اعمال صاحب السيادة

بقلم : التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي
تعتبر السيادة في بنية الدولة هي حقيقة السلطة الآمرة والناهية والموجهة لكل التكاليف الصادرة من رأس السلطة أو القيادة بما يحقق استقرار وإستقلال الدولة وحماية حدودها، وإذا كانت الدولة على المستوى الإقتصادي أو الأمني والعسكري في حالة تراجع وقصور أو تدني أو إنهيار، بسبب وقوعها في نزاعات وحروب هجينة قد كسرت من شوكتها وأوشكت على فقدان تماسكها للدفاع عن سيادتها، أو بسبب حروب داخلية ضد مجموعات أو ميليشيات متفلتة أو متمردة، فهذا يرجع إلى فساد وخلل في المنظومة القيادية والسيادية، وإنحراف صاحب السيادة عن تنمية القوة المتكاملة باختلاف اضرابها وأشكالها وفقدانه للإرادة السياسية وعدم قدرته على الإمساك بهما تماما.
ارتبطت نظرية السيادة منذ القرن السادس عشر بالمنظر الفرنسي “جان بودان” Jean Bodan وفي كتابه (ستة كتب في الجمهورية) عرف السيادة بأنها: سلطة الدولة العليا المطلقة والأبدية والحازمة والدائمة التي يخضع لها جميع الأفراد رضاء أو كرها، وفي هذا التعريف قدم “بودان” السيادة على مستويين: المستوى الأول يتصل بالكيانية السيادية في معناها المطلق، والمستوى الثاني بصاحب السيادة. في المستوى الأول عرف السيادة أنها القوة المطلقة والأبدية والدائمة الكامنة في الدولة، أما في المستوى الثاني فقد قدمها باعتبارها الصفة المميِزة لصاحب السيادة الذي لا يخضع بأي شكل لأوامر الآخرين، كونه هو الذي يضع القوانين التي يخضعون لها، أما “هوبس” فلم يبتعد كثيرا من المعنى، فقد عرف السيادة أنها: سلطة ذلك الفرد أو تلك الهيئة الذي أو التي تمتلك سلطة الإرادة التي تنازلت عنها الأغلبية في مقابل منح الأغلبية حياة آمنة مطمئنة.
غير أن مفهوم السيادة كان حاضرا في أوروبا قبل “جان بودان” و”هوبس” بكثير، تحديدا منذ القرن الثالث عشر حيث كان تعبير السيادة في أوروبا وقتذاك شائعا ومرادفا لمكانة الفرد المتميز أو صاحب المنزلة الرفيعة أو السيد في التراتبية السياسية والاجتماعية، ولم يأخذ معناه الإعتباري إلا بعد نشأة الدولة القومية في اعقاب اتفاقية وستفاليا1648 حيث ساد شعور عام بضرورة سيادة الدولة وضرورة مبدأ المساواة في التفاعل الدولي والعلاقات الدولية.
صحيح أن السيادة لها مظهران داخلي وخارجي على مستوى الدولة، يتمثل المظهر الداخلي في بسط النفوذ الكامل على الافراد والهيئات وتمكين السلطة على كافة مفاصل الدولة، ومظهر خارجي يتمثل في فرض المساواة والندية مع غيرها من الأمم والدول، واحترام سيادة الدول الأخرى، وعدم خضوعها لأي إرادة سيادية من دولة أخرى، إلا انه لا يمنع من عقد الاتفاقات والمواثيق مع الدول الاخرى متى ما إقتضت المصلحة والضرورة بل يعد من لوازم السيادة.
ولأن النظام العالمي المعاصر وفي ظل هيمنة القطبية الآحادية ازدحم بالمفاهيم والمنظمات الفاعلة غير الحكومية والمنظمات الاقليمية والدولية، مثل منظمات حقوق الإنسان والاتحاد الأوروبي ومكافحة الإرهاب والتطرف، وهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيرها، فقد كان من شأن المنظمات الفاعلة الدولية أحيانا التدخل السافر في الدولة بتلك المسميات في أنحاء كثيرة في العالم على نحو ما جرى (ولا يزال) في المحيط العربي والدول التي تنشط فيها الجماعات الجهادية والتنظيمات المتطرفة، وبات من السهولة بمكان في عالم تغلب فيه لغة المصالح مس هيبة الدولة وسيادتها بتلك الذرائع من الجهات والمنظمات الفاعلة، أحيانا بطلب من صاحب السيادة للضرورة، وأحيانا كثيرة لتحقيق مصالح وغايات لأطراف وجهات أخرى.
ولأن عالم اليوم في ظل العولمة وشبكات الاتصال وادوات التجسس المتطورة والمعقدة والتي تأخذ اشكالا كثيرة بات قرية صغيرة ومكشوفة، فقد كانت الفواعل والمنظمات الفاعلة تستخدم المسميات المستترة في اغلب الأحيان لتحقيق مصالحها الخاصة، ولا تكلف نفسها عناء المواجهة المباشرة، إضافة، فإن انتهاك سيادة الدول بهذه الطريقة في اغلب الاحوال يترافق مع إزدواجية المعايير وانتقائيتها، مثلما يحدث في فلسطين وإيران على سبيل المثال.
ورغم أن معنى السيادة ينطوي على قدر كبير من الاستقلالية في شؤون الدولة بما يتضمن ذلك استقلالها في قرارها وإرادتها وبسط هيبتها داخليا وخارجيا بما يحصل الاستقرار والأمن، إلا أن المفهوم في ظل النظام العالمي الذي ترتبط فيه الدول بالاتفاقات والمواثيق والمنظمات الدولية قد أدى ليس لإلغاء سيادة الدولة لكن تحجيم هذه السيادة بالقدر الذي يتيح للمنظمات الدولية توقيع العقوبات الاقتصادية كوسيلة ردع وزجر أحيانا، وربما التدخل في الشؤون الداخلية للدولة في حالة ما يوجب ذلك ووفقا لفقهيات القانون الدولي، وباعتبار أن الدولة مشاركة وعضو في الأمم المتحدة وملزمة بالتالي بقراراتها وما يجمع عليه مجلس الأمن.
غير أن مجلس الأمن الذي يعتبر الجهة المخولة دوليا والمنوط بها فرض حالتي الأمن والسلم الدوليين بحسب مواثيق وبنود القانون الدولي وما تقتضيه ضرورة الأمن الجماعي، لم يسلم من القصور والوصول للنزاهة الكاملة التي تعزز فيه الثقة المطلقة، لوجود حق اعتراض القرارات باستخدام حق النقض الذي هو حكر للخمسة دول دائمة العضوية، ولأن هذه الدول الخمس تنظر الى المصالح الخاصة بها قبل كل اعتبار فإن تعزيز الأمن والسلم الدوليين يكون بهذا الحق ناقصا لا عدالة فيه.
ولنضرب مثالين فقط على إنتهاك سيادة الدول وإنتشار الفوضى العالمية: أولا في غزو العراق، فقد كانت الفواعل مكيافيللية التوجه (إن صح هذا التعبير) وتبرر الوسائل من أجل الغايات والمصالح؛ كان الكذب وقلب الحقائق هما الوسيلة الوحيدة لتدمير العراق وإنتهاك سيادته، واعترف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “توني بلير” بذلك صراحة عندما حاصره البرلمان البريطاني والمجتمع الدولي مما اضطره إلى أن يشرب من قارورة أمامه في منصة البرلمان البريطاني عدة مرات، بعد أن عرف الجميع كذبه واهلاكه للجنود البريطانيين والعراقيين معا، وتدميرهم للعراق وانتهاك سيادته بذريعة مفتراة مكذوبة وهي نزع وتدمير أسلحة الدمار الشامل.
والمثال الثاني هو النزاع النووي الإيراني فقد وقعت عام2015 روسيا والولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، على اتفاق خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) الاتفاقية النووية، والتي التزمت إيران بعد التوقيع عليها بتجميد أنشطتها النووية، وعدم حيازتها مواد انشطارية لمدة 15 عاما مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، لم يكن ذلك مقبولا ومستساغا ل-إسرائيل لما تمثله إيران النووية من مصدر خطر وجودي لها، لذا عندما أعلن” ترامب” الانسحاب الأحادي من الاتفاقية في 8 مايو/ايار2018 واصفا إياها بأنها من أسوأ الاتفاقات في تاريخ الولايات المتحدة، وأنها تمنح إيران أكثر بكثير من الدول الموقعة عليها، كانت إسرائيل من أول الدول المباركة، وفي إنتهاك واضح لسيادة الجمهورية الإيرانية قامت بعمليات تخريب واسعة في مفاعل نطنز النووى لاحقا.
وفي مسلمات العلاقات الدولية التي تتضح كل يوم أن أصدقاء الأمس هم أعداء اليوم وأعداء اليوم هم أصدقاء الغد، لذا من المفيد لصاحب السيادة أن يكون على أهبة الاستعداد لأي نزاع محتمل ينقص من سيادة الدولة، وهذا لا يكون في تقديري إلا بتعظيم القوة في الوقت الراهن، بتطوير الآلة العسكرية وزيادة عددها وأنواعها وتطوير مراكز البحث العلمي المختصة بهذه الصناعة، ليس هذا وحسب بل الانضمام للتحالفات والمجموعات الأقوى لاحقا، لما في الاتحاد والتحالف من تراكم للخبرات والمهارات التي من شأنها قلب موازين النزاعات.
من ناحية ثانية فإن زيادة الدولة مستواها الاقتصادي هو أيضا قوة تضاف لقوتها العسكرية، وتمنع الدولة من رهن قرارها وإرادتها وسيادتها للدول الأخرى، ولنضرب أيضا مثالين على ذلك: أولا مشروع الحزام والطريق، فقد عمدت الصين إلى إلتزام سياسات جديدة تحاول من خلالها إحداث تحول في بنية النظام الدولي، وهو إحداث التحول من آحادي القطبية إلى نسق متعدد الأقطاب أو إلى الوصول إلى حالة من اللاقطبية في النسق الدولي وكان مشروع “الحزام والطريق” أو “طريق الحرير” هو المبادرة التي خرجت بها الصين على العالم، وأكدت فيه ضرورة الاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، وإدارة الصراعات الدولية سلميًا، ومعارضة استخدام أو التهديد باستخدام القوة، ودعم مفهوم جديد للأمن يكون جوهره الثقة المتبادلة والمساواة في السيادة بين الدول أيًا كانت ظروفها الاقتصادية والسياسية، وتحقيق التعاون المنفعي المتبادل والتنمية المشتركة بين الدول كافة ونتيجة لتلك السياسة الصينية الاقتصادية المبتكرة، اتجه الاتحاد الأوروبي بسبب حاجته الاقتصادية لتفعيل الميزان التجاري والاقتصادي مع الصين، بعد أن أظهرت مؤخرا الدراسات التي يقوم بها خبراء الاقتصاد ان أوروبا بأكملها باتت على نحو 6 آلاف و887 منتجاً صينيا للحفاظ على إنتاجها وصناعاتها.
ثانيا: النموذج التركي، فقد حققت تركيا بسبب اهتمامها بقوة الدولة الاقتصادية رغم المتغيرات العالمية والزلازل التي تعرضت لها، حققت معدلات نمو اقتصادي غير مسبوقة، وأعلن وزير الخزانة والمالية مؤخرا: استطاع بلدنا أن يصبح ثاني أكثر بلد نموًّا على أساس سنوي في الربع الأول من العام بين دول الاتحاد الأوربي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تم الإعلان عن بياناتها.وفي هذا قوة تضاف إلى مكونات القوة التركية الأخرى بما يزيد من ترسيخ وتثبيت وزيادة السيادة.
ختاما فإنه رغم أهمية تعظيم القوة وتعظيم اقتصاد الدولة حتى تمتلك الدولة سيادتها وإرادتها كاملة، فإن نقصان هذين العاملين لا يمكن أن يكونا سببا أساسيا في الهزيمة في حالة الإيمان العميق، لأنه وحده قادر على قلب الموازين، ويتجلى ذلك بصورة واضحة في تاريخ الحروب؛ مهما قاتل فيها الطرف الآخر بضراوة وبربرية ووحشية، إن الإرادة هنا تتمثل في الإيمان العميق الذي يحيل كل تلك الألوان إلى لون واحد وهو الهزيمة الشنيعة؛ وفي سيرة الإسلام جلاء لذلك الفهم السليم من عهد النبوة إلى يومنا هذا. فهل يدرك تماما هذه الاعمال صاحب السيادة ؟