ روسيا لاحقًا). أمّا اليوم، فقد ظهرت دول أخرى مثل الصين والهند، فضلًا عن بروز القطاع الخاص (مثل شركة “سبيس إكس” الأمريكية)، ما أدّى إلى زيادة حدة التنافس.

  • من الناحية العسكرية، بات الفضاء الفيزيائي مكوّنًا رئيسًا في منظومة الأمن القومي للدول المتقدمة، خصوصًا في مجال بناء أقمار صناعية مخصّصة للاتصالات العسكرية والاستطلاع والتجسّس والتشويش الإلكتروني.
  • من الناحية التجارية، ازدادت أهمية صناعة الإطلاق الفضائي منخفض التكلفة وصيانة الأقمار الصناعية، فيما تسعى بعض الشركات نحو استخراج المعادن من الكويكبات والاستكشاف القمري.

      2.1.الأبعاد الاستراتيجية للسيطرة على الفضاء الفيزيائي

مع تسارع التطور التكنولوجي وتعقيد الصراعات الدولية، برز الفضاء الفيزيائي كمجال حاسم للهيمنة الاستراتيجية. لم يعد الفضاء مجرد امتداد للبحث العلمي أو استكشاف الكواكب، بل أصبح ساحة للصراع الجيوسياسي، يتحدد فيها التفوق الدولي. تتجسد هذه الأهمية في ثلاثة أبعاد رئيسية: التفوق المعلوماتي، الردع الفضائي، وإعادة تشكيل توازن القوى الدولية.

  • التفوق المعلوماتي

من يملك القدرة على التحكم بالأقمار الصناعية يتمتع بميزة استباقية في جمع وتحليل المعلومات الدقيقة. تُستخدم الأقمار الصناعية لتوفير صور عالية الدقة لمناطق النزاع، تتبع التحركات العسكرية، ومراقبة الأنشطة الاقتصادية، مما يمنح الدول قدرة على اتخاذ قرارات سريعة وفعّالة([9]).

فضلًا عن ذلك، تشكل الأقمار ركيزة حيوية في أنظمة الاتصالات العسكرية، حيث تتيح الاتصالات المشفرة بين القوات والوحدات القيادية، حتى في بيئات يصعب فيها استخدام البنية التحتية التقليدية. كذلك، تُعد أنظمة الملاحة العالمية مثل GPS وGLONASS أدوات استراتيجية توجه العمليات العسكرية، بدءًا من الطائرات المسيرة وصولًا إلى الصواريخ الدقيقة. بهذا، يصبح التفوق المعلوماتي الذي يوفره الفضاء سلاحًا غير مرئي، لكنه حاسم في تحديد نتائج الصراعات.

  • الردع الفضائي

إلى جانب جمع المعلومات، طوّرت الدول الكبرى أدوات للردع الفضائي، أبرزها الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية (ASAT). هذه الأسلحة، التي يمكنها تدمير الأقمار أو تعطيل وظائفها، تتيح للدول شلّ قدرات خصومها العسكرية والاتصالية([10]). الصين على سبيل المثال، أثبتت قدرتها في هذا المجال عام 2007 حين أسقطت قمرًا صناعيًا قديمًا، مما أثار جدلًا دوليًا واسعًا حول عسكرة الفضاء([11]).

علاوة على ذلك، برزت الهجمات السيبرانية كوسيلة لتعطيل أنظمة الأقمار الصناعية وسرقة بياناتها، مما يضيف بُعدًا جديدًا للصراعات الفضائية. كما أصبحت تقنيات التشويش الكهرومغناطيسي وسيلة فعالة لتعطيل الإشارات بين الأقمار ومحطاتها الأرضية، مما يحد من فعالية العمليات العسكرية. هذا النوع من الردع يمنح الدول قوة غير تقليدية لتعطيل تكنولوجيا العدو دون الحاجة إلى اشتباك مباشر.

  • توازن القوى الجديد

مع التطورات المتسارعة في مجال الفضاء، لم يعد التفوق العسكري التقليدي وحده كافيًا لضمان الهيمنة الدولية. بات الوصول الآمن إلى الفضاء والتحكم في تقنياته يشكلان معيارًا رئيسيًا لتحديد موقع الدول في النظام الدولي. الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، أدركت أهمية احتكار التكنولوجيا الفضائية، حيث أصبحت برامج مثل “ستارلينك” وأسلحة الفضاء أدوات لتعزيز التفوق العسكري والاقتصادي. في الوقت ذاته، يلعب التعاون الفضائي دورًا في بناء التحالفات الدولية، كما يظهر في مشاريع مثل محطة الفضاء الدولية التي تجمع قوى كبرى في إطار مشترك. على الجانب الآخر، أدت عسكرة الفضاء إلى تعزيز مكانة الجيوش المتطورة، مع إنشاء وحدات متخصصة مثل “قوة الفضاء” الأمريكية التي تُظهر تحولًا استراتيجيًا في رؤية الأمن القومي([12]).

3.1.انعكاس التطورات الفضائية على النظريات الجيوبوليتيكية

شهدت التحولات التكنولوجية الكبرى في مجال الفضاء تغييرات عميقة في الفكر الجيوبوليتيكي، مما جعله مجالًا محوريًا لإعادة صياغة معادلات القوة الدولية. لم تعد النظريات التقليدية في الجيوبوليتيكا، التي ركزت على أهمية الأبعاد البرية والبحرية والجوية، قادرة على استيعاب التعقيد المتزايد الناتج عن إدماج الفضاء الخارجي كبعد مستقل ومؤثر في موازين القوى. الهيمنة الفضائية الآن لم تعد خيارًا تكميليًا، بل باتت عاملًا استراتيجيًا قادرًا على تعزيز التكامل العملياتي بين القوى العسكرية التقليدية وتحقيق تفوق نوعي.

تشكل الأقمار الصناعية العمود الفقري لهذه الهيمنة، حيث تقدم إمكانيات غير مسبوقة في إدارة العمليات العسكرية والاستخباراتية. فخلال حرب الخليج عام 1991، أظهرت أنظمة GPS الدور المحوري في توجيه الصواريخ وتنسيق العمليات الميدانية([13])، مما أثبت الأهمية الاستراتيجية للبنية التحتية الفضائية. هذه التكنولوجيا لم تقتصر على المجالات العسكرية فحسب، بل امتدت إلى التطبيقات المدنية التي تعزز من القوة الناعمة للدول. الأقمار الصناعية أصبحت أساسية في مراقبة التغيرات المناخية، إدارة الكوارث، ودعم الاتصالات العالمية، مما يوسع نطاق تأثير الهيمنة الفضائية إلى مجالات متعددة.

1.3.1.التحول من “الجغرافيا السياسية” إلى “الأسترو-جيوسياسية (Astro-geopolitics):

محاولات أكاديمية لبلورة مفهوم جديد لدراسة الفضاء كنطاق جغرافي سياسي يتطلّب تحليلًا مستقلًا، باعتباره بات ساحة صراع ينعكس على الأمن القومي والاقتصادات العالمية. دفعت هذه التطورات إلى بلورة مفهوم “الأسترو-جيوسياسية” الذي يُعد استجابة نظرية لتحول الفضاء إلى مجال مستقل للصراع الجيوسياسي([14]). لم يعد الفضاء مجرد ساحة دعم للمجالات التقليدية، بل تحول إلى مسرح للصراعات ذات التأثير المباشر على الأمن القومي. السباق بين الولايات المتحدة والصين لتطوير أسلحة مضادة للأقمار الصناعية يعكس هذا التحول، حيث إن القدرة على شلّ البنية التحتية الفضائية للخصوم باتت عامل ردع رئيسيًا. الجدير بالذكر أن دولًا أخرى مثل الهند واليابان والدول الأوروبية دخلت هذا السباق، مما يشير إلى عولمة المنافسة الفضائية.

من منظور اقتصادي، أصبحت البنية الفضائية عنصرًا محوريًا في دعم الاقتصاد العالمي. النقل البحري والجوي، المدن الذكية، والاتصالات الرقمية تعتمد على الأقمار الصناعية كركيزة أساسية. علاوة على ذلك، فإن الاستكشافات المستقبلية لموارد الفضاء، مثل الهيليوم-3 الموجود على سطح القمر وإمكانية التعدين على الكويكبات، تعزز من الأهمية الاستراتيجية للفضاء كمصدر للموارد. هذا الاتجاه يُظهر أن السيطرة على الفضاء ليست فقط وسيلة لتعزيز الاقتصاد الوطني، بل أيضًا ضمانًا لتأمين الموارد التي قد تكون شحيحة في المستقبل.

أما على مستوى توازن القوى الدولية، فإن السيطرة على الفضاء أصبحت عاملاً حاسمًا في صياغة النظام الدولي. الدول التي تمتلك القدرة على تطوير تقنيات فضائية متقدمة تتمتع بمزايا استراتيجية تمكنها من فرض نفوذها الجيوسياسي. هذا الاحتكار للتكنولوجيا الفضائية، الذي تقوده الولايات المتحدة وروسيا والصين، يعزز من قدرتها على تحديد قواعد اللعبة الدولية. مع ذلك، التعاون الدولي في مشاريع مثل محطة الفضاء الدولية يُظهر جانبًا مختلفًا، حيث تبرز إمكانيات بناء شراكات علمية واستكشافية عابرة للحدود، على الرغم من التنافس المحتدم في مجالات مثل عسكرة الفضاء.

في النهاية، يمكن القول إن التطورات الفضائية أعادت صياغة الفكر الجيوبوليتيكي بطرق عميقة، مما دفع إلى تطوير مفاهيم جديدة تعيد تعريف القوة والهيمنة في العصر الحديث. الفضاء لم يعد مجرد بيئة علمية أو تقنية، بل أصبح ساحة استراتيجية حيوية تتطلب استثمارات ضخمة لضمان موقع تنافسي في النظام الدولي المتغير. ومع تصاعد التحديات المتعلقة بالتنافس على الموارد وعسكرة الفضاء، يبقى التساؤل حول ما إذا كان بالإمكان بناء نظام عالمي يحافظ على الفضاء كبيئة سلمية ومستدامة أم أنه سيصبح امتدادًا لصراعات الأرض ونزاعاتها المعقدة.

2.إقليم الفضاء السيبراني

يُعرّف الفضاء السيبراني بأنّه عالم افتراضي ينشأ من تفاعل أجهزة الحاسوب والشبكات الرقمية مع بعضها بعضًا، وتشمل تلك الشبكات الإنترنت بجميع مكوّناتها، إضافةً إلى الأنظمة الإلكترونية المغلقة وشبكات الاتصالات والخدمات المالية. وقد جاء هذا الفضاء ليمثّل قفزةً نوعية في بُنية الصراع العالمي، إذ باتت الدول تتعامل معه على أنّه “مسرح عمليات” مستقلّ يشابه في قيمته الاستراتيجية الأقاليم الجغرافية التقليدية([15]).

1.2.السمات الفريدة للفضاء السيبراني

  • اللاّمركزية: يصعب إخضاع الفضاء السيبراني لإشراف دولةٍ واحدة أو جهةٍ مركزية؛ فهو موزّع بين آلاف الخوادم والمزودين حول العالم.
  • غموض الفاعلين: يستطيع مهاجم إلكتروني واحد أن يتخفّى خلف طبقات متعدّدة من بروتوكولات الأمان وعناوين الشبكة (IPs) المزيفة، ما يجعل نسبة الهجوم إلى جهة معينة (Attribution) تحدّيًا كبيرًا لدولٍ تطبّق معايير الردع التقليدي.
  • تضخّم دور الفاعلين غير الدولتيين: لم تعد السيطرة السيبرانية مقتصرةً على الحكومات؛ فهناك شركات تكنولوجية ضخمة تحوز بيانات ملايين المستخدمين حول العالم، وجماعات “هاكرز” قد تنافس في قدراتها السيبرانية بعض الدول النامية.
  • تقاطع أمن البنى التحتية: ترتبط شبكة الكهرباء ومحطات الطاقة والمطارات والمصارف بشبكات الإنترنت، فيتزايد خطر “الهجمات الحرجة (Critical Attacks) التي تشلّ قطاعات حيوية من الدولة.

2.2.البعد الجيوسياسي للفضاء السيبراني

  • السيادة الرقمية (Digital Sovereignty): أدركت دول عديدة، أبرزها الصين وروسيا، أنّه ينبغي تشديد الرقابة على قطاع الإنترنت المحلي، وإنشاء بدائل داخلية لخوادم المواقع والتطبيقات، تحسّبًا لأيّ عقوبات خارجية أو اختراقات.
  • حروب الوكالة السيبرانية: قد تستخدم الدول مجموعات قراصنة مستقلّة ظاهريًّا لشنّ هجمات على خصومها؛ وذلك لتفادي تحمّل المسؤولية المباشرة والتبعات القانونية([16]). مثل قراصنة الظل التابعين للحكومة الروسية.
  • الاقتصاد والابتكار: أصبحت البيانات (Big Data) نفط العصر الرقمي”؛ فمن يهيمن على تجميعها وتحليلها يُمكنه التحكّم في أسواقٍ تجارية كبرى وتوجيه الرأي العام والسياسات الإعلامية([17]).
  • التداخل مع القوة الناعمة: تسمح منصّات التواصل الاجتماعي بتوجيه رسائل دعائية عابرة للحدود، تروج لأيديولوجيات أو حملات تضليل إعلامي (Disinformation) تستخدمها الدول للتأثير في انتخابات أو زعزعة استقرار أنظمة.

3.2.انعكاسات التقدّم التكنولوجي على الحقل النظري للجغرافيا السياسية

انعكاسات التقدم التكنولوجي تمثل تحولًا نوعيًا يستلزم إعادة النظر في الركائز النظرية التقليدية لهذا المجال. فالتطور الرقمي لم يقتصر على تعديل بعض المفاهيم القائمة، بل أدى إلى إعادة صياغة شاملة لمنظومة المفاهيم الجيوسياسية، مما يتطلب إطارًا تحليليًا جديدًا قادرًا على استيعاب هذه التحولات. من أبرز هذه التحولات، توسّع مفهوم “الحدود” ليشمل أبعادًا غير مادية تتجسد في “الحدود الرقمية”، التي تُعززها الدول من خلال بناء منظومات للأمن السيبراني تتضمن الجدران النارية (Firewalls) وآليات ترشيح المحتوى على الإنترنت. هذه الحدود الرقمية تتجاوز كونها أدوات تقنية لتصبح امتدادًا للسيادة الوطنية في الفضاء الافتراضي، ما يعيد تعريف مفهوم السيادة ذاته في سياق العولمة الرقمية.

على صعيد القوة، شهدت معايير الهيمنة الدولية تحولًا عميقًا مع صعود “القوة السيبرانية” (Cyber Power) كعامل محوري في تصنيف الدول. لم تعد القوة تُقاس حصريًا بالمؤشرات التقليدية مثل الكثافة السكانية أو القوة الاقتصادية والعسكرية، بل باتت القدرات الرقمية للدول عاملًا محددًا في تعزيز مكانتها ضمن النظام العالمي. القدرة على شن هجمات سيبرانية دفاعية وهجومية، وحماية البنية التحتية الرقمية، والتحكم في تدفق المعلومات تُعد اليوم أدوات استراتيجية تعكس الهيمنة الرقمية للدول. هذا التحول يُبرز الفضاء السيبراني كساحة جديدة للصراع الجيوسياسي، حيث يمكن تحقيق النفوذ دون اللجوء إلى الوسائل التقليدية للقوة الصلبة.

إزاء هذه الديناميات المستجدة، يفرض الواقع الرقمي المعقد ضرورة تطوير نظريات هجينة تمزج بين الجغرافيا السياسية الكلاسيكية وعلوم الحوسبة والشبكات. يعد مفهوم “الجغرافيا السيبرانية” (Cyber Geography) إطارًا واعدًا لفهم توزيع النفوذ الرقمي ورسم خرائط الديناميات الافتراضية. من خلال هذا المنظور، يُمكن تحليل ظاهرة انقسام الفضاء الرقمي إلى “إنترنت مجزأ” (Splinternet)، حيث تقوم الدول بتأسيس مناطق نفوذ رقمية تعكس أولوياتها الاستراتيجية والثقافية والأمنية. هذا الانقسام لا يعبر عن مجرد اختلافات تقنية، بل يعيد إنتاج أنماط التنافس الجيوسياسي على الموارد والنفوذ، ولكن في هيئة رقمية تتطلب أدوات تحليل مبتكرة.

إن هذا التحول النظري يعكس تزايد التشابك بين الأبعاد المادية وغير المادية للصراع الدولي، مما يضع على عاتق الأكاديميين والممارسين في الحقل مسؤولية تطوير أطر تحليلية متكاملة. هذه الأطر يجب أن تكون قادرة على معالجة التعقيد المتزايد للنظام الدولي المعاصر، حيث تتقاطع الاعتبارات الجغرافية التقليدية مع ديناميات الفضاء السيبراني، لتعيد تشكيل خرائط النفوذ العالمية في القرن الحادي والعشرين.

4.2.الأبعاد الأخلاقية والتنظيمية للفضاء السيبراني

تمثل الأبعاد الأخلاقية والتنظيمية للفضاء السيبراني تحديًا معقدًا يستدعي تأملًا عميقًا وتطويرًا مستمرًا للحوكمة الرقمية. من أبرز هذه التحديات، غياب أطر قانونية دولية موحدة يمكن أن توازي في فعاليتها نظم مثل “اتفاقيات جنيف” التقليدية. باستثناء بعض الاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية، لا توجد آلية شاملة تُلزم الدول بقواعد محددة تنظم السلوك في الفضاء السيبراني، ما يُبقي هذا المجال مفتوحًا أمام التجسس الإلكتروني، والهجمات السيبرانية غير المعلنة، وصراعات ذات طابع غامض يصعب تحديد مرتكبيها أو التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية فيها([18]).

في سياق آخر، يبرز أمن الخصوصية كإشكالية أخلاقية محورية، حيث تتزايد قدرات الدول والشركات على جمع البيانات الشخصية واستغلالها، مدعومة بتطورات في تقنيات الذكاء الاصطناعي. هذا الوضع يُعرّض الأفراد لمخاطر الاختراق والتتبع الرقمي، مما يعكس تحديًا مزدوجًا: فمن جهة، تعزز الدولة قوتها السيبرانية من خلال هذه القدرات، ومن جهة أخرى، تُثار تساؤلات عميقة حول مدى احترام حقوق الإنسان في البيئة الرقمية. هنا، يتقاطع النقاش حول الأمن القومي مع الالتزامات الأخلاقية الدولية، مما يُعقد التوازن بين القوة والعدالة.

أما على صعيد المسؤولية الجنائية، فإن الطبيعة العابرة للحدود للهجمات السيبرانية تخلق فجوة قانونية يصعب سدها. فغالبًا ما تمتنع الدول عن الاعتراف بمسؤوليتها عن هذه الهجمات، أو تُحجم عن التعاون الدولي من خلال رفضها توقيع معاهدات تلزمها بتسليم الجناة أو المشاركة في التحقيقات. هذا الفراغ التنظيمي يعزز من حالة الإفلات من العقاب، حيث يُصبح تعقب الجناة أو تقديمهم للمساءلة القانونية شبه مستحيل، مما يُشجع على مزيد من الاستغلال العدواني للفضاء السيبراني.

بالتالي، فإن هذه الأبعاد الأخلاقية والتنظيمية تُشكل تحديًا مركبًا يستدعي استجابات جماعية ومقاربات جديدة تعكس تعقيد الفضاء السيبراني كبيئة استراتيجية عابرة للحدود، تتشابك فيها الاعتبارات الأخلاقية، والقانونية، والسياسية، لتعيد تشكيل ملامح النظام الدولي في عصر الرقمنة.

إنّ التقدم التكنولوجي الراهن، بدءًا من تقنيات الإطلاق الفضائي المتطورة ووصولًا إلى منصات الذكاء الاصطناعي، أحدث تحولًا جذريًّا في فهمنا للجغرافيا السياسية. ولم يعد المشهد يقتصر على البرّ والبحر والجوّ، بل بات الفضاء الخارجي (الفيزيائي) والفضاء السيبراني عنصرين رئيسين في بناء الاستراتيجيات الدولية. فالأول يزيد من أهمية امتلاك دولٍ معيّنة وسائل إطلاقٍ فضائية ووسائل دفاعٍ مضادة للأقمار الصناعية، بينما يمنح الثاني (السيبراني) الدول والشركات الكبرى ومجموعات الاختراق قدرةً بالغة التأثير على الصراعات الدولية وعلى مستقبل الاقتصاد والأمن القومي.

يبرهن هذا التطور على أنّ نظريات القوة القديمة، التي لطالما انصبّ تركيزها على “قلب العالم” (Heartland) أو “المنافذ البحرية” (Sea Power)، لم تعد كافية بمفردها لتفسير تشابكات الساحة الدولية في عصر الثورة الرقمية. وعليه، تتشكّل الحاجة لصياغة “جيوبوليتيك جديد” يأخذ في الحسبان تعقيدات التقنيات الرقمية وامتداداتها في السماء والفضاء، وهو ما يمهّد الطريق أمام رؤى تحليلية حديثة قد تسمح بفهم أفضل لمسارات الصراع والتعاون في القرن الحادي والعشرين.

ثانيا: التحوّل في طبيعة الصراع

شهدت الجغرافيا السياسية منذ نشأتها تحوّلات مستمرّة في طبيعة الصراع الدولي، لكنّ التطوّر التكنولوجي الراهن—والذي تمثّل في ثورة الاتصالات والمعلومات وتقدّم الصناعات العسكرية والفضائية—أدى إلى إعادة تشكيل جذرية للطرق التي تُدار بها المنافسة والعداوة بين الدول والفاعلين الآخرين. فعلى الرغم من أنّ الصراع على “الأقاليم” المادية (البرّ، والبحر، والجوّ) لا يزال قائمًا، فإنّ بروز فضاءاتٍ جديدة، وعلى رأسها الفضاء السيبراني، وازدياد التشابك بين الأقاليم التقليدية والتطورات التقنيّة، أفرز أنماطًا أكثر تنوّعًا وتعقيدًا في ميدان النزاعات. وفيما يلي أبرز الملامح التي توضّح هذا التحوّل:

1.تكامل الأدوات التكنولوجية مع الصراع العسكري التقليدي

أصبحت التكنولوجيا عاملًا حاسمًا في إدارة وتنفيذ العمليات العسكرية التقليدية؛ إذ تتكامل أقمار التجسّس والطائرات المسيّرة (Drones) مع الوحدات البرّية والبحرية والجوية، ما يضفي بُعدًا استخباراتيًّا ولوجستيًّا غير مسبوق على سير المعارك. مثّل الاعتماد على الذكاء الاصطناعي ونظم الاستشعار عن بُعد وبنوك البيانات الضخمة (Big Data) نقلة نوعية في تحسين عملية صنع القرار العسكري، حيث يتيح تحليل البيانات واتخاذ الإجراءات في وقت قياسي على جبهات القتال المختلفة([19]).

1.1.بروز “الحرب السيبرانية (Cyber Warfare)

لم يعد الصراع مقتصرًا على المواجهة التقليدية بالأسلحة المادية، بل باتت الهجمات الإلكترونية وعمليات الاختراق الموجّهة جزءًا أساسيًّا من منظومات الأمن القومي. تزداد خطورة هذه الهجمات عندما تستهدف البنى التحتية الحيوية مثل شبكات الطاقة والاتصالات والمؤسسات المالية. الصعوبة في الإسناد (Attribution): يمكن لجهةٍ أو دولةٍ ما تنفيذ هجومٍ إلكتروني وإخفاء بصماتها الرقمية، مما يجعل من الصعب إثبات الجهة المسؤولة عن الاعتداء. ومع غياب اتفاقيات دولية شاملة تنظّم هذه الممارسات وتعاقب مرتكبيها، تتعقّد سبل الردع السيبراني وتتنوع أساليبه([20]).

2.1.الحرب الهجينة (Hybrid Warfare)

تمزج الحرب الهجينة بين الوسائل العسكرية وغير العسكرية، مثل الضغط الاقتصادي وعمليات التأثير والدعاية والإشاعات المنظمة، بهدف زعزعة استقرار الخصم دون اللجوء إلى مواجهةٍ مباشرة. وتبرز في هذا السياق أيضًا العمليات النفسية (PsyOps) التي تُستخدم للتأثير على معنويات الطرف المقابل وسلوكياته. تعتمد استراتيجيات الحرب الهجينة بشكل متزايد على التكنولوجيا: إذ تتيح شبكات التواصل الاجتماعي بث الرسائل الموجّهة للجماهير المحلية أو الدولية بسرعة وكثافة، كما تمكّن أدوات الذكاء الاصطناعي من تصميم حملات تشويه أو تعبئة رأي عام بدقة أكبر.

3.1. تعدّد الفاعلين وتزايد دور القوى غير الدولتية

أتاح التقدّم التقني الفرصة لظهور فاعلين غير دولتيين (Non-State Actors) يمتلكون إمكانات عالية للتأثير، بل ولتنفيذ هجمات رقمية قد تُلحق أضرارًا جسيمة ببنية دولة أخرى. ولم يعد من المستبعد أن تستطيع مجموعة من القراصنة (Hackers) التأثير على انتخابات أو تعطيل منشأة حيوية في دولة متقدّمة. إلى جانب ذلك، ظهرت الشركات الأمنية الخاصة والمنظّمات شبه العسكرية (PMC) التي تقدّم خدمات عسكرية عالية الاحترافية، ما يزيد من تعقيد ساحة الصراع بين الدول نفسها. هذه الشركات قد تعمل لمصلحة حكوماتٍ معيّنة أو أطرافٍ دولية متعددة، مما يوسّع نطاق الدوافع والمصالح([21]).

4.1.تغيّر مفهوم الردع وأدواته

في ظلّ تنامي المخاطر السيبرانية والتقدّم في الأسلحة الاستراتيجية عالية الدقّة (مثل الصواريخ فوق الصوتية Hypersonic Missiles)، تطوّر مفهوم الردع الكلاسيكي (المستند إلى نظرية توازن الرعب النووي) ليشمل استراتيجياتٍ جديدة تصبّ في مجال “الردع السيبراني” أو الردع متعدد الأبعاد الذي يزاوج بين الإمكانات النووية وتقنيات التشويش والمعلوماتية. يتطلّب الردع حاليًّا بنى تحتية رقمية متقدّمة وتحالفات تقنية (Tech Alliances) لضمان تبادل المعلومات وتحقيق استجابة جماعية سريعة في حال استهداف دولة أو حليفٍ بهجمات سيبرانية.

5.1.تصاعد دور الذكاء الاصطناعي في أنظمة إدارة المعركة

تشير التطورات الحديثة إلى أنّ الذكاء الاصطناعي قد يصبح الذراع المحوري في مستقبل الصراع العسكري، من خلال تحسين قدرات نظم القيادة والسيطرة والرصد المبكر، وحلول توجيه الطائرات بدون طيار، وتحليل كميات هائلة من البيانات الاستخبارية. يُتيح الذكاء الاصطناعي أيضًا أتمتة بعض جوانب الحرب، بحيث تعتمد جيوش الدول الكبرى أكثر فأكثر على روبوتات أرضية ومسيّرات جوية مقرونة بنظم خبرة قادرة على اتخاذ قرارات آنية، مما قد يثير إشكاليات أخلاقية وقانونية حول مدى شرعية “الحرب الآلية”([22]).

6.1.تداخل النطاقات المدنيّة مع العسكرية

لم تعد التكنولوجيا مقصورة على الاستخدامات العسكرية فقط، بل تتداخل النظم العسكرية والمدنية في شبكاتٍ وأجهزةٍ مشتركة. فعلى سبيل المثال، قد تصبح شركة تجارية عالمية تمتلك أقمارًا صناعية لتوفير خدمات الإنترنت (Satellite Internet) جزءًا من البنية التحتية الاستراتيجية لدولة ما، سواء أرادت أم لم ترد. يسهم هذا الاندماج في هشاشة النظم الرقمية؛ إذ إنّ أيّ استهدافٍ لأصولٍ مدنية كبرى (شركات اتصالات، بنوك، مؤسسات طبيّة) قد يؤدّي إلى صدمة مجتمعية وأزمات اقتصادية واسعة النطاق.

7.1.انقسام الإنترنت (Splinternet) وبناء منظومات سيبرانية وطنية

دفع تنامي المخاوف الأمنية الرقمية بعض الدول إلى بناء “جدران نارية” وأنظمة فلترة داخليّة خاصّة بها (كما في حالة “الجدار الناري الصيني العظيم Great Firewall of China”)، أو إلى إطلاق نسخ وطنية من خدمات الإنترنت، في محاولةٍ لحماية بياناتها ومجتمعاتها من التدخّل الخارجي. قد يؤدّي هذا التوجّه إلى بلقنة الفضاء السيبراني (Cyber Balkanization)، بحيث يتباين وصول المستخدمين إلى المعلومات والخدمات الرقمية بناءً على سياسات دولهم، ما يخلق مناطق نفوذ رقمية متميّزة، ويزيد من الانقسام العالمي في المجال التقني والاقتصادي([23]).

إنّ التحوّل في طبيعة الصراع الدولي يعكس اندماجًا عميقًا بين الأدوات العسكرية والرقمية، وتنوّعًا متسارعًا في طرق الهيمنة والسيطرة، بحيث لم يعد بإمكان المفاهيم الكلاسيكية للجغرافيا السياسية تغطية تعقيد مشهد الصراع المعاصر. فالعالم لم يعد فقط مساحة تنافسٍ على البرّ والبحر والجوّ، بل بات هناك صراع موازٍ في الفضاء الخارجي (الفيزيائي) والسيبراني، يواكبه صعود “حروب هجينة” وفاعلون جدد لديهم القدرة أحيانًا على تقويض أمن دولٍ تفوقهم مكانةً عسكرية أو اقتصادية. وفي هذا السياق، تتطلّب إدارة الصراع مقاربات أكثر شمولًا تدمج بين القدرات المادية التقليدية والقدرات التقنية والاستخباراتية، مع الأخذ في الحسبان أنّ التغيّر السريع في التكنولوجيا يُولّد باستمرار مفاجآت استراتيجية ويطرح تحدّيات غير مألوفة في مجالات القانون والأخلاق والسياسات العامة.

المحور الثاني: سناريوهات الصراع حول الإقليم الجديد

تتبلور التحوّلات الراهنة في ظهور إقليم سيبراني جديد باتت السيطرة عليه موضع تنافسٍ حادٍّ بين الدول، وفي الوقت نفسه تتنازعه قوى من خارج المنظومة الحكومية التقليدية. ولأنّ الفضاء السيبراني لا تحكمه حدود مادية بل يقوم على تقنيات التواصل الرقمي وتدفّق البيانات عبر شبكاتٍ عالمية معقّدة، فقد بات مسرحًا لسيناريوهات مستقبلية مختلفة، بعضها يخرج عن الأطر المتعارف عليها في العلاقات الدولية.

  • السناريو الأول: احتكار كامل للقوة فيها من قبل أفراد وليس دول

يمثّل هذا السيناريو إحدى التوجّهات المتطرفة والمثيرة للجدل في أدبيات الدراسات الأمنية والجيوسياسية؛ إذ يفترض أنّ الأفراد أو الكيانات الخاصة قد يستأثرون بقدرةٍ تقنية هائلة تكفل لهم السيطرة على الفضاء السيبراني دون الحاجة إلى دعمٍ رسمي من دولٍ بعينها. ويمكن لهذا الاحتكار أن يتشكّل نتيجةً لتقاطع جملةٍ من العوامل المتسارعة:

أولًا، تقدّم أدوات القرصنة وتطوّر الذكاء الاصطناعي، ما يتيح لقلةٍ قليلة من المطوّرين أو القراصنة المحترفين إدارة برامج شديدة التعقيد قادرة على اختراق بنى تحتية حيوية، وتعطيل شبكات اتصالات ومؤسسات مالية، بل والتلاعب بالمنصّات الاجتماعية على نطاق واسع. في هذه الحالة، يصبح “تمركز القوة” ليس مرتبطًا بقواعد جيوسياسية أو بامتلاك الجيش والسلاح فحسب، بل بقوة البرمجيات والخوارزميات التي يسيطر عليها بضعة أفراد يفوقون في تأثيرهم دولًا بأكملها مثل تأثير إيلون ماسك حالياً تُعتبر سيطرة إيلون ماسك على منصة إكس (تويتر سابقًا) وشبكات الأقمار الصناعية ستارلينك مثالًا واقعيًا لنموذج أولي لهذا السيناريو.

  • التلاعب الإعلامي: يُمكن لفرد مثل ماسك التحكم بالمحتوى الإعلامي والتأثير في النقاشات العامة عبر المنصة.
  • البُعد العسكري: سيطرة ستارلينك على الاتصالات في النزاعات، مثل دورها في الحرب الروسية-الأوكرانية، تظهر كيف يمكن لفرد أن يمتلك أدوات استراتيجية تضاهي تأثير الدول.

ثانيًا، المعطيات الاقتصادية التي قد تترجم في صعود شركات تكنولوجية عملاقة تتولّى، بحكم قوتها الاحتكارية أو إبداعها التقني، التحكم في شطر وازن من أنشطة الفضاء السيبراني. وفي ظل غياب أو محدودية التشريعات الدولية التي تضبط آليات عمل تلك الشركات، ونظرًا لرؤوس الأموال الطائلة التي تمتلكها، يمكن لها تأسيس منظوماتٍ رقمية خاصّة بها تفوق قدرات الكثير من الحكومات من حيث الابتكار والاستشعار والتعقب الرقمي. وحينذاك، قد تصبح هذه الشركات “أشبه بدول رقميّة” جديدة، تصوغ قواعد اللعبة وتضع سياسات القبول والرفض في فضاء معلوماتي هائل.

ثالثًا، هشاشة النظم القانونية والسياسية حيال ظاهرة “الإقطاع الرقمي” (Digital Feudalism)؛ حيث يجد صانعو القرار صعوبةً متنامية في مواكبة طفرات الذكاء الاصطناعي وتقنيات البلوك تشين (Blockchain) وغيرها، ما يمكّن الأفراد الأقوى تكنولوجيًّا من رسم قواعد جديدة غير خاضعة لسيادة دولة بمفردها. بل إنّهم—وبفضل ما يمتلكونه من برامج احتكارية وبيانات شخصية هائلة—قد يحدّدون شروط الدخول والخروج إلى المنصّات السيبرانية، متحوّلين إلى سلطةٍ فعليّة تتجاوز السلطة التقليدية للأجهزة الحكومية في المجال الرقمي.

ويتمخّض عن هذا السيناريو تحدّيات متنوعة. فمن جهةٍ أخلاقية، قد تنشأ كيانات رقمية لا تتقيّد بأي قواعد ناظمة لأخلاقيات العمل السيبراني أو خصوصية البيانات. ومن جهة سياسية، ستجد الدول نفسها عاجزة عن ملاحقة هذه الكيانات أو الأفراد من خلال وسائل الردع التقليدي، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية أو الأساليب الدبلوماسية، إذ يمكن لصاحب القوة الرقمية الاحتفاظ بخوادم وبرمجياته في مناطق متعددة عبر العالم. أما من الناحية الأمنية، فقد يخلّف هذا الوضع “فراغًا سياديًّا” في ميدان الفضاء السيبراني، يهدّد استقرار الدول الضعيفة أو المتوسطة القوّة، بل وقد يجعل البنى التحتية الأساسية (اتصالات، كهرباء، مصارف، رعاية صحية) عُرضة للابتزاز على يد حفنة من الفاعلين المُحتكرين للتقنية.

وعلى الرغم من الطابع المتطرّف لهذا السيناريو، فإنّ بعض مظاهره قد تبرز فعليًّا في حالات محدودة، كما في سطوة شركات الابتكار التقني أو نجاح قراصنة محدّدين في ابتزاز شركات ودول كبرى. قد لا تتجلّى الصورة المثالية لـ”الاحتكار الكامل” بشكلٍ صريح، نظرًا إلى تداخل مصالح هذه الكيانات الخاصة مع سلطات دول قوية تُحاول ضبط الأوضاع، لكن يبقى هذا السيناريو متاحًا نظريًّا في ظلّ تسارع التقدّم التقني وضعف المأسسة الدولية لقواعد الحوكمة الإلكترونية.

ختامًا، تكشف هذه الرؤية عن مدى هشاشة النمط التقليدي لفكرة “الدولة صاحبة السيادة المطلقة” في زمنٍ يهيمن فيه الاقتصاد الرقمي والقدرات التقنية المتراكمة لدى بعض الأفراد أو الجهات الخاصة. وما لم يتم تطوير إطارٍ تشريعي دولي توافقي، وإرساء قواعد للمساءلة الرقمية وآليات رقابة دولية فعّالة، فقد يتعاظم احتمال أن يتحوّل الفضاء السيبراني إلى “غابة رقمية” تتحكّم فيها حفنة من القوى غير الدولتية، مهدّدةً بذلك الأمن الجماعي وأسس التنظيم السياسي والاجتماعي الذي استقرّ عليه العالم في حقباته السابقة.

  • السناريو الثاني: صراع بين قطبين لحوكمة الفضاء الجديد والهيمنة عليه

ينطلق هذا السيناريو من افتراض تبلور نظامٍ دولي قائم على ثنائية قطبية أو أقطابٍ متعدّدة؛ حيث تسعى كل مجموعة من الدول الكبرى إلى بلورة رؤيتها الخاصة لتنظيم الفضاء السيبراني والتحكّم في مفاصله الحيوية، سواءً على مستوى البنية التحتية للإنترنت أو في مجال الذكاء الاصطناعي والاتصالات فائقة السرعة. ويستند هذا الطرح إلى المنهج الاستشرافي الذي يحاول استقراء مسارات المستقبل انطلاقًا من المعطيات الحالية، خصوصًا الخلافات القائمة حول مسألة “سيادة الفضاء الرقمي” وتقاسم النفوذ التقني عالميًّا.

في هذا السيناريو، قد يتشكل محور أو قطب أول يضم دولًا ذات خبرة تقنية متقدمة وشركاتٍ عابرة للقارات تسيطر على نسبةٍ كبيرة من سوق التكنولوجيا والبيانات، في حين يجتمع قطبٌ ثانٍ حول دولٍ لديها بنية رقمية بديلة وترفض الانصياع لقواعد الإنترنت التقليدية التي يفرضها المحور الأول. وتتشعّب آليات الصراع فيما يلي:

  • التنافس على “وضع المعايير: يصبح كلّ قطبٍ معنيًّا بوضع معايير تقنية وتشريعات تنظيمية تضمن تفوّقه في سوق الحوسبة السحابية، وتحديدًا في منصّات شبكات الجيل الخامس (5G) والذكاء الاصطناعي، فضلًا عن سعيه لتحقيق اختراقاتٍ في أمن المعلومات والتشفير. وكلما نجح أحد الأقطاب في الترويج لمعاييره وتبنيها من قِبل عددٍ أكبر من الدول والمنظمات، تعاظمت قوته في إدارة الفضاء السيبراني.
  • الانقسام الرقمي (Splinternet): قد تنتج عن هذه الثنائية أو التعدّدية القطبية شبكتان أو منظومتان متوازيتان للإنترنت، إحداهما خاضعة لمعايير القطب الأول، والأخرى تتبع القطب الثاني؛ بحيث تُقيّد التدفقات الرقمية العابرة للحدود، وتجري عمليات تصفية أو حجب للمواقع والمنصّات المنافسة. وفي ظلّ هذا التشظّي، تتراجع فرص “الإنترنت العالمية الموحدة” التي عرفها العالم سابقًا، ويسود شكلٌ من “بلقنة” الفضاء السيبراني، حيث تتحوّل العلاقة بين هاتين الشبكتين إلى حالة من الشدّ والجذب الدائم.
  • بروز تحالفاتٍ تقنية عابرة للعلاقات الكلاسيكية: قد لا تقتصر الولاءات التكنولوجية على القرب الجغرافي أو التوجه السياسي، بل تتشكل بناءً على المصالح الاقتصادية والهيمنة الرقمية. على سبيل المثال، قد تنحاز دولٌ نامية ذات اقتصادٍ رقمي واعد إلى هذا المحور أو ذاك، تبعًا لمشاريع نقل التكنولوجيا والاستثمارات السيبرانية التي تُعرض عليها. كما أنّ بعض الشركات العملاقة قد تبدّل تحالفاتها طبقًا لما يضمن لها أسواقًا أوسع واستقرارًا تنظيميًّا في نطاق نفوذ القطب الأقوى.
  • المخاطر الأمنية وحروب الوكالة: تتزايد احتمالية بروز حروبٍ سيبرانية “مضبوطة الإيقاع” أو “حروب وكالات رقمية” تشنّها أطراف مرتبطة بكلّ قطب، تستهدف فيها بنى تحتية حسّاسة للقطب الآخر، سواء عبر تعطيل شركات اتصالات أو اختراق أنظمة مالية، في محاولةٍ لكسب مكاسب جيواقتصادية أو تكتيكية دون الانزلاق إلى حربٍ تقليدية واسعة. وفي هذا المناخ، يكتسب الحلفاء والشركاء الإقليميون أهمية كبرى، إذ يُمكن استعمال أراضيهم الرقمية كمنصّة لتنفيذ الهجمات أو كسدٍّ دفاعيٍّ لتجنيب القطب الأساسي الأضرار المباشرة.
  • المآلات المستقبلية: يتوقّع هذا السيناريو أنّ هذه الثنائية أو التعدّدية القطبية قد تستمر لفترات طويلة، خصوصًا في ظلّ صعوبة الحسم التام لصالح أحد الأقطاب؛ إذ إنّ ثبات التوازن رقميًّا قد يفضي إلى أشكالٍ من “التعايش السيبراني” المرهون بتوافقاتٍ دولية محدودة أو إلى هدَناتٍ موضعية تتخللها اشتباكات رقمية متفرقة. ومع مرور الزمن، قد تنشأ مبادرات ديبلوماسية ترعاها منظمات دولية أو تحالفات وساطة بين القطبين لوضع “ضوابط دنيا” لاستخدام الفضاء السيبراني وتفادي “كارثة رقمية” شاملة، وإن ظلّت هذه الضوابط هشّة وعرضةً للخرق مع تغيّر الموازين التقنية والسياسية.
  • السناريو الثالث: صراع شامل ومفتوح يدخل فيه كل الفواعل الدولية وغير الدولية

يفترض هذا السيناريو أنّ الفضاء السيبراني يتحوّل إلى ساحةٍ بالغة السيولة والفوضى، حيث تشتبك فيه جميع الأطراف: دولٌ عظمى ومتوسطة وصغيرة، شركاتٌ تكنولوجية عملاقة، مجموعاتٌ من القراصنة والمخترقين، منظماتٌ إجرامية وإرهابية، وحتى أفراد متمرّسون رقميًّا. وينطلق هذا الوضع من عدة مرتكزات:

  • تفكُّك مساحات الاتفاق الدولية: في ظلّ غياب أطر ضابطة شاملة يُجمع عليها اللاعبون الكبار، وعدم قدرة المؤسسات الدولية على التوفيق بين المصالح المتعارضة، تتحلّل بالتدريج أي اتفاقيات أو مبادئ إرشادية تحكم السلوك في الفضاء السيبراني. ومع تصاعد وتيرة النزاعات الجيوسياسية التقليدية، تلجأ أطراف كثيرة إلى استغلال النوافذ الرقمية لصنع مكاسب تكتيكية أو الضغط على الخصوم دون مراعاة العواقب الأوسع على منظومة الأمن الجماعي.
  • انتشار التقنيات الهجومية بيد فاعلين متعددين: نتيجة لانخفاض كلفة تطوير برمجيات الاختراق وظهور سوقٍ سوداء للثغرات الأمنية، تتوافر الأدوات الهجومية في متناول أي جهة تملك الموارد المالية الكافية. وبالتالي، قد ترى دولٌ صغرى في هذه القدرات فرصةً لتحقيق توازنٍ ولو محدود أمام قوى أكبر، فيما تستغلّ جماعات الجريمة المنظمة والإرهابية هذه الفوضى لنهب البيانات أو تنفيذ هجماتٍ تشلّ القطاع المالي والصناعي. ويسهّل هذا المشهد اختراق الدبلوماسية التقليدية، إذ لا أحد يملك احتكار القوة السيبرانية.
  • تعدّد الأهداف و”رقمنة” ميادين النزاع: يدخل القطاع المصرفي، وشركات البنى التحتية، وأنظمة النقل، وحركة الطيران، والتجارة الإلكترونية، في دائرة الاشتباك؛ إذ يحاول كل طرفٍ استغلال مواطن الضعف لدى خصومه للتأثير على اقتصادهم أو تعطيل مؤسساتهم الحكومية والخاصة. ومع عدم توافر ردعٍ واضح وغياب جهة تُلزم جميع الأطراف بقواعد ثابتة، تنتشر الهجمات السيبرانية على نحوٍ عشوائي وشامل، ما قد يولّد “سلسلة من الأزمات” المترابطة التي تنعكس سريعًا على حياة الشعوب والأمن الدولي.
  • اندماج الصراع السيبراني مع “الحرب على الأرض: في سياق هذا السيناريو، تتلاقى الهجمات الإلكترونية مع عملياتٍ عسكرية على البر أو البحر أو الجو، لتشكّل حربًا هجينة مفتوحة. تستخدم الدول الكبرى والمتحالفة معها أدوات الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيرة الهجومية للتحكم بالمعارك، فيما تعمد الدول الصغيرة إلى تشويه البيانات أو افتعال انهياراتٍ في شبكات الخصم. وهكذا يذوب التمايز بين أساليب الحرب الرقمية والفيزيائية، ويجد المواطنون أنفسهم أمام واقعٍ صعب يُفاقم من مخاوفهم اليومية حول أمنهم الوظيفي والغذائي والصحي.
  • المنحى الاستشرافي للمآلات: مع تصاعد هذا الصراع الشامل، يواجه النظام الدولي تهديدًا وجوديًّا؛ إذ قد تتفكّك سلاسل التوريد العالمية ويضطرب أداء المؤسسات المالية والدبلوماسية، وقد تتعطّل شبكات الاتصالات في بعض المناطق لأسابيع أو أشهر، وتنكمش الثقة المتبادلة بين الحكومات. في هذه الأجواء، قد يبرز من جديد ضغطٌ دولي لإبرام “معاهدة عالمية لأمن الفضاء السيبراني”، شبيهة بنمط اتفاقيات حظر الأسلحة الكيماوية أو النووية، ولكنّها هذه المرة تشمل آليات صارمة للإشراف التقني والتحقّق من تطبيق البنود. بيد أنّ إقرار مثل هذه الاتفاقية يظلّ رهينًا بموازين القوى، والتوافق السياسي بين أطرافٍ متباينة المصالح والأولويات. وفي حال فشل الجهد الدولي في إيجاد حلٍّ توافقيٍّ ملزِم، قد ينقلب الصراع الشامل إلى واقعٍ مزمنٍ من الاضطرابات السيبرانية التي تُعيق أي تطوّر اقتصادي واجتماعي في الأمد الطويل.

إنّ هذا السيناريو الثالث يعكس أقصى احتمالات اللايقين في عالمٍ تتسرّب فيه قدرات الحرب السيبرانية إلى كلّ الفاعلين الممكنين، في ظلّ شحّ أو غياب للحوكمة والضوابط التنظيمية. ورغم سوداوية الصورة، فإنّ المنهج الاستشرافي يضعه في خانة “التحذير المبكر” من مغبّة ترك الفضاء السيبراني نهبًا للتجاذبات العشوائية، ودعوةً ملحّة لبدء بناء أرضية قانونية وأخلاقية تتصدّى لاستشراء هذا النوع من الفوضى العارمة.

الخاتمة والاستنتاجات

سلّطت الدراسة الضوء على أثر التقدّم التكنولوجي في إعادة صياغة مفاهيم الجغرافيا السياسية، عبر استحداث “أقاليم” جديدة تتجاوز المعاني الكلاسيكية التي حدّدتها نظريات القوة البرّية والبحرية والجوية. وفي الوقت الذي شهدنا فيه -خلال القرن العشرين- تحوّلًا تدريجيًّا صوب الاهتمام بالفضاء الخارجي (الفيزيائي)، ها نحن اليوم أمام “فضاء سيبراني” يتحوّل إلى ميدان صراع أساسي، يُعيد تشكيل خرائط النفوذ العالمية، ويفتح الباب أمام أنماط جديدة من التهديدات والفرص في آنٍ معًا. وممّا يزيد من تعقيد المشهد أنّ التطورات الرقمية باتت تفوق في سرعتها قدرة الكثير من الدول والمؤسسات الدولية على ملاحقتها ووضع تشريعاتٍ ضابطة لها، ما يجعل السياق الدولي أقرب إلى حالةٍ انتقاليةٍ تبحث عن أُطرٍ تنظيميّة وحوكمةٍ رقميّة قادرة على استيعاب هذه التحوّلات.

ركّزت الدراسة على مسألةٍ رئيسة تتمثّل في السؤال: ما مدى تأثير التقدّم التكنولوجي على مفاهيم ونظريات الجغرافيا السياسية، وما انعكاساته على طبيعة الصراع الدولي؟ وتوصّلنا إلى جملةٍ من النقاط التي تميط اللثام عن جوانب مهمّة من هذا التغيير:

  • تآكل المفاهيم التقليدية للسيادة وحدود الدولة

بات واضحًا أنّ السيادة المنحصرة في أراضٍ محدودة بحدودٍ معترف بها دوليًّا لم تعد تحيط بجميع أوجه النفوذ والسيطرة. فقد ظهرت السيادة الرقمية كعنصرٍ موازي، تتطلّب إدارتها حماية البنى التحتية السيبرانية والقواعد الوطنية للبيانات، إضافةً إلى امتلاك قدرات هجومية ودفاعية في المجال الإلكتروني. وأدّى هذا التحوّل إلى اتساع دائرة التنافس خارج النطاقات المادية، بعدما كانت السيطرة على البرّ أو البحر أو الجوّ تقف في صدارة أولويات القوى الكبرى.

  • إعادة تعريف “القوة” على ضوء القدرات السيبرانية

تُظهر الوقائع الراهنة أنّ معايير تصنيف الدول بحسب القوة الشاملة (اقتصاديًّا وعسكريًّا) لم تعد وافية بالغرض من دون الأخذ في الحسبان القدرات السيبرانية. فالدول الكبرى تندفع في سباق تسلّحٍ رقمي يعتمد على تطوير برمجيات قرصنة متطوّرة، وأدوات ذكاء اصطناعي لإنجاز هجماتٍ سريعة وفعّالة، بينما تسعى دولٌ ناشئة أو متوسطة إلى استثمار هذا المجال في بناء قوتها بطريقة قد تعوّض ضعف قدراتها العسكرية التقليدية. وهذا ما يتيح للاعبين جدد -بمن فيهم مجموعات قرصنة أو شركات خاصة- المشاركة في موازين القوى، بل وتهديد دولٍ أكبر وأكثر ثراءً.

  • تعدّد سيناريوهات الصراع على الفضاء الجديد

انتهت الدراسة إلى رسم ثلاثة سيناريوهات مستقبلية محتمَلة لما قد يأخذه الصراع الرقمي. ففي حين يركّز السيناريو الأول على إمكانية احتكار فردٍ أو عدد محدود من الأشخاص أو الكيانات للقوة السيبرانية، يشير السيناريو الثاني إلى نظامٍ دوليٍ ثنائيٍ أو متعدّد الأقطاب تسعى فيه مجموعاتٌ من الدول لفرض هيمنتها الفنية والتقنية على الفضاء السيبراني. أمّا السيناريو الثالث فيتوقّع اتساع رقعة الفوضى إلى حدٍّ يشترك فيه جميع الفاعلين—دولًا وغير دول—في صراعٍ شاملٍ شبه مفتوح، لا تضبطه أيّ مواثيق أو ضوابط ملزمة، ما قد يفضي إلى “فوضى رقمية” على نطاقٍ دوليٍّ غير مسبوق.

  • تنامي ظاهرة الحروب الهجينة واندماجها مع التقنيات المتقدّمة

أبانت النقاشات في الدراسة أنّ الحروب لم تعد مقتصرة على المعارك الميدانية التقليدية، بل تداخلت مع أدواتٍ رقمية في فضاءاتٍ افتراضية، فأصبحت “الهجمات الإلكترونية” جزءًا من التخطيط العسكري والاستراتيجي. وتجلّى هذا الأمر بوضوحٍ من خلال استخدام الطائرات المسيّرة، والأنظمة الذكية الموجّهة، وعمليات الاختراق الإلكتروني للبنى التحتية، والحملات الإعلامية المضلّلة. كلّ ذلك يشير إلى انهيار الجدران الفاصلة بين ميادين الصراع، بحيث تتشابك المواجهات العسكرية والاقتصادية والإعلامية في مشهدٍ واحدٍ معقّد.

  • ضبابية القواعد القانونية والأخلاقية في الفضاء السيبراني

شدّدت الدراسة على أنّ كثافة التداخل بين الفضاء السيبراني والأمن القومي للدول لا تحظى إلى اليوم بتشريعاتٍ دوليةٍ واضحةٍ وملزمة، ما عدا بعض الاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية الضيّقة. وفي ظلّ غياب “اتفاقية جنيف رقمية” أو ما شابه، وتفضّل الكثير من القوى العظمى الاحتفاظ بهامشٍ واسعٍ من المناورة التقنية، تبقى قاعدة “اللا يقين” تحكم سلوك الدول والمجموعات المختلفة في هذا الفضاء. يترافق هذا الوضع مع أسئلةٍ أخلاقيةٍ كبرى حول استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات الدفاعية، وحول حماية خصوصية الأفراد وحقوق الإنسان الرقمية في عالمٍ مشحونٍ بالمطامع الاستراتيجية.

  • تحدّيات وحلول ممكنة أمام الدول النامية

يواجه كثيرٌ من الدول النامية أو المتوسطة، التي تعاني من فجوات تكنولوجية حادّة، مشكلاتٍ جسيمةً في حماية بناها التحتية الرقمية؛ إذ قد تصبح ساحاتٍ مرنةٍ للتجاذبات بين القوى الكبرى أو بين الفاعلين السيبرانيين غير الحكوميين. وتشير الدراسة إلى ضرورة إيلاء هذه الدول أهمية قصوى لبرامج بناء القدرات البشرية والتقنية، من خلال دعم البحث العلمي وتكوين تحالفاتٍ إقليميةٍ ذكية واستقطاب الاستثمارات المتعلّقة بالأمن السيبراني. وفي المدى الطويل، لا بدّ لهذه الدول من تعزيز نظمها التشريعية وقواعدها التنظيمية لإيجاد منظومة حوكمةٍ وطنيةٍ تعالج تحديات الرقمنة وتواجه أخطار الاختراق الخارجي.

  • ديناميات التطوّر التكنولوجي السريع وضرورة الاستشراف

تُظهر مجريات الثورة الصناعية الرابعة وسرعة تطوّر الذكاء الاصطناعي وطفرات الحوسبة الكمومية (Quantum Computing) أنّ مستقبل العلاقات الدولية لن يكتفي بحدود المألوف من تنافسٍ على الموارد الطبيعية أو المواقع الجغرافية الحسّاسة، بل قد ينتقل إلى حقولٍ غير مسبوقة، حيث السيطرة على خوارزميات التعلم العميق أو امتلاك “حاسوبٍ كمومي” مهيمن يُترجمان إلى نفوذٍ دولي شبه مطلق في تدبير الشؤون الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية. ولذا، يظلّ الاستشراف والتفكير طويل المدى ضرورةً لصناع القرار؛ إذ لا تكفي المعالجات التكتيكية والآنية، بل يستوجب الأمر بناء رؤى استراتيجية تتضمّن آليات مرنة للتكيّف مع التقنيات الجديدة.

  • إمكانية نشوء نظام قانوني دولي جديد

تشير النتائج كذلك إلى أنّ المخاوف المتصاعدة من انزلاق الفضاء السيبراني نحو حروبٍ مدمّرة وغير قابلة للضبط قد تدفع الدول الكبرى—بالتعاون مع منظماتٍ دوليةٍ وإقليمية—إلى التوافق على وضع أسسٍ أوليةٍ لتسيير الشؤون السيبرانية وقوننتها، ولو على غرار معاهدات ضبط الأسلحة النووية والكيماوية. ومع ذلك، فإنّ نجاح هذه المبادرات منوطٌ بمدى استعداد الأطراف الأساسية لتحمّل التزاماتٍ حقيقية من شأنها تحجيم حرية الحركة الرقمية، والأخذ بالاعتبار تباين المصالح والأولويات بين الدول ذات القدرات السيبرانية الهائلة والدول التي لا تزال تسعى للحاق بالركب.

الخاتمة

يمكن القول إنّ تحوّل “الجغرافيا السياسية” إلى فضاءٍ أوسع يشمل الأبعاد الرقمية والفضائية يؤذن بمرحلةٍ جديدةٍ في فهم العلاقات الدولية، مرحلة تحفل باللايقين والفرص والمخاطر في آنٍ معًا. ففي الوقت الذي قد تمنح فيه التطوّرات التقنيّة دولًا متوسطةً أو صغيرةً قدرةً على تحقيق قفزة في أدوات التأثير، يبقى احتمال اختلال التوازن أو فوضى الصراع السيبراني حاضرًا بقوّة، ما لم يُصَر إلى بلورة منظومة حكمٍ دوليةٍ تعالج هذا الانفتاح التقني الهائل. إنّ الأفق المنظور يُشير بجلاء إلى أنّ اللاعبين الدوليين والمتنافسين من غير الدول ماضون في توظيف أدواتٍ إلكترونيةٍ وأجهزةٍ ذكيةٍ لم تكن متاحةً قبل عقودٍ قليلة، وأنّ مصير الأمن والسلم العالمي سيُعاد صياغته وفق مدى قدرة المجتمع الدولي على تحويل الفضاء السيبراني من حلبةٍ للفوضى والتصارع إلى مساحةٍ تراعي الحدّ الأدنى من القوانين والمبادئ الأخلاقية. بهذه الرؤية، توصي الدراسة بمزيدٍ من الأبحاث الموسّعة والمعمّقة في هذه القضايا، فضلًا عن تشجيع مبادراتٍ دوليةٍ تهدف إلى بناء نظام قانوني رقمي يضبط حوكمة الإنترنت والاستخدامات العسكرية للتقنيات المتطورة، بما يمكّن الدول، خاصة النامية منها، من تعزيز أمنها السيبراني والمشاركة الفعالة في النظام العالمي الجديد.

المصادر و المراجع

[1]Mirza, M. N., & Ayub, S. (2022). Heartland, Rimland, and the grand chessboard deciphering the great power politics in Central Asia. UW Journal of Social Sciences5(1), 187-204.‏

[2]Sumida, J. (2014). Alfred Thayer Mahan, Geopolitician. In Geopolitics, Geography and Strategy (pp. 39-62). Routledge.‏

[3]De Seversky, A. P. (1950). Air power: Key to survival. (No Title).‏

[4]Pohle, J., & Thiel, T. (2020). Digital sovereignty. Pohle, J. & Thiel.‏

[5]Wirth, C. (2023). Solidifying sovereign power in liquid space: The making and breaking of ‘island chains’ and ‘walls’ at sea. Political Geography103, 102889.‏

[6]Stea, D. (2017). Space, territory and human movements. In The Structure of Political Geography (pp. 323-327). Routledge.

[7]Oppenheimer, A. (2003). Arms race in space. Foreign Policy, (138), 81.‏

[8]Wilson, R., Limage, C., & Hewitt, P. (1996, July). The evolution of ramjet missile propulsion in the US and where we are headed. In 32nd Joint Propulsion Conference and Exhibit (p. 3148).‏

[9]Donskov, E., & Fomin, V. V. (2003). Information superiority in warfare. Military Thought12(4), 157-162.‏

[10]Pace, S. (2023). A US Perspective on Deterrence and Geopolitics in Space. Space Policy, 101565.‏

[11]Milowicki, G. V., & Johnson-Freese, J. (2008). Strategic choices: examining the United States military response to the Chinese anti-satellite test. Astropolitics6(1), 1-21.‏

[12]Weeden, B. (2019, February). US National Security Space Policy and Strategy: From Sanctuary to Space Force. In JMOD Symposium on Space Security, Tokyo, Japan.‏

[13]Kiernan, V. (1991). Guidance From Above in the Gulf War: A satellite system for determining precise locations performed well in its first battlefield tryout—2 years before it was supposed to be fully operational. Science251(4997), 1012-1014.‏

[14]Matsumoto, N. M. (2024). The Future of Geography: How Power and Politics in Space Will Change Our World.‏

[15]Gao, C., Guo, Q., Jiang, D., Wang, Z., Fang, C., & Hao, M. (2019). Theoretical basis and technical methods of cyberspace geography. Journal of Geographical Sciences, 29, 1949-1964.‏

[16]Schmitt, M. N., & Vihul, L. (2014). Proxy wars in cyberspace: the evolving international law of attribution. Fletcher Sec. Rev.1, 53.

[17]Kirchner, K., Lemke, C., & Brenner, W. (2024). New Forms of Value Creation in the Digital Age. In Digitalization in companies: From theoretical approaches to practical (pp. 23-39). Wiesbaden: Springer Fachmedien Wiesbaden.‏

[18]Ulugbek Xoliyor-o‘g‘li, R. (2024). Human Rights and Ethical Aspects in Cyberspace. Web of Semantics: Journal of Interdisciplinary Science2(6), 53-57.‏

[19]Danyk, Y., Maliarchuk, T., & Kokhreidze, G. (2017). Hybrid highly technological synergy of modern wars and military conflicts. Proceedings of the David Agmashenebeli National Defense Academy of Georgia, 14-21.‏

[20]Green, J. A. (2015). Cyber Warfare. Taylor & Francis.‏

[21]Sivakumaran, S. (2016). Beyond states and non-state actors: The role of state-empowered entities in the making and shaping of International Law. Colum. J. Transnat’l L.55, 343.‏

[22]Horowitz, M. C., Allen, G. C., Kania, E. B., & Scharre, P. (2022). Strategic competition in an era of artificial intelligence. Center for a New American Security..‏

[23]Gable, K. A. (2010). Cyber-Apocalypse Now: Securing the Internet Against Cyberterrorism and Using Universal Jurisdiction as a Deterrent. Vand. J. Transnat’l L.43, 57.‏

4/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى