عودة ترامب إلى الحكم: بين الحروب التجارية والطموحات الجيوسياسية – ماذا يحمل المستقبل؟

بقلم : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
في يناير 2025، عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في واحدة من أكثر اللحظات إثارة للجدل في التاريخ السياسي الأمريكي، بعد انتخابات شهدت استقطابًا غير مسبوق، وسط تحديات داخلية ودولية متصاعدة. هذه العودة لم تكن مجرد استعادة لمنصب الرئاسة، بل مثّلت تأكيدًا على صعود نمط جديد من الحكم الشعبوي القائم على الشعارات القومية والتوجهات الاقتصادية العدوانية، التي لا تعترف بمبادئ الاستقرار الدولي أو التعددية السياسية.
فمنذ اللحظة الأولى لإعلانه الترشح، رفع ترامب شعارات أكثر تطرفًا مما كان عليه في ولايته الأولى، متوعدًا بإعادة ترتيب الأوراق السياسية والاقتصادية على مستوى العالم وفق رؤيته الخاصة، التي تقوم على مبدأ “أمريكا أولًا” بشكل أكثر صرامة وعدوانية. تصاعدت خطابه القومي إلى مستويات غير مسبوقة، معلنًا عن سياسات جمركية راديكالية ضد شركاء تجاريين رئيسيين، مثل كندا والمكسيك والصين، مع توجيه تهديدات مباشرة بإجراءات عقابية قد تعيد تشكيل النظام الاقتصادي العالمي بالكامل.
لكن الأخطر من ذلك، أن ترامب بدأ بإحياء مشاريع غير تقليدية كان قد طرحها خلال ولايته الأولى، مثل فكرة ضم كندا وجزيرة جرينلاند إلى الولايات المتحدة، وتحويل أمريكا إلى “إمبراطورية اقتصادية لا تقهر”. ولم يقتصر خطابه التوسعي على حدود الشمال، بل امتد إلى الشرق الأوسط، حيث طرح علنًا فكرة تهجير سكان قطاع غزة وضم القطاع إلى الولايات المتحدة، في خطوة لا تعكس فقط غياب الرؤية السياسية، بل تجسد مقامرة خطيرة بمصير المنطقة بأسرها.
هذه السياسات والتوجهات تطرح تساؤلات جوهرية: هل تمثل عودة ترامب بداية لعهد جديد من عدم الاستقرار الدولي؟ وهل تتحمل الولايات المتحدة والعالم تجربة ثانية من حكم رجل لم يثبت في ولايته الأولى سوى أنه يرى الدولة مجرد صفقة تجارية كبرى؟
أولًا: ترامب والرؤية الاقتصادية – سياسات حمائية قد تفجر حربًا تجارية عالمية
منذ اليوم الأول لعودته إلى الحكم، شرع ترامب في تنفيذ خططه الاقتصادية التي تقوم على السياسات الحمائية وفرض الرسوم الجمركية العقابية. كانت أبرز خطواته:
-فرض رسوم جمركية عالية على كندا والمكسيك والصين، وهي خطوة قد تؤدي إلى تصعيد توترات تجارية، وربما انهيار اتفاقيات التجارة الحرة مثل “اتفاقية الولايات المتحدة-المكسيك-كندا (USMCA)”.
-رفع الجمارك على البضائع الصينية بنسبة تصل إلى 60%، مما يهدد بإشعال حرب تجارية جديدة مع الصين، قد يكون لها تداعيات كارثية على الاقتصاد العالمي.
-تهديد الشركات الأمريكية التي تستثمر خارج البلاد بعقوبات ضريبية صارمة، لإجبارها على العودة إلى الداخل الأمريكي، في خطوة قد تعطل سلاسل التوريد العالمية وتؤدي إلى تضخم غير مسبوق.
هذه السياسات تعكس استمرار ترامب في إدارة الاقتصاد الأمريكي بعقلية رجل الأعمال الذي يسعى لتحقيق مكاسب سريعة دون النظر إلى العواقب الاستراتيجية. وإذا كانت تجربته الأولى قد أدت إلى توتر علاقات واشنطن التجارية، فإن عودته اليوم تأتي في ظروف أكثر تعقيدًا، حيث يواجه الاقتصاد الأمريكي تحديات ضخمة، بما في ذلك التضخم وأزمة الديون، مما يجعل أي حرب تجارية مغامرة محفوفة بالمخاطر.
ثانيًا: ترامب ونزعته التوسعية – هل يسعى إلى “إمبراطورية أمريكية جديدة”؟
لم يكن ترامب يخفي طموحاته التوسعية حتى في ولايته الأولى، حيث كشف عام 2019 عن رغبته في شراء جزيرة جرينلاند من الدنمارك، في خطوة أثارت سخرية العالم، لكنها كشفت عن توجه استعماري خفي في عقليته السياسية. واليوم، بعد عودته إلى الرئاسة، عاد ليطرح هذه الفكرة مجددًا، بل وذهب أبعد من ذلك بالإعلان عن رغبته في ضم كندا إلى الولايات المتحدة، معتبرًا أن “الشعب الكندي سيكون أكثر ازدهارًا تحت حكم واشنطن”.
هذه التصريحات لم تكن مجرد استعراض إعلامي، بل تعكس نزعة واضحة نحو إعادة تعريف الحدود الجيوسياسية، وهو ما يثير قلقًا دوليًا، خاصة في ظل التوترات المتصاعدة بين واشنطن وبكين وموسكو.
لكن الأخطر من ذلك، كان طرحه فكرة تهجير سكان غزة وضم القطاع إلى الولايات المتحدة، معتبرًا أن هذه الخطوة قد “تحل أزمة الشرق الأوسط”، دون أي اعتبار للتداعيات الإنسانية أو السياسية لمثل هذا المقترح. هذه الفكرة ليست مجرد خيال سياسي، بل تعكس تحولًا نحو سياسات استعمارية محدثة، قد تؤدي إلى تفجر الأوضاع في الشرق الأوسط بشكل غير مسبوق.
ثالثًا: تداعيات عودة ترامب على الداخل الأمريكي – هل يواجه المجتمع الأمريكي خطر الانهيار الداخلي؟
إذا كانت سياسة ترامب الخارجية تتسم بالعدوانية والتوسع، فإن سياسته الداخلية لا تقل خطورة. فبعد عودته إلى الرئاسة، تعهد باتخاذ إجراءات صارمة ضد خصومه السياسيين، حيث وصف الديمقراطيين بأنهم “خونة يجب محاسبتهم”، وهو ما يثير مخاوف من تحول أمريكا إلى دولة شبه استبدادية تحت حكم ترامب.
– تعزيز الخطاب القومي المتطرف: عاد ترامب إلى استخدام خطابه الشعبوي العنصري، متوعدًا المهاجرين واللاجئين بسياسات أكثر تشددًا، ومشجعًا النزعات القومية البيضاء.
– تقويض استقلالية المؤسسات: بدأ ترامب في اتخاذ خطوات لضمان الولاء التام للقضاء والكونغرس، مما يهدد بإضعاف النظام الديمقراطي الأمريكي.
–زيادة الاستقطاب السياسي: الولايات المتحدة اليوم أكثر انقسامًا من أي وقت مضى، وعودة ترامب قد تدفع المجتمع الأمريكي إلى حافة صراع داخلي غير مسبوق.
رابعًا: انعكاسات عودة ترامب على النظام الدولي – هل نحن أمام عصر جديد من الفوضى العالمية؟
عودة ترامب لا تمثل أزمة داخلية فقط، بل تضع العالم أمام لحظة مفصلية قد تعيد تشكيل النظام الدولي بالكامل. فسياساته التصعيدية تجاه الصين وروسيا، وتهديداته لحلفاء أمريكا التقليديين، قد تؤدي إلى:
– تراجع الدور الأمريكي في المؤسسات الدولية، مما يسمح لقوى مثل الصين وروسيا بملء الفراغ.
– زيادة التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، خاصة مع دعمه غير المشروط لإسرائيل ومقترحاته المتطرفة تجاه غزة.
– إضعاف حلف الناتو، مما قد يشجع روسيا على المزيد من التحركات العدوانية في أوروبا الشرقية.
كل هذه التطورات تجعل العالم أكثر هشاشة، حيث قد تتحول قرارات ترامب المتهورة إلى شرارة تؤدي إلى أزمات كبرى، وربما نزاعات مسلحة غير محسوبة العواقب.
مع عودته إلى الحكم، لا يبدو أن ترامب قد تعلم شيئًا من أخطاء ولايته الأولى، بل يبدو أكثر جرأة وتطرفًا في سياساته. إن إدارة الدول ليست كإدارة الشركات، لكن ترامب لا يزال يتعامل مع أمريكا والعالم كأنهما مجرد مشروع تجاري ضخم يبحث عن الأرباح السريعة.
اليوم، يقف العالم أمام اختبار صعب: هل يمكن كبح جماح سياسات ترامب قبل أن تتحول إلى أزمات كارثية؟ أم أن هذه المرحلة تمثل بداية حقبة جديدة من عدم الاستقرار العالمي الذي قد يعيد تشكيل النظام الدولي بأكمله؟