الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

مع الشيطان وجها لوجه: كيف تكون الحرب القادمة؟

بقلم :  التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي

 

كان توقف مباحثات ومفاوضات الملف النووي بين الولايات المتحدة وإيران، هو نتاجا طبيعيا في تقديري للمتغيرات السياسية المتعاقبة في الشرق الأوسط،  والحروب الكونية التي تفجرت على جبهتين: الجبهة الروسية الأوكرانية من ناحية، والجبهة الإسرائيلية التي تحارب فيها إدارة نتنياهو المتطرفة حركةالمقاومة الإسلامية (حماس) من ناحية ثانية، وما ترتب على ذلك من أعباء على الإدارة الأمريكية في مباشرة الحربين في آن واحد، وتغطية النقص الحاد في الأسلحة والذخائر، خاصة على مستوى الجبهة الروسية الأوكرانية، وتقديم الدعم العسكري واللوجستي الكامل على مستوى الجبهة الإسرائيلية.

ورغم أن الغموض كان يخيم على هذه المباحاثات وما إنتهت إليه إلى أن وصلت مرحلة التوقف الكامل بسبب من الحروب المتفجرة، إلا أنه يمكن القول ان إيران قد حققت مكاسب سياسية كبيرة منذ ذلك الوقت، فقد ارتفعت شعبيتها في المنطقة إلى حد بعيد، وزاد ذلك أيضا من قوة الفاعلين المرتبطين بها.

ولأنه من الصعب التكهن بما تضمره الولايات المتحدة حيال قضية الانسحاب الأحادي من الاتفاقية النووية أو اتفاق خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) التي تم التوقيع عليها في العام  2015 ، والتي تم بموجبها التزام إيران  تجميد أنشطتها النووية، وعدم حيازتها مواد انشطارية لمدة 15 عاما والا تتجاوز نسبة تخصيب اليورانيوم عن  3.67%مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، إلا أنها وجهت تحذيرات صريحة ل-إيران بعدم دخول الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد أن نفذت الأخيرة حربا هجومية غير مسبوقة، وغير متوقعة.

حذر رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال  ” تشارلز براون ” إيران من مغبة التورط في المواجهات الجارية بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل، وقال إنه لا يريد أن تتسع رقعة الصراع، في وقت يسرع فيه الجيش الأميركي في إرسال إمدادات عسكرية جديدة لتل أبيب.[1]

ولأن الشواغل والحروب التي وقعت في أتونها الولايات المتحدة كانت كفيلة بما يشبه التجميد القسري لمفاوضات النووي، وانصراف الطرف الإسرائيلي عن محاولاته المستميتة لافشال المفاوضات، فقد كانت الادارة الإسرائيلية المتطرفة من أقوى الأطراف التي تتبنى وجهة النظر الداعية لخروج وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية، بل أنها تهدد بضربات استراتيجية للعمق الإيراني، إلا إن ذلك كان عاملا مساعدا من ناحية ثانية  ل-ايران، في إلتقاط انفاسها وترتيب اوراقها من جديد.

صحيح أن الخطاب الإيراني في مساندة غزة في طوفان الأقصى كان يلفه الغموض وعدم الوضوح، إلا أنها كانت تؤكد من ناحيةثانية رؤيتها واستراتيجيتها الايدلوجية المعروفة والمعارضة ل-إسرائيل والولايات المتحدة (الشيطان الأكبر)، والتي اختطتها ايران منذ الثورة الايرانية  1979، فقد كان ” آية الله الخميني ” ينظر إلى إسرائيل باعتبارها قوة غاشمة محتلة للسيادة الإسلامية.

أما موقف إيران من الكيان الصهيوني، فهو موقف العداء المطلق، وكذلك هو موقف الكيان الصهيوني من إيران: إنه العداء المطلق. ومن يظن أن ذلك العداء مجرد تمثيلية فهو يعيش في الوهم، مؤثراً إنكار الحقائق لصالح الهواجس. ولا أدل على ذلك من أن إيران هي البلد الوحيد في المنطقة الذي بقي على دعمه للمقاومة في فلسطين، تمويلاً وتسليحاً وتدريباً، وهو موقف لم يتغير أو يتبدل منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بعد أن أطاحت الثورة بنظام الشاه، الذي كان يمد الكيان الصهيوني بالنفط، وتستخدمه الولايات المتحدة شرطياً لها في منطقة الخليج.[2]

أيد المسؤولون في إيران عملية طوفان الأقصى بوصفها إحدى بوادر تحقق توقعات المرشد الإيراني الذي أشار في أكثر من مرة إلى أن إسرائيل إلى زوال. عند مراجعة موقع الخامنئي الإلكتروني والذي يجمع فيه عادة خطاباته ولقاءاته، نجد أن الصفحة الأولى مخصصة لطوفان الأقصى؛ حيث أعيد نشر خطابه الذي أجراه قبل أيام مع مسؤولي النظام وبعض سفراء الدول الأجنبية وضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية. عبَّر خامنئي بكل صراحة عن أن إسرائيل إلى زوال وأن الشباب الفلسطيني والحركة الفلسطينية هي أكثر نشاطًا وتصميمًا على مقاومة الاحتلال واستبداده.[3]

وفي الواقع العملياتي المشاهد فقد تمكنت إيران عبر أذرعها والفاعلين المرتبطين بها في الشرق الأوسط، المتمثلة في حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والمقاومة الإسلامية في العراق  والقوى السورية  ، تمكنت من مهاجمة الأهداف الأمريكية وإرباك الحلف الأمريكي الإسرائيلي، لكن من غير نسب تلك العمليات الهجومية صراحة لها.

بنت طهران خلال سنوات عديدة شبكة واسعة ومعقدة من الجماعات المسلحة غير الحكومية امتدت من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. كما عملت على منح هذه الجماعات استقلالية خاصة وشجعت كذلك على التعاون والتشاركية بين هذه المجموعات. هاتان الخاصيتان توفران لإيران منفعة مزدوجة تتمثل، أولًا، بمنع نشوب حرب مباشرة مع القوى الإقليمية والدولية وتوفر كذلك إمكانية النأي بالنفس عن أعمال هذه المجموعات كلما اقتضت الضرورة ذلك.[4]

صرح الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله ” فى خطابه الذي ألقاه بعد مقتل القيادى الحمساوى صالح العارورى فى بيروت”حتى الآن نقاتل في الجبهة بحسابات لذلك هناك تضحيات لكن إذا فكر العدو أن يشن حربًا على لبنان حينها سيكون قتالنا بلا حدود وضوابط وسقوف لسنا خائفين من الحرب ونحن مستعدون لها الحرب معنا ستكون مكلفة للغاية. فإذا شُنت الحرب على لبنان فإن مقتضى المصالح اللبنانية الوطنية أن نذهب بالحرب إلى الأخير من دون ضوابط”.[5]

ولأن الولايات المتحدة كانت حليفا كامل الدسم للطرف الإسرائيلي، فقد كانت الإستراتيجية الإيرانية أيضا في صف الحلفاء المرتبطين ايدلوجيا بها، في الجنوب اللبناني وفور انطلاق طوفان الأقصى قصفت قوات حزب الله مواقع للجيش الإسرائيلي بمزارع “شبعا المحتلة”،وكان ذلك رسالة مفادها أنهم جزء من اطراف الحرب في منازلة إسرائيل، وتتابعت العمليات واستهدفت القوات الإسرائيلية وأجهزة المراقبة والرصد والاستشعار الإسرائيلية على طول الحدود، وتجاوزت العمليات الهجومية في العراق وسوريا ما يزيد عن الستين هجوما بحسب التقديرات الأمريكية.

ومما  زاد من ارباك الحلف الأمريكي الإسرائيلي، هو تصاعد هجمات الحوثيين جنوب البحر الأحمر  على السفن المرتبطة ب-إسرائيل باستخدام طائرات مسيرة وصواريخ مضادة للسفن وهو ما دفع تلك السفن لتغيير وجهتها الى طريق جنوب إفريقيا مما زاد في التكلفة الباهظة، وتأخير البضائع بين أوروبا وآسيا وأثر مباشرة على التجارة العالمية، وتلا ذلك محاولات عدة في استهداف  مدينة ايلات بصواريخ باليستية في 9 نوفمبر 2023، فضلاً عن احتجاز سفينة شحن إسرائيلية  في 19 من الشهر نفسه، وهذا بدوره ربما ساهم في تغيير النظرة للحوثيين من اعتبارها مليشيا إيرانية مارقة إلى جماعة فاعلة مؤثرة في تفسير ما جرى.

أدى انصار الله في اليمن، وهم حلفاء أساسيون لإيران، دوراً مهماً في المعركة عبر السيطرة على بعض السفن الإسرائيلية، ومنع بعض السفن المتوجهة إلى إسرائيل من الوصول إلى مرفأ إيلات، وهذا الدور عزّز موقع إيران الإقليمي، كونها الحليف الأهم لأنصار الله، لكن في المقابل، واجه الحوثيون تحديات جديدة، عبر الضربات العسكرية التي تعرض لها اليمن مؤخراً من جانب الأميركيين والبريطانيين، وهو ما سيكون له تأثير مهم في دورهم المستقبلي.[6]

مع هذا ليس مستبعدا ان تستمر مشاركة إيران بالوكالة في الحرب المفروضة على غزة في المدى المنظور، عبر  الحلفاء والفاعلين المرتبطين، ربما حتى لا تخوض مواجهة كاملة مع الطرفين الإسرائيلي والامريكي، وتفقد كل ما اكتسبته بالهيمنة والتمدد في المنطقة طيلة السنوات المنصرمة، وما استطاعت تحقيقه من مكاسب سياسية مع الطرف الأمريكي في ملف مفاوضات الاتفاق النووي ، لذا كان من الطبيعي ان يقتصر دور  إيران في ظل المعطيات السياسية الراهنة على الحرب بالوكالة.

ورغم أن إيران حرصت على تأكيد عدم ضلوعها فعليا أو التخطيط ل-عملية طوفان الأقصى وهذا ما حدث بالفعل، إذ أن قرار الحرب كان قرار مستقلا نابعا من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)  إلا أنها حرصت أيضا إبداء ارتياحها للقرار، وهذا من ناحية ثانية يوفر غطاء كبيرا ل-إيران في متابعة ومساندة تطورات الحرب .

ولأن إيران وحزب الله لم يكونا على عِلم بتفصيلات العملية وأهدافها إلاّ قبل تنفيذها بوقت قليل (نحو نصف ساعة قبل انطلاقتها)، بحسب بعض قيادات “حماس” وحزب الله، فإنهما حرصا على إعلان الدعم لقوى المقاومة، وخصوصاً حركة “حماس” في مواجهة الرد الإسرائيلي، لكنهما بلّغا قيادات الحركة بعدم إمكان الانخراط في الحرب الشاملة، لأن ذلك يحتاج إلى تحضير مسبق، ولذلك، فقد انخرطت إيران في العمل على تقديم كل أشكال الدعم إلى حركة “حماس” وقوى المقاومة، والمساهمة في زيادة التعاون والتنسيق بين هذه القوى على صعيد المستويات السياسية والإعلامية والدبلوماسية كافة، وقد تولى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ذلك بصورة مباشرة عبر زيارات متكررة إلى بيروت وقطر، وعقْد لقاءات مع قيادات قوى المقاومة، بالإضافة إلى التنسيق والتعاون مع مختلف الدول العربية والإسلامية لتقديم الدعم إلى الشعب الفلسطيني، وعقْد مؤتمر الدول العربية والإسلامية في السعودية.[7]

في ظل هذه المعطيات والسردية الإيرانية التي تترواح بين طرفي متصل ، الأول هو دعمها الكامل للقضية الفلسطينية ومناصبتها العداء للشيطان الأكبر،  لكنها لا  تلقي بكاملها في مواجهة مكشوفة مع الشيطان، حفاظا على صورتها القوية في المنطقة، وفي الوقت نفسه لا تود أن تخسر كل المكاسب السياسية التي قطعت فيها الدبلوماسية الإيرانية شوطا بعيدا، إلا أنه ليس مستبعدا تنحية كل هذه السرديات  والمعطيات، ودخول اللاعب الإيراني في حرب إقليمية شاملة مفتوحة وفقا للمتغيرات السياسية الراهنة والقادمة. ربما.

المصادر:

[1]_أميركا تحذر إيران وتسرع إمدادات الدفاعات الجوية والذخيرة إلى إسرائيل، موقع الجزيرة نت، 10  اكتوبر/تشرين الأول 2023،(تاريخ الدخول: 2 ابريل /نيسان 2024):https://tinyurl.com/mrv6ebww

[2]_عزام التميمي، الحرب على غزة وإيران ونظرية المؤامرة، موقع عربي 21، 29  يناير/كانون الثاني 2024،(تاريخ الدخول: 2 ابريل /نيسان 2024): https://tinyurl.com/bdh8396b

[3]_محمود البازي، طوفان الأقصى: كيف نفهم العلاقة بين حماس وإيران، مركز الجزيرة للدراسات، 16  أكتوبر/تشرين الأول 2023،(تاريخ الدخول: 2 ابريل /نيسان 2024):  https://studies.aljazeera.net/ar/article/5765

[4]_المصدر السابق

[5]_حنان أبوسكين، أبعاد التصعيد الحذر فى الموقف الإيرانى من الحرب على غزة، المركز الديمقراطي العربي،27 مارس/آذار  2024،(تاريخ الدخول: 2 ابريل /نيسان 2024):

أبعاد التصعيد الحذر فى الموقف الإيرانى من الحرب على غزة

[6]قاسم قصير، إيران والحرب على غزة: القيادة من الوراء، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024،(تاريخ الدخول: 2 ابريل /نيسان 2024):  https://www.palestine-studies.org/ar/node/1655062

[7]_المصدر السابق

 

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى