مسار مصر نحو إستغلال خزان الحجر الرملي النوبي
اعداد: السفير بلال المصري – ســفيـر مصر السابق لدي أنجولا وساوتومي والنيجر
عضو الهيئة الأستشارية – المركز الديمقراطي العربي
” بدأت أمس 9 يناير 2002 في القاهرة الإجتماعات الوزارية لوزراء المياه والري والموارد المائية لدول حوض النيل الأزرق (الشرقي) الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا للتوصل إلي إتفاق نهائي عادل يلبي جميع الإحتياجات الإقليمية والمحلية لكل شعوب هذه الدول وبما يخدم غراض التنمية والنهضة التي يطمح إلي تحقيقها رؤساء الدول الثلاث , وأستعرضت الإجتماعات مطالب الدول الثلاث التي لا تختلف إلا لتجتمع في النهاية لتحقيق الطموح المشروع لكل منها في إحداث نهضة عمرانية شاملة تعتمد في الأساس علي عنصر المياه الذي هو بمثابة العنصر الحاكم لكل هذه العمليات التنموية , كما أكدت هذه الإجتماعات الأهمية الكبري لمياه النيل لمصر التي تعتمد عليها إعتماداً كلياً , خاصة بعد أن أعلنت وشرعت في البدء بتنفيذ مشروعاتها الطموحة الخاصة بالتوسع الأفقي مُستهدفة زيادة الرقعة الزراعية بها لتصل مع عام 2017 إلي 12 مليون فدان وذلك من خلال تنفيذها لمشروعات ترعة السلام في غرب وشرق قناة السويس بالدلتا وشبه جزيرة سيناء لزراعة 620 ألف فدان , إلي جانب بدئها منذ 5 سنوات في تنفيذ مشروعها العملاق لتنمية جنوب الوادي توشكي لزراعة نحو مليون ونصف المليون فدان . وبناء علي تقديرات مركز الدراسات الإستراتيجية بوزارة الموارد المائية والري , فإن مصر ستحتاج إلي نحو 79 مليار متر مكعب من المياه لسد كافة الإحتياجات والأغراض المُختلفة , وذلك بزيادة تبلغ نحو 23,5 مليار متر مُكعب عن حصتها الحالية من مياه النيل السنوية والمُقدرة بنحو 55,5 مليار متر مُكعب .” هذا هو ما ذكرته صحيفة الأهرام القاهرية في 10 يناير 2002 , ثم وفي 11 مايو 2002 أشارت نفس الصحيفة إلي ما ذكره د . يوسف والي نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة وإستصلاح الأراضي أمام المؤتمر السنوي الذي تعقده الجمعية المصرية للتغذية بالإشتراك مع وزارة الزراعة المصرية وكان تحت عنوان “الأمن الغذائي في مصر والآفاق المُستقبلية حتي عام 2020” فقد أشار د يوسف والي إلي أن مصر تستهدف إستصلاح وإستزراع 3,4 مليون فدان خلال العشرين عام المُقبلة , إضافة إلي مليوني فدان تم إستصلاحها خلال العشرين عاماً الماضية , وهو ما يعني وبوضوح أن خطة مصر الزراعية والمائية تقوم علي أساس الوصول إلي زيادة الرقعة الزراعية لتصل إلي 12 مليون فدان من خلال مشروعات طموحة , وهذه المشروعات كي تتحقق كاملة لابد من توفير زيادة من مياه النيل بما يُقدر بنحو 23,5 مليار متر مُكعب في مدي عام 2017 .
هذه هي الصورة الذهنية التي كانت مصر تبني علي أساسها إستراتيجيتها المائية والزراعية , لكن ماحدث بعد 9 سنوات من هذه التصريحات الطموحة , هو أن إثيوبيا أعلنت عن شروعها في تنفيذ مشروع سد النهضة العملاق في عام 2011 أثناء ثورة 25 يناير 2011 , ومازال هذا السد يمثل تحدياً للأمن المائي المصري بل لا أبالغ إن قلت وللأمن القومي المصري برمته فهو إختبار للقوة الشاملة للدولة المصرية , ومنذ هذا الإعلان الإثيوبي ومصر في خلاف مُحتدم مع الجانب الإثيوبي الذي يُسانده الجانب السوداني الذي لا يري أي مضار لهذا السد علي الإستراتيجية المائية السودانية بل يري فيه فائدة لإستراتيجية الطاقة السودانية حيث ستستورد السودان الطاقة الكهربائية المُولدة من هذا السد كغيرها من دول شرق أفريقيا لتغطية إحتياجات شرق السودان منها , أما مصر فقد تطوعت بلا أدني مبرر لتوقيع ما سُمي بإتفاق إعلان مبادئ سد النهضة في مارس 2015 كمحاولة منها لحل أزمة سد النهضة الذي سيتسبب وفقاً لمعظم خبراء الري المصريين في خفض الوارد من مياه النيل لمصر كيما تغطي إحتياجاتها المُتزايدة في الزراعة وإستصلاح الأراضي المُشار إليها , وبالفعل تشكلت – بعد ضغوط دبلوماسية – لجنتين وزارية وأخري فنية لدراسة الأثر العملي لهذا السد علي مصر والسودان بإعتبارهما دولتي مصب لنهر النيل وكان آخر إنعقاد للجنة الوزارية غير مُنتج كسابقيه مما إضطر مصر تعليق هذه الإجتماعات حيث أنها لعشر أشهر مضت لم تحقق شيئاً , ذلك أن إستراتيجية التفاوض الإثيوبي مع مصر بشأن هذه الأزمة هو المضي قدماً في إقامة السد وفقاً لتصميمه الذي يتضمن سعة تخزينية لنحو 74 مليار متر مُكعب من مياه النيل علي مدي فترة ملأ قصيرة , وهو ما تعترض عليه مصر التي حاولت الإتفاق علي زيادة فترة الملأ لما لا يقل عن 7 سنوات حتي لا تتأثر حصة مصر من مياه النيل المُقررة بنحو 55,5 مليار متر مكعب / عام وفقاً لإتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل فتنخفض , وهو ما يعني ببساطة أن كل مشروعات التوسع الأفقي المُشار إليها ستُلغي وهو ما سيؤثر بشدة علي درجة تحقيق الأمن الغذائي لمصر , ما يعني في ضوء إرتفاعات الأسعار الحالية بمصر للمنتجات الزراعية والغذائية والتضخم حدوث ندرة شديدة تعمل علي إحداث موجات أخري من إرتفاعات الأسعار بعد الموجات الشديدة الناتجة عن قرار البنك المركزي المصري في 3 نوفمبر 2016 بتعويم الجنية المصري ليقفز من 8.88 جنيه للدولار الواحد إلى 13 جنيهات مقابل الدولار الأمريكي إلي أن وصل حالياً إلي لنحو 18 جنية للدولار , إذن فالوضع الإقتصادي كارثي في مصر قبل إستقبال الأثر السلبي المباشر الذي مصدره سد النهضة الإثيوبي .
ما تقدم هو الخلفية القاتمة التي تبدو بوضوح خلف إنعقاد الإجتماع العادي الثامن عشر للهيئة المشتركة لدراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي بالقاهرة علي مدي يومي 13 و14 ديسمبر 2017 بمشاركة أعضاءها الأربع مصر والسودان وليبيا وتشاد , والذي تم خلاله وضع مخطط شامل يمكن من خلاله الاستغلال الصحيح لمياه الخزان النوبي على المستوى القطري والإقليمي , وقد أنتهي هذا الإجتماع إلي : (1) الاستمرار في التنسيق والتعاون المشترك وتكثيف الجهود إقليميا بما يضمن المتابعة الدقيقة لإمكانيات الحوض المائية الحالية والمستقبلية للاستفادة من نتائجها في دراسة النواحي الاقتصادية والاجتماعية وبما يساهم في مساعدة متخذي القرار في الدول الأعضاء في التخطيط للبرامج التنموية المستقبلية التي تعتبر المياه عاملا أساسيا فيها و(2) الإتفاق بين كل دول الحوض على إجراء الدراسات والبحوث المشتركة بما فيها تبادل البيانات والمعلومات الخاصة بالسحب من الحوض في كل دولة واستخدام نموذج رياضي موحد في اختبار سيناريوهات التنمية بواسطة المياه الجوفية و(3) أن كل التصريحات الإعلامية واللقاءات الصحفية التي تصدر من غير المسؤولين الرسميين بدول الهيئة والتي تتطرق للوضع المائي بمنطقة الحوض الرملي النوبي سواء من الجانب الفني أو الاقتصادي لا تمثل بأي حال من الأحوال رأي الهيئة المشتركة وإنما تعبر عن رأي أصحابها فقط و(4) أن التوافق بين الدول الأربع وما تحقق من إنجازات يعتبر مثالا إقليميا وعالميا يُحتذى به , مما يُشير إلي أن الهيئة مؤسسة رائدة ومثالية في مجال إدارة الأحواض المائية المشتركة .
تحركت مصر في وقت مُبكر نسبياً وقبل أزمة سد النهضة بإتجاه إستغلال موارد المياه الجوفية , الذي وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، يحتوى على 200 مليار متر مكعب من المياه , لتحقيق مُكتمل لأمنها المائي الذي يعتبر بالنسبة لها العمود الفقري في نظرية أمنها القومي , فأستغل الرئيس مبارك أحد زياراته لليبيا بمدينة طبرق بالشرق الليبي ليعلن والرئيس الليبي مُعمر القذافي في سياق البيان الختامي الصادر في 17 أكتوبر 1989(إعلان طبرق) ضمن تقاط أخري بهذا الإعلان عن إنشاء هيئة مُشتركة لدراسة وتنمية مياه خزان الحجر الرملي النوبي , والذي تجري مياهه تحت باطن أراضي أربع دول هي مصر بمساحة تُقدر بنحو 850,000 كم مربع والسودان بنحو 750,000 كم مربع وليبيا بنحو 650,000 كم مربع وتشاد بنحو 10,000 كم مربع , وفي الواقع فإن الجهود الرامية لإنشاء هذه الهيئة سبقت إصدار إعلان طبرق بنحو خمس سنوات , وتعتبر مصر وليبيا من أكثر الدول الأربع إهتماماً بمواردهما المائية الجوفية , فمن جانب مصر نجدها الأنشط ترويجاً لإنشاء الهيئة المُشتركة لخزان الحجر النوبي , أما ليبيا فقد دشن الزعيم الليبي معمّر القذافي ووضع حجر أساس مشروع النهر العظيم في 28 أغسطس 1984 للتغلب علي أزمة المياه الليبية المُزمنة , وأستمر تنفيذ مراحله المُمولة بالكامل من الخزانة العامة الليبية بالرغم من فرض الأمم المتحدة عقوبات دولية بالإضافة للعقوبات الأمريكية علي ليبيا عام 1992, وبإكتمال المراحل حتي عام 2007 أصبحت معظم المدن الليبية مشمولة بخدمة الحصول علي المياه العذبة من خلال شبكة أنابيب بلغ مجموع أطوالها2820 كم لتصبح أكبر شبكة أنابيب وقنوات مُغطاة من نوعها بالعالم , وتنقل هذه الأنابيب حوالي 6,500,000 مليون متر مكعب من مياه 1,300 بئر يومياً إلي المدن الليبية , وقد بلغ إهتمام ليبيا بهذا المورد حداً جعلها تنظم مؤتمراً في الفترة من 2 إلي 4 يونيو 2002 عن إدارة الأحواض المائية في المناطق الجافة وشبه الجافة , أما السودان فهو لم يهمل هذا المورد بل وضعه في إطار إستراتيجية الري به , وأحد أهداف وزارة الزاعة السودانية رصد وجمع وتحليل المياه الجوفية ومياه الأودية والخيران والآبار وتحديد نوعية المياه حسب الغرض منها , ورغم وفرة مصادر المياه النهرية بالسودان والكثافة النسبية للأمطار به , إلا أنه لم يهمل هذا المورد بل أخضعه للإستغلال في ري بعض المشروعات التجريبية بغرب السودان مثل مشروع “ساق النعام” والذي حُدد وفقاً لمعايير لا تخلو من صعوبة , وهناك أيضاً مشروعات إستغلال لهذا المورد لإمداد مدن وبلدات غرب السودان بمياه الشرب ولعل أهمها الأنبوب الناقل للمياه من حوض مدينة بارا الجوفي لمسافة ستين كيلو متر لإمداد مدينة الأبيض والأنبوب الناقل لمياه حوض بقرة الذي يبعد عن مدينة الأبيض بحوالي ثلاثين كيلو , ومع أن هناك ثمة ميل سوداني للمبالغة في رصيده من المياه الجوفية والتي يصفها بأنها “مُتجددة” , إلا أن هناك إحتياج ماس لإستخدام موارد المياه الجوفية لتنمية ولايات دارفور الخمس وهي ولاية شمال دارفور – ولاية جنوب دارفور – ولاية غرب دارفور – ولاية شرق دارفور – ولاية وسط دارفور , أما بالنسبة لتشاد فإعتمادها علي المياه الجوفية غير مُنظم , وهي تولي إهتماماً نسبياً بالمصدر الرئيسي للمياه المُتمثل في نهر Shari والذي ينبع في أفريقيا الوسطي وهو رافد من نهر Ituri المار بعاصمتها ويمر نهر Shari حتي يصل إلي بحيرة تشاد التي تقلصت مصاحتها من 25,000 كم مربع في ستينات القرن الماضي وأصبحت 2,500 كم مربع فقط حالياً , ولهذا السبب تروج نيجيريا وتشاد حالياً لمشروع إنقاذ بحيرة تشاد بوصل نهر بنهر Shari لتغذية هذه البحيرة لإستعادة مساحتها , وهو مشروع غير مسبوق سيُشكل تغييراً للقانون الدولي المُنظم للأنهار بالعالم , وتعتبر تشاد من أكثر الدول الأربع تعرضاً لأزمة الموارد المائية .
نبذة تاريخية عن الهيئة :
كانت مصر وليبيا هما أصحاب المبادرة في الدعوة لإنشاء “الهيئة المُشتركة لدراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي” , والذي يعتبر أعظم خزان أحفوري بالعالم , وذلك بموجب إعلان طبرق الصادر في ختام زيارة قام بها الرئيس الأسبق مبارك لليبيا (طبرق) في 17 أكتوبر 1989 , ثم وفي الإجتماع الأول للجنة العُليا المُشتركة الليبية / المصرية الذي عُقد بطرابلس في الفترة من 6 إلي 8 يوليو عام 1991 إتفقت الدولتان علي إنشاء هيئة مُشتركة لدراسة وتنمية مياه خزان الحجر الرملي النوبي لصالح الدول المشتركة في هذا الخزان وتقرر ما يلي :
الهيئة :
تشكيل هيئة مشتركة لدراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي تسمي(الهيئة المشتركة لدراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي ) يمثل فيها ليبيا , الجنة الشعبية للاستصلاح الزراعي وتعمير الأراضي (سابقاً) (الهيئة العامة للمياه) , ويمثل فيها جمهورية مصر العربية وزارة الأشغال العامة والموارد المائية (مركز البحوث المائية – معهد بحوث المياه الجوفية) , ويجوز أن تنضم دول أخرى لهذا الاتفاق وبذات الشروط الواردة به على أن تكون من بين دول حوض خزان الحجر الرملي النوبي ويكون المقر الرئيسي للهيئة مدينة طرابلس – ليبيا , وينشأ مكتب فرعي لها في مدينة القاهرة بجمهورية مصر العربية ولها أن تنشئ مكاتب أخرى في دول الأعضاء .
أهدافها :
دراسة وتنمية واستثمار الموارد المائية بخزان الحجر الرملي النوبي وحمايتها والمحافظة عليها وترشيد استعمالها وتسخيرها لخدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة في الدول المشتركة في هذا الخزان .
إختصاصاتها :
- تجميع كافة المعلومات والبيانات ونتائج الدراسات التي أجريت من قبل الدول المعنية والعمل على تبويبها وتحليلها والربط فيما بينهم .
- إعداد وتنفيذ كافة الدراسات التكميلية المطلوبة لتحديد المعالم الكاملة لهذا الخزان من الناحيتين الكمية والنوعية .
- وضع برامج ومخططات استغلال المياه واقتراح السياسة المشتركة في مجال تنمية واستغلال الموارد المائية على المستوى المحلي والإقليمي وتنفيذ السياسة المشتركة للموارد المائية ووضع الخطط والبرامج والأطر اللازمة لتنفيذها .
- الإدارة المائية لهذا الخزان على أسس علمية .
- العمل على تحقيق التعاون في مجال التدريب والتأهيل المتعلق بالموارد المائية .
- العمل على ترشيد استهلاك مياه خزان الحجر الرملي النوبي في الدول المشاركة .
- دراسة النواحي البيئية لتنمية الخزانات الجوفية ومقاومة التصحر واستخدامات الطاقة الجديدة والمتجددة .
- عقد الندوات ونشر المعلومات ذات الصلة بهذا الخزان مع توثيق الصلات بالمنظمات والهيئات الإقليمية والدولية ذات العلاقة .
تمويلها :
تتحمل الدول المشاركة في الهيئة ميزانية الهيئة بنسب متساوية لكل منها , وتمنح الاستقلالية والصلاحيات المالية للاضطلاع بمسئوليتها , وتضع مشروع ميزانية سنوية لها تقدم للاعتماد من قبل مجلس الإدارة قبل ثلاث اشهر من بداية السنة المالية , وتبدأ السنة المالية للهيئة مع بداية السنة المالية لدولة المقر , ويتم تحديد المصارف التي تودع فيها الاعتمادات المالية للهيئة طبقاً لبنود الميزانية من قبل مجلس الإدارة , وتضع الهيئة حساباً ختامياً سنوياً .
إمكانية الإستغلال والإدارة المُشتركة لخزان الحجر الرملي النوبي :
لابد أولاً من الإشارة – كما تقدم – إلي أن خزان الحجر الرملي النوبي خزان أحفوري Fossil بمعني أنه وفقاً للدراسات العلمية مورد مائي غير مُتجدد بالنظر إلي المعدل البطئ جدا لملأه , ولهذا فإن هناك ثمة حد للملأ وحد لما يتم تصريفه منه أو سحبه وإستخراجه , إذ وفقاً للدراسات العلمية يرجع تاريخ المياه بهذا الخزان ما بين 100,000 إلي 1,000,000 عام مضت , وطيلة هذه الفترة كان هناك إستغلال وسحب بمعدلات محدودة , أما إذا تم تجاوز الحدود المعقولة بالإسهلاك والسحب المُتزامن من قبل الأطراف الأربع أعضاء الهيئة , فإن الأمر والحالة هذه بحاجة إلي إتفاق للسحب المدروس , وإلا فسوف ينضب هذا المورد الجوفي أو يكاد وبالتالي لن يمكن للمجتمعات الإعتماد عليه بعذ ذلك , ويعزي العلماء الملأ المحدود لهذا الخزان من مياه نهر النيل المُتسربة إليه , وهذا الخزان مُكون من جزئين أولهما خزان الحجر الرملي النوبي NSA وثانيهما ما بعد مرحلة خزان الحجر الرملي النوبي Post-Nubian Sandstone Aquifer , ويصل أقصي عمق لنظام خزان الحجر النوبي إلي حوالي 4,500 متر , و تحدد الأبحاث العلمية حجم المياه بالخزان في اي مكان منه بأنه يتراوح ما بين 15,000 كم مكعب إلي 135 كم مكعب وربما يصل الحجم لدي باحثين آخرين إلي 457,550 كم مكعب , أم الحجم الذي يُمكن الوصول إليه The accessible volume فيتراوح ما بين 0,15 كم مُكعب و8,8 كم مُكعب , ووفقاً لهذه البيانات أوغيرها الناتجة عن دراسات علمية جيولوجية دولية أو تلك التي ستجريها دول الهيئة الأربع , سيتم وضع معايير مُتفق عليها لتوزيع مورد مياه خزان الحجر الرملي النوبي , ومن بين المعايير الرئيسية (1) النسبة المؤية من أراضي هذا الخزان بكل بلد عضو بهذه الهيئة , فبالنسبة لمصر تبلغ نسبة هذه الأراضي 38% من المساحة الكلية للخزان , تأتي بعدها السودان بنسبة 34% فليبيا بنسبة 17% ثم تشاد بنسبة 11% , مع ملاحظة أن 41,5% من مياه الخزان تقع في باطن الجزء الذي يشغله الخزان بالأراضي المصرية , تأتي بعدها ليبيا إذ يقع في الجزء من الخزان بأراضيها نحو 36,6% من مياهه , ثم السودان وبالجزء من الخزان الذي بأراضيها يختزن 17% من مياهه , وأخيراً وبالنسبة لتشاد يُختزن 12,8% من مياه هذا الخزان , (2) معيار عدد السكان وبموجبه تأتي مصر كأعلي إجمالي لعدد السكان يليها السودان فتشاد فليبيا , وهو معامل أو معيار غير مُتسق مع معيار نسبة الأراضي ومقدار ما يختزنه الجزء من الأراضي الواقع بكل دولة عضة بهيئة خزان الحجر النوبي , (3) معيار نسبة الإعتمادية المائية , ووفقاً لهذا المعيار نجد أن ليبيا أكثر الدول الأعضاء بالهيئة المُشتركة إعتمادية علي موارد المياه من الأحواض الجوفية (هناك حوض الصحراء الغربية مساحته مليون كيلومتر مربع 70 ٪ منها بالجزائر و15 ٪ في تونس وبقية المساحة بليبيا) إذ تعتمد بنسبة 98,72% علي مورد مياه الخزان النوبي , فيما 98% من سكانها يعيشون بمناطق الساحل علي البحر المتوسط التي تبعد بحوالي 2485 كم عن منطقة الخزان النوبي الليبية , ويبلغ السحب الليبي من مورد مياه خزان الحجر الرملي النوبي من خلال شبكة أنابيب النهر الصناعي الليبي العظيم حوالي 6,5مليار متر مكعب/ عام وتعتبر كافية تقريباً لإحتياجات الليبيين لكنها ستنخفض لتمثل 50% من هذه الإحتياجات عام 2025, ومع ذلك فهناك بعض الإنتقادات لكفاءة وكفاية النهر العظيم في سد إحتياجات الزراعة الليبية وفي نسبة الرشح من الأنابيب بالمناطق الصحراوية شديدة الحرارة , لكن المشروع – في تقديري – كان ضرورياً حتي بعيوبه النسبية , وتأتي تشاد تالية لليبيا في درجة إعتماديتها علي المياه الجوفية عموماً من أحواض مياه جوفية أخري منها خزان الحجر النوبي , ففي المناطق الشمالية الصحراوية بتشاد وهي قليلة الكثافة السكانية , ويعتمد سكانها بنسبة 100% علي المياه الجوفية , فيما الجزء الجنوبي منها فتهطل عليه أمطار بصفة منتظمة وثابتة .
فيما يتعلق بمصر فإن مياه نهر النيل تشكل96% من مجمل إحتياجاتها المائية , فيما تُستكمل النسبة المُتبقية أي 4% للوفاء بكل الإحتياج المائي لمصر المياه الجوفية من مصادر المياه الجوفية والتي يساهم فيها خزان الحجر الرملي النوبي بحوالي 2,1% , وتأتي السودان كآقل دولة عضو بالهيئة إعتمادية علي خزان الحجر الرملي النوبي لسببين أولهما أن مياه النيل تمثل عنصر وفرة في سياسات الري السودانية , ثانيهما أن للزراعة السودانية نظامين أولهما نظام الري النيلي وثانيهما الري المطري لن وهذه مفارقة أن توزيع السكان بالسودان لا يؤكد تأثر مناطق غرب السودان بإفتقاد مياه النيل , فطبقاً للتعداد القومي للسكان لعام 1996 كان عدد سكان ولاية جنوب دارفور 2,346,7746 مليون نسمة وولاية شمال دارفور 1,260,181 مليون نسمة مُقارب لعدد السكان بولايات أخري كالخرطوم مثلاً التي أشار هذا التعداد إلي أن عدد سكانها 3,829,088 مليون نسمة , وولاية الجزيرة حيث تتوطن الزراعة السودانية والتي يبلغ عدد سكانها 2,960,668 مليون نسمة وهي أعداد مُقاربة لأعداد السكان في دارفور (قبل التقسيمات الإدارية اللاحقة وتعديلاتها بالنسبة لولايات السودان) وبولاياتها الخمس حالياً أخذاً في الإعتبار نسب الإنحراف الإحصائي , وجنوب دارفور وشمالها يمثلان حالياً ما تشغله ولايات دارفور الخمس وهي شديدة الإعتمادية علي المياه الجوفية التي تتعدد مصادرها طبقاً للدراسات السودانية وأحدها خزان الحجر النوبي وفقاً لبحث سوداني – أعتقد أن به بعض المُبالغة – أشار إلي أن مساحة خزان الحجر الرملي النوبي بالسودان تبلغ 935,000 كم مربع والمخزون المائي به يبلغ 155 مليار في 435,000 كم مربع ويحتوي علي 75 مليار متر مكعب ثم الترسبات الطميية ومساحتها 5,000 كم مربع وتحوي 8 مليار متر مكعب وأخيراً الصخور البركانية ومساحتها 1,125,000 كم مربع وبها 120 مليار متر مكعب , ولم تكن المياه الجوفية بالسودان تحت سيطرة وعناية جهاز حكومي إلي أن تم إستحداثه بوزارة الري السودانية في تسعينات القرن الماضي .
حتي الآن لا يمكن القطع بأن الدول الأعضاء بالهيئة شرعوا في الإستغلال المُشترك لهذا المورد المائي الجوفي , فبالرغم من أن هيئة خزان الحجر الرملي النوبي عقدت ثمانية عشر إجتماعاً سنوياً منذ إنشاءها منتصف عام 1991, إلا أنه وحتي الآن لم يتوصل أعضاءها إلي إتفاق تعاوني فيما بينهم لإستغلال وإدارة الخزان رغم أن جهود وضع معاهدة رباعية بدأت منذ مارس 2000 , لكن هذه الدول إستطاعت وبقوة الدفع المصري إستطاعت الوصول إلي مسودة معاهدة طُرحت عام 2013 للتوقيع بالأحرف الأولي من قبل الدول أعضاء الهيئة وذلك في إجتماع ضم مسئولي الدول الأربع , وقد ساهم في وضع هذه المعاهدة مؤسسات دولية منها الوكالة الدولية للطاقة الذرية وصندوق الأمم المتحدة للبيئة العالمية UNDP-GEF لكن ولأسباب غير مُعلنة جري الإتفاق رباعياً علي تأجيل التوقيع , وفي عام 2015إجتمعت الأطراف فيما عدا ليبيا لتعديل وتجديد مسودة هذه المعاهدة , لكن بسبب تغيب ليبيا لم يتم شيئ , وفي تقديري أن هناك تبايناً واضحاً في مواقف دول خزان الحجر الرملي النوبي , هذا التباين الذي تكمن فيه أسباب فنية علمية وإقتصادية وسياسية وديموجرافية قد يؤدي إلي تسويف متكرر للتوقيع علي معاهدة تتعلق بإستخدام مورد مياه هذا الخزان الأعظم علي مستوي العالم , وهو وضع يكاد وأن يكون مُشابهاً لإتفاق الإطار التعاوني لدول حوض النيل الذي تعترض عليه مصر حتي اليوم ومعها كل الحق من وجهة نظر القانون الدولي في موقفها هذا , إذ لم توقع مصر للآن علي هذا الإتفاق الذي وقعته حتي الآن 6 دول نيلية , ورغم هذا الإتفاق الإطاري الذي وضعته إثيوبيا بالإتفاق والتنسيق المُسبق مع أوغندا التي تدير سياسات متنوعة بأكثر من وجهين مع محيطها ومنه إقليم حوض النيل , فإن هناك إختلافات ثابتة بين دول حوض النيل قد تؤدي مُستقبلا إلي صدوع في العلاقات البينية بين هذه الدول فمياه نهر النيل عابرة لحدود 10 دول مختلفة في درجة وفرة الموارد المائية بها وفي موقعها بالنسبة لمجري النيل , إذ أن هناك دولتي منابع هما إثيوبيا وأوغندا ودولتي مصب هما مصر والسودان وست دول أخري يجري فيها النهر وفروعه , وبسبب هذا الإختلاف الموقعي لم يتم التوصل مع مصر لإتفاق يجمعها مع الموقعين الآخرين علي إتفاق الإطار التعاوني لمياه النيل أو إتفاق عنتيبي المُوقع في بأوغندا عام2010 , ويبدو أنها نفس الصعوبة التي ستواجه الإتفاق المُرتجي لدول خزان الحجر الرملي النوبي الأربع فالخلافات كامنة وستظهر يوماً ما حتماً .
إلي أن تتوفر الظروف لتوقيع معاهدة رباعية موضوعها النهائي إستغلال خزان الحجر الرملي النوبي , فهناك – كما أشرت – بعض الخشية من تكرار نموذج الإتفاق الإطاري للتعاون بين دول حوض النيل أو إتفاق عنتيبي الذي وقعته حتي الآن 6 من دول حوض النيل العشر ولم توقعه مصر والسودان لتحفظهما علي بعض النقاط التي تتعلق بإنكار مبدأ الحق التاريخي في مياه النيل والذي بموجبه تحددت حصتي مصر والسودان بإعتبارهما دولتي مصب لمياه النيل والمرتبطتان بإتفاق الإنتفاع الكامل من مياه التيل بين مصر والسودان المُوقعة في 8 نوفمبر 1959 ولا تعترف بها دول حوض النيل بما فيها دولة جنوب السودان لعام 1959 , إذ أنه قد يحدث أن تعترض كل من السودان وليبيا علي مبدأ التخصيص , ففي ضوء وجود واقع سابق علي التوقيع الرباعي المُحتمل لمعاهدة خزان الحجر الرملي النوبي , هناك صعوبة مُتوقعة في الوصول مع الجانب الليبي إلي حل وسط , وهذا الواقع هو إنتهاء المراحل الخمس للنهر الليبي الإصطناعي العظيم والذي كما أشرت يسحب عبر أنابيبه كميات ملموسة من مخزون هذا الخزان , لذا فمن المتوقع إلا تتسق النظرة الليبية مع المصرية ولا السودانية علي نحو خاص في إستغلال مُحدد ومُقنن من مورد هذا الخزان إذ أنه رغم أن مصروالسودان بلغتا بالفعل حد الفقر المائي بالفعل فنصيب الفرد بالسودان من المياه 787,5 متر مكعب/ عام وفقاً للأمم المتحدة , فيما مصر وفقاً لنشرة رسمية صادرة عن وزارة الأشغال العامة والموارد المائية في أغسطس من عام 1999 يبلغ نصيب الفرد فيها 936 متر مكعب / عام , بينما نصيب الفرد الليبي من المياه أدني من ذلك بكثير إذ يبلغ 120 متر / عام وفقاً للتقرير العالمي لتنمية المياه لعام 2015 , وهو رقم مُشابه لنصيب الفرد التشادي أيضاً , علماً بأن حد الفقر العالمي يقدّر بألف متر مكعب في السنة لكل فرد , وبالتالي فإن اللجنة الإدارية التي ستنص عليها المعاهدة الرباعية المرجوة لن تتمكن والحالة هذه من إدارة رشيدة وعادلة لمورد الخزان مالم يكن المسحوب من مياه هذا الخزان بواسطة النهر الليبي العظيم وهو 6,5مليار متر مكعب/ عام موضوعاً للتفاوض بشأنه لإقراره – قبل وتوقيع هذه المعاهدة – كحصة ثابتة ومُقررة لليبيا أو تغييرهذه الكمية خفضاً أو زيادة من قبل الدول الثلاث الأخري , وهو أمر مُستبعد في تقديري , يُضاف إلي ذلك أن النهر الليبي الإصطناعي يتعرض للآن لبعض الإنتقادات من أهمها خطورته البيئية فمخزون مياه خزان الحجر الرملي النوبي لابد أن يحتفظ بمستوي يحقق للبيئة إتزانها الطبيعي , وهذا لا يتحقق في ضوء معدلات السحب غير المُعتادة بواسطة أنابيب النهر الإصطناعي مما سيُعرض المياه الصالحة للحياة بالجنوب للنضوب في زمن قياسي مما سيقتل كل الكائنات الحية ويتسبب في تهجير كامل للبشر إلى الشمال مع انهاء المخزون المائي كليةً , كذلك فالنهر العظيم تم تنفيذه بواسطة نظام إستبدادي لم يُوصف أبداً خلال 40 عام من بقاءه بأي درجة من الشفافية المالية , وبالتالي نُفذ المشروع بإعتباه قناة ناقلة للمياه من الخزان النوبي وبنفس القدر ناقلة للفساد المالي فالمشروع كان معروفاً أن تكلفته 25 مليار دولار رسمياً فيما البعض قدرها بنحو 35 مليار دولار إستفاد بها فاسدون ليبيون وفاسدون أجانب أهمهم اتحاد الشركات الكوري الجنوبية سيئ السمعة وشركة برازيلية كانت أشهرت افلاسها ثم أختيرت من جانب السلطة الليبية المعنية بالمشروع وجنت أرباحاً خيالية ثم أعادت اشهار افلاسها ثانية في موقف غير مفهوم , كما أن هذا المشروع نحي جانباً مشروعات إعذاب المياه من البحر المتوسط وكان يمكن بنصف هذا التمويل إقامة محطات الإعذاب في مناطق الإحتياج الرئيسية وتقليل سحب مياه الخزان بما لا يخل بالتوازن البيئي له , لكن المشروع كان عملاً سياسياً بحتاً بإعتباره مشروعاً قوميا ككل مشروعات النظم الإستبدادية التي تراود القادة المستبدين محدودي التعليم والضمير وهم نائمين ثم يعلنوا عن هذه الأحلام بمجرد أن يستيقظوا علي موسيقي يعزفها الضالون في مجتمعاتنا بمستوطنات أو بؤرالإعلام الآسنة وبطانة سوء هذا الزعيم أو ذاك , كذلك كان الجانب الفني في هذا المشروع عرضة لإنتقاد , فشبكات المياه رئيسية بمعنى أنه كان من المُفترض أن يتم توصيل المياه لخزانات رئيسية ببنغازي وسرت وطرابلس ومنها توصل بخزانات بالبيوت والمزارع بغرض الزراعة ، لكن ما حدث أنها وصلت للخزانات دون انشاء أنابيب أرضية لنقلها للمزارع فباتت المزارع الكبرى تنقل المياه عبر براميل مياة محمولة على السيارات بينما أغلب المزارع لا تصل اليها قطرة مياه واحدة , فالمشروع لم تتم دراسته جيداً مما أدى لعدم استفادة المزارع بالمرة من المياه لعدم وجود أنابيب لنقل الماء من الخزانات اليها , ونظراً لغياب المتابعة والصيانة المنتظمة فقد بدأ تكرار حالات تسرب ورشح للمياه بسبب تآكل الأنابيب الموصلة للمياه في كل الفروع والأكثر تضرراً كان الفرع الشرقي من واحات الكفرة مما يدل على سوء اختيار الأنابيب ونوعيتها وكفاءتها , وكان الأسوأ اكتشاف أن الأنابيب المستوردة مطلاة من الداخل بمواد سامة (الاسبستوس والنترات) , كما أصيبت كل مضخات المياه المستوردة من الدنمارك بالصدأ مما هدد تدفق المياه من الجنوب بالتوقف وذلك بسبب القاء الكلور النقي بكميات هائلة في المياه بإعتقاد خاطئ أن كبر الكمية يؤدي إلي تحقيق معدل نقاء أعلي مما أدى لتآكل الآلات .
كما أنه وبالنسبة للحالة الليبية فإنه طالما أن الأمر مُتعلق بالإستخدام المُرتقب لخزان الحجر الرملي النوبي فهناك ضرورة لإلقاء نظرة عامة مُوجزة علي أولويات الإستراتيجية المائية الليبية حتي مارس 2011 أي حتي بداية إنهيار نظام القذافي , ومما يمكن قوله في هذا أنه وبالرغم من أن إعلان طبرق الصادر عقب زيارة الرئيس الأسبق مبارك لليبيا في 17 أكتوبر 1989أشار في البند الخامس منه إلي : ” إنشاء شركة حفر لآبار المياه وإقامة السدود , ودراسة ربط منظومات الري الموجودة في البلدين والإنتاج المُشترك لإحتياج البلدين من البذور المُحسنة وشتلات الفاكهة ومُكونات الأعلاف , وإنشاء هيئة مُشتركة لدراسة وتنمية مياه الخزان الجوفي الرملي النوبي وإقامة مُستوطنة أو مُستوطنات زراعية ” , إلا أن البيان لُوحظ أنه لم يُحدد مدي المُشاركة وهل هي وقف علي مصر وليبيا أم أنها ستضم مصر وليبيا والسودان وتشاد , إذ أن ما حدث فعلاً بعد ذلك أن وفداً مصرياً برئاسة نائب رئيس مركز بحوث الصحراء توجه لليبيا في مهمة خلال الفترة من 26 أغسطس وحتي الأول من سبتمبر 1991 لعرض مشروع مُتطلبات الدراسة الخاصة بإدارة الهيئة المُشتركة لدراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي علي الجانب الليبي ثم لاحقاً علي الجانبين السوداني والتشادي , لكن بالرغم من المراسلات السابقة مع الجانب الليبي بشأن هذه المهمة لم يتمكن الوفد المصري من الإجتماع مع الجانب الليبي إلا يوم 2 سبتمبر 1991 أي بعد إنتهاء الفترة المسموح بها رسميا بهذه المهمة وتذرع الليبيون بأنهم لم يُخطروا بوصول الوفد وبالتالي فلم يُشكلوا وفدهم الرسمي بعد , ووضح الموقف الليبي أكثر عندما قال عضو بالجانب الليبي لرئيس الوفد المصري بأنهم كانوا يعتبرون إنشاء هذه الهيئة مجرد إقتراح قُدم لمجموعة العمل أثناء إجتماعات ثنائية جرت بطرابلس في 30 يونيو 1991 ورد عليه رئيس الجانب المصري تفصيلاً مما دفع الجانب الليبي إلي تعديل سلوكه وموقفه وأعترف الجانب الليبي في إجتماع تال بأن قرار إنشاء الهيئة مُعتمد من اللجنة الشعبية العامة (مجلس الوزراء الليبي) , لكنه أشار إلي أن هذه القرار قد أُرسل لأمانة الزراعة الليبية التي رأت أن القرار يخص مصر وليبيا , لكن وبتدخل من مدير مكتب التعاون الفني الليبي قبلت توصيته بعقد إجتماع مُشترك بين ممثلي مصر وليبيا والسودان لإقرار تشكيل هذه الهيئة ووضع نظامها الأساسي , وخلال إجتماع نائب رئيس مركز بحوث الصحراء ممثل الجانب المصري في 4 سبتمبر 1991أفاده رئيس الجانب الليبي أنهم لا ينصحون بضم تشاد للهيئة منذ بداية تشكيلها , ويمكن ضمها بعد تشكيلها لأنه وحسب خبراتهم السابقة مع التشاديين فإنهم يتوقعون فسوف تطالب بمزايا متساوية مع الدول الثلاث الأعضاء الآخرين بالهيئة وذلك رغم محدودية مساحة هذا الخزان بالأراضي التشادية . كما تم بحث تمويل البنك الأفريقي ودول أوروبية مانحة هي إيطاليا وفرنسا وسويسرا لمشروع دراسات شاملة للموارد المائية علي مستوي القارة الأفريقية بما فيها خزان الحجر النوبي .
إذا ما وضعنا بداية الإتصالات المصرية مع ليبيا بشأن إقامة خزان الحجر النوبي داخل إطار أعم يتعلق بالسياسة المائية الليبية في عهد القذافي فسوف تتضح إلي حد ما توقعات مستقبل إتفاق رباعي لإستخدام خزان الحجر الرملي النوبي , فمنذ مُستهل تسعينات القرن الماضي وضع القذافي الخطوط العامة لهذه السياسة والتي من ملامحها بداية تنفيذ النهر الليبي الإصطناعي العظيم الذي يسحب ماءه من خزان الحجر النوبي دون تنسيق مع دول الخزان الثلاث الأخري , ثم مطالبته في خطاب جماهيري ألقاه القذافي في 16 سبتمبر 1992 بربط النيل بالنهر الليبي العظيم عن طريق ترعة النوبارية بمصر أو ببحيرة ناصر بجنوب مصر ثم دعوته التي وجهها في خطابات جماهيرية مُتكررة والتي كان آخرها خطابه في عيد الوفاء في الأول من أكتوبر 2001 لليبيين للتحرك بإتجاه وادي النيل بمصر والسودان للتوطن فيهما حيثما توجد وفرة من المياه , وفي 29 سبتمبر 1992 ووفقاً لما أوردته وكالة الأنباء السودانية الرسمية وجه القذافي رسالة لنظيره السوداني تناولت مساهمة السودان بما لديه من موارد مائية ضخمة لحل مشكلة المياه التي تعاني منها أجزاء مختلفة من منطقة جنوب الصحراء الكبري وذلك بالسماح لبعض الليبيين بالإقامة الدائمة في مصر أو السودان أو تشاد , مع أن السودان كان بالفعل قد أتاح بموجب ميثاق التكامل السوداني / الليبي الإٍستثمار الزراعي الليبي في مشروع القولد الزراعي بشمال السودان , وعزز القذافي تطلعه إلي مياه النيل بإجراءه – وفقاً لوكالة الأنباء الليبية في 31 يناير 1999- إتصالات مع الأطراف التي تقع تحت سيطرتها منطقة قناة جونجلي , وذلك من أجل إستئناف العمل بها بعد تدمير التمرد الجنوبي المسلح للحفار العملاق الذي كان يشقها وذلك قبل إتمامها بنحو 70كم , وفي 11 فبراير 2002 نشرت صحيفة الأهرام القاهرية أنه ” من المُتوقع وصول وفد ليبي لتركيا يضم خبراء مُتخصصين للعاصمة التركية خلال الأسابيع المُقبلة لبحث نقل مياه نهر منفجات إلي ليبيا , وأن مصادر إعلامية ليبية ذكرت أن ليبيا أبدت رغبتها في إستيراد المياه التركية وذلك خلال مباحثات وزير الخارجية الليبي عبد الرحيم شلجم في تركيا قبل يومين , وأن تركيا عرضت بدورها إمكانية نقل المياه علي أن يتم البحث في التفاصيل الفنية لاحقاً ” , ومن نافلة القول الإشارة إلي أن السياسة المائية الليبية كانت تتسم بكثيرمن الشراهة والخطورة إذ أنها غير عابئة بالقواعد الدولية المُنظمة لإستغلال الأنهار وعدم إخراجها عن مسارها الطبيعي وكذلك فهذه السياسة التي توجهت لإستيراد المياه تعني تأسيساً مُرتقباً لسوق دولية للمياه .
من المناسب في هذا المُقام التأكيد علي أن سبق ليبيا في إستخدام خزان الحجر النوبي قبل وضع معاهدة رباعية بين دول الخزان سيزيد من إحتمالات صعوبة وضع هذه المعاهدة موضع التوقيع و/ أو التنفيذ , ولا يعني ذلك أن النهر الإصطناعي العظيم سيظل علي نفس الكفاءة في السحب من هذا الخزان , فمشروع النهر العظيم (الذي كان العهد الملكي الليبي إبان حكومة البكوش 1967- 1968 شرع في الخطوات العلمية توطئة لتنفيذه , فقد إتفقت هذه الحكومة مع الولايات المتحدة علي تقديم المشورة واستخدام التكنولوجيا الحديثة لتحديد الأحواض الجافة ومجاري الوديان السطحية ووضع خريطة تفصيلية للموارد المائية بليبا , وتوقف ذلك المشروع بسبب إنقلاب أول سبتمبر 1969) , وبعد مدة وفي أكتوبر 1983 إتخذ المؤتمر الليبي العام قراراً بإنشاء جهاز النهر العظيم ثم فُتحت الخزانة العامة للمشروع وفُرضت ضريبة خاصة علي رواتب الموظفين وعلي تذاكر السفر والمواد الأساسية والوقود , ومنذ 1984 وحتي أواخر تسعينات القرن الماضي لم يخل إحتفال سنوي من الخطب التي تُمجد القذافي , في الوقت الذي بدأت فيه صحافة النظام تنشر علي إستحياء أخباراً مُقتضبة عن مشاكل ظهرت في أجزاء من هذا النهر وتسريبات عن تآكل في أجزاء من الأنابيب الخرسانية وتفاعل كيماوي بين المياه الجوفية والأنابيب المعدنية في الآبار وتكررت هذه الأنباء , وأخيراً إنتقلت هذه المشاكل بين جهاز النهر العظيم والشركات المُنفذة للمشروع للمحاكم خارج ليبيا , ثم ظهرت بعد ذلك مشاكل الحماية والصيانة لأنابيب هذا النهر ومحطات الرفع وعلاج تسرب المياه وتآكل الأنابيب , ثم صدرت شهادة تنذر بأن النهر الإصطناعي العظيم يعاني من أمراض مُستعصية توشك أن تقضي عليه , وهذه الشهادة هي التوصية الصادرة عن المؤتمر الشعبي الليبي العام عام 2002 بضرورة الإتجاه لإنشاء محطات إعذاب لمياه البحر لحل مشكلة مياه الشرب بالمدن الساحلية , إن مشكلة هذا النهر لم تقتصر علي أسلوب تنفيذه وما شابه من فساد وإرتجال وإنعدام الخبرة والضمير , فبالإضافة لذلك لم تكن هناك دراسة جدوي حقيقية في بداية المشروع تحدد التناسب بين التمويل الضخم له والعائد الإقتصادي المُتوقع منه , خاصة وأن المياه المتوافرة في ذلك الخزان النوبي غير قابلة للتجديد , كما أن طول مسافة إختراق الأنابيب الحاملة لهذه المياه عرضها للتبخر وعوامل التعرية , وربما كان الأفضل أن تقوم نهضة زراعية بالقرب من ذلك الخزان الجوفي توفيراً للوقت والجهد والمال وإقامة محطات إعذاب لمياه البحر بالمدن الساحلية , وهو ما لجأ إليه نظام الديكتاتور القذافي في النهاية بعدما أضاع أكثر من 30 مليار دولار سدي وإهدر كميات من مياه الخزان أيضاً . * (مصطفي أحمد بن حليم . رئيس وزراء ليبيا الأسبق . ” ليبيا إنبعاث أمة … وسقوط دولة” . منشورات الجمل – كولونيا -ألمانيا 2003 . صفحة 439 و 441) .
كان الأحري بليبيا أن توفر الأموال الطائلة التي أعانت علي تكوين بؤر فساد عميقة في داخل نظام القذافي لو أنه تم إستثمارها في المشاريع الزراعية التي كانت مُتوقعة في خطط التنمية والتي كانت تنقسم إلي قسمين بارزين , في الشمال بمحاذاة الأراضي الجبلية , الجبل الأخضر شرقاً وجبل نفوسة غرباً وسهل جفارة , والتي كان الهدف منها توسيع المساحة المزروعة وتحسين الظروف المعيشية في المناطق الريفية , وكان سيُصرف عليها أكثر من ثلثي الأموال المُستثمرة بموجب خطة زراعية عشرية في تطوير التربة ومصادر المياه لأجل توسيع المنطقة المزروعة التي تُشكل هذا النوع الثاني من التنمية الزراعية وتخصص لها مبالغ هائلة من أجل تطوير الزراعة في صحراء فزان ومناطق الكفرة وسرير في محاولة لتعويض عدم التوازن الإقليمي الناتج عن تركيز النشاطات الإقتصادية علي طول الساحل الليبي علي المتوسط * (النشرة السنوية للشرق الأوسط . عام 1977 . دائرة الأبحاث في مجلة The Economist . صفحة 174)
أما في الوقت الحالي فيُشار إلي أن هناك واقع سياسي إستجد يتمثل في الأزمة الليبية الحالية التي بدأت عقب الثورة الليبية التي بدأت ضدالقذافي ذلك الديكتاتور المُستبد في 15 فبراير 2011 وأنتهت بمصرعه في 20 أكتوبر 2011 , هذا الواقع أدي مع التدخلات الغربية والإقليمية إلي تصدع أوسع مدي بالجبهة الداخلية الليبية وبداية ما يُوصف بالحرب الأهلية الليبية والتي يمكن إختزال مشهدها حالياً في صراع رئيسي بين جبهة خليفة حفتر في شرق ليبيا وحكومة السراج المُعترف بها دولياً لكنها مُتناقصة القوة بسبب جبهة حفتر والصراعات الثانوية الأخري وإستمرار التدخلات الغربية المختلفة في الشأن الداخلي الليبي وضعف مصر سياسياً وإقتصادياً لأسباب مشابهة وإن لم تكن مُتطابقة , ومن ثم فإتفاق الجانب الليبي مع الدول الثلاث الأخري بهية خزان الحجر النوبي وارد ولكنه ليس يقينيا فهو أمر مازال في هذه البيئة السياسية والإقتصادية المُضطربة حالياً خلافياً , وعموماً فالحركة الليبية من خلال حكومة طرابلس لن تكون حرة بدرجة كافية إذ أن ملف المياه تراجع وأصبحت الأولوية لقضايا أخري تتعلق بتواجد وإستمرار كيان الدولة الليبية ذاتها وقدرتها العسكرية كما لا يجب إغفال حقيقة أن الشرق الليبي الواقع معظمه في يد اللواء المُنشق حفتر به جزء يجري تحته خزان الحجر النوبي , ومن ثم فإتجاه مصر لتحقيق إجماع أو درجة من الإجماع في ملف تنمية وإستخدام خزان الحجر النوبي يتزامن مع أسوأ توقيت يمكن أن يواجه دبلوماسية المياه المصرية فإلي الجنوب منها تحالف سوداني / إثيوبي مُضاد لمصالح مصر طويلة الأمد في المياه من أبرز صوره وأسوأها إستمرار إثيوبيا بتأييد سوداني في إقامة سد النهضة وفقاً للتصميم الهندسي الإثيوبي والذي تحقق منه أعمال بلغت نسبتها الرسمية 62% , وإلي الشرق منها إنشقاق ليبي بين طرابلس وطبرق حيث المُنشق حفتر لن يحقق – طالما إستمر الصراع بينهما – مصلحة مصر في مياه خزان الحجر الرملي النوبي مالم تقم مصر بتصرف أحادي لإستغلال هذا المورد المائي , وهو الأمر المُحتمل .
بالنسبة للسودان فهو وبحكم توفره كحالة مصر علي خبراء دوليين في مجالي مياه النيل والمياه الأحفورية , فإنه شديد الإهتمام لإضافة مورد مياه خزان الحجر النوبي إلي مصادر / بدائل الثروة المائية لديه كما أن السودان (750 ألف كم مربع خزان ) يأتي بعد مصر (850 ألف كم مربع خزان ) في حيازته لمساحة كبيرة تجري فيها مياه هذا الخزان الضخم الثري ومن ثم فهو مُهتم بتغذية مناطق غرب السودان , وقد كانت مصر التي ترتبط وبقوة مع السودان بإتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل الُموقعة في 8 نوفمبر 1959 وهي الإتفاقية الثنائية الوحيدة بين دولتين من دول حوض النيل العشرة (لا تعترف بها دول الحوض الأخري) حريصة علي التنسيق والتعاون مع السودان وليبيا في أمر ميلاد الهيئة المُشتركة لدراسة وتنمية الخزان النوبي , وفي هذا الإطار تم إجتماع مبكر بين ممثلي الدول الثلاث بمقر الأمم المتحدة بطرابلس في الفترة من 29 مارس حتي 30 يونيو 1991 بحضور ممثلي برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP والصندوق الدولي للتنمية الزراعية IFAD وعُرض في هذا الإجتماع إنشاء هيئة دراسة وتنمية خزان الحجر النوبي يكون مقرها طرابلس وكذا إقامة مستوطنات زراعية والترويج للحصول علي تمويل محلي ومن الدول المانحة , ولما كانت العلاقات الثنائية بين مصر والسودان فيها ما يكفيها من الخطوط المتقاطعة والمنعطفات الخطيرة الناتجة عن الخلاف المنهجي بين النظامين المصري والسوداني الذي نشأ بعد شهور من ثورة الإنقاذ الوطني التي أطاحت بسلطة مُنتخبة في 30 يونيو 1989 , وهو الخلاف الذي عصف حتي اليوم بكل ثوابت العلاقات المصرية الثنائية ونقل العلاقة من علاقة تكامل أبان عهد الرئيس السادات 1970 – 1981 لتصبح علاقة صراع مازال مُستعراً حتي اليوم أتي علي تصفية الوجود التعليمي المصري بالسودان وبعض فروع الشركات المصرية وإنتقل إلي الأمم المتحدة حيث جدد السودان – كما هو الحال سنوياً – شكواه التي قدمها لمجلس الأمن الدولي في فبراير 1958 ضد مصر بسبب النزاع الثنائي علي حلايب , وظل تجديد هذه الشكوي السنوي مُستمراً , وتزامن مع دخول القوات المُسلحة المصرية لمثلث حلايب الذي تدعي السودان أيلولته إليها وذلك في مارس 1992 , وبناء علي هذا النزاع توقفت عام 1992 ولخمس أعوام قادمة أعمال اللجنة المُشتركة الفنية لمياه النيل المُنبثقة من إتفاقية 1959 , وألحق دماراً أتي علي شبكة العلاقات الخارجية المُشتركة للبلدين , فقد مضي الزمن الذي كانت فيه الدول تتكلم مع مصر والسودان بإعتبارهما دولتان المُشترك بينهما عريض , فقد أصبح حلفاء السودان حالياً هم أعداء مصر والعكس ليس صحيحاً بالضرورة , ومما لا شك فيه أننا عندما نشير لموقف السودان المساند لإثيوبيا في قضية سد النهضة وهو الموقف الذي يتضمن إنكار إثيوبيا ومعها السودان لمبدأ الحق التاريخي لمصر في مياه النيل رغم أن إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل بين مصر والسودان تؤكد علي هذا المبدأ , إلا أن السودان الذي لا يعترف بإتفاقية مايو 1929 بين مصر وبريطانيا هو نفسه السودان الذي علت فيه أصوات تنتقد إتفاقية 1959, إذ نشرت صحيفة Khaleej Times في عددها بتاريخ 24 أكتوبر 2004 أن عدداً من النواب بالبرلمان السوداني في 23 أكتوبر 2004 تقدموا بطلب لمراجعة إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل الموقعة مع مصر في نوفمبر 1959 , ونقلت عن السيد / إبراهيم نايل إيدام وهو أحد أعضاء البرلمان الموقعين علي هذا الطلب قوله “إن هذه الإتفاقية غير عادلة ولذلك أتساءل لماذا ننتظر الغد لمراجعتها ” فيما أشار عضو آخر إلي أن مهددات التصحر وحاجة السودان لمشروعات زراعية تدعو السودان لطلب مراجعة هذه الإتفاقية , كما أشارت الصحيفة إلي رد وزير الري السوداني علي ذلك بقوله ” أن السودان لا يتوقع إيجاد مياه نيلية كافية لري كل الأراضي الزراعية فيه ” , وأشارت الصحيفة أخيراً إلي أن لجنة الزراعة بالبرلمان السوداني إقترحت زيادة منسوب بعض السدود مع أساليب أخري , وفي ضوء هذه العلاقات المُلتهبة المُعقدة التي تم في الفترة من 1990 وحتي الوقت الحالي تدمير كل أسس وأعمدة بنيان العلاقات المصرية / السودانية التي كانت تُوصف بأنها أزلية , في ضوء كل ذلك , لا يمكن توقع إلا القليل من التنسيق المصري / السوداني في شأن إستخدامات وإستثمار خزان الحجر الرملي النوبي , خاصة وأن مصر تلجأ الآن إلي هذا المصدر مُكرهة خشية تداعيات سد النهضة السلبية والتي لا يأبه بها الجانب السوداني ماضياً في مساندته لإثيوبيا تحت عنوان أن مصلحة السودان طويلة الأمد أصبحت في أديس أبابا وليست في القاهرة , وهو قول باطل أُريد به الحق , فالعلاقات الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا لها بعد ديني ربما أنكره أو خفف من وزنه البعض والآخرين لكنه يزداد خطورة بسبب هذا الإنكار وبسسب كونه حقيقة تاريخية , وبالتالي فسيصطدم السودان في النهاية بهذا الحائط – العامل الديني) في علاقاته مع إثيوبيا , وهو الحائط الذي لا تعترف بالدبلوماسية المصرية به أيضاً , فإثيوبيا تخشي من إستعادة مصر لقوتها ولهذا فهي ماضية في إضعافها بأقصي وأقسي أسلوب لا إنساني وهو حرب المياه التي وإن لم تُعلن بعد , إلا أنها في تقديري بدأت عندما وقع وزير الإستثمار المصري في أبريل 2008 علي خطاب الرد علي خطاب البنك الدولي للحكومة المصرية تضمن الإستفسار عن موافقة مصر علي قيام البنك بالترويج لحصول إثيوبيا علي تمويلات لإقامة سد الألفية أو النهضة , وكان رد الوزير المصري آنئذ أن نعم مصر توافق علي ترويج البنك لتمويل هذا السد .
إن إثيوبيا التي لا تعترف بإتفاقية مايو 1929 المُوقعة بين مصر وبريطانيا لأنها وقعت مع طرف مُستعمر , ولا تعترف بإتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل المُوقعة بين مصر والسودان عام 1959 لأنها ليست طرفاً فيها , لا تعترف أيضاً وبغير أي مسوغ بالإتفاقية الأفريقية للمحافظة علي الطبيعة والموارد الطبيعية المُوقعة من قبل رؤساء الدول والحكومات الأفريقية بالجزائر في 15 سبتمبر1968والتي تقع في 25 مادة منهم المادة الخامسة التي اشارت في بندها الثاني إلي ما نصه ” في حالة وجود مصادر مياه مُشتركة الإنتفاع بين دولتين أو أكثر من الدول المُتعاقدة في هذه الإتفاقية فإن هذ ه الدول تعمل بالتشاور فيما بينها , كي تتكون إذا لزم الحال لجان مُشتركة لدراسة المشاكل التي تنشأ من إستخدام هذه المصادر إستخداماً مُشتركاً وحلها , وكذلك للإشتراك في تنميتها والمُحافظة عليها” , بل إن المادة 14 من هذه الإتفاقية أشارت في البند 3 منها وتحت عنوان ” مشروعات التنمية ” إلي ما نصه ” في الحالات التي يُحتمل فيها أن يكون لأي مشروع من مشروعات التنمية مساس بالمصادر الطبيعية لدول أخري يُؤخذ رأيها ” , ولولا – في تقديري – خروج مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي وتنفيذها لمتطلبات الأمن القومي الأمريكي الذي تعد إسرائيل أحد أهم روافده , لتبقي لمصر مكانة وسطوة نسبية تخشي منها الولايات المتحدة , فمنذ ما قبل إنقلاب 23 يوليو 1952 والولايات المتحدة تريد من مصر إستساغة الوجود الإسرائيلي وذلك عندما كانت مصر بحق قائدة العالم العربي قبل تشبه مشيخيات الخليج العربي بلا إستثناء بالدول كاملة النمو , لكن تسوية الصراع العربي الإسرائيلي بالقطعة جعل الولايات المتحدة في غير حاجة لمصر في هذا الصراع وكان حرياً بمصر أن تؤمن مواردها المائية علي الأقل من بوابة البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة و الذي تلجأ له مصر الآن للإضطلاع بدور ما في المفاوضات العقيمة الجارية والمُتوقفة مُؤخراً بينها وبين إثيوبيا وبينهما السودان سواء علي المستوي الوزاري أو الفني , وذلك لإقناع إثيوبيا بقبول الموقف المصري من السعة التخزينية وفترة ملاً خزان سد النهضة , ولا يبدو أن مصر مُدركة بأن سبب كل هذه المصائب التي نزلت عليها كانت بسبب مبادرة الرؤية المُشتركة التي إنضمت لها إثيوبيا وكانت رافضة فيما قبل ذلك المُشاركة في أي من التجمعات النيلية الخمس السابقة علي هذه المبادرة والتي إن لم يكن مصدرها البنك الدولي فله دور رائد فيها , وهي المبادرة التي وصفتها في أحد تقاريري لوزير الخارجية بأنها مبادرة فرضها البنك الدولي وقسم بها دول حوض النيل لحوضين حوض شرقي دوله مصر والسودان وإثيوبيا وحوض إستوائي أعضاءه باقي دول النيل , وأتذكر ما قلته آنئذ وهو أن الرقم واحد غير قابل للقسمة أما الرقم 2 فيمكن تقسيمه والرقم واحد أعني به حوض النيل ككتلة واحدة وهو الأكثر تماسكاً من الرقم إثنان او حوضين , وفيما مازالت مصر تفترض أنها لها دور إقليمي ما , تأتي أزمة سد النهضة ليري كل من ألقي السمع وهو شهيد أن مكانة مصر بحاجة ماسة لإعادة إعمار , ومن هنا جاء الإلتفاف الأمريكي لصالح إثيوبيا ودورها في القرن الأفريقي أما مصر فلم يعد لها دور أو حضور في إقليمها علي إتساعه …. إذ أن أي دولية لها جذور في التاريخ إن فقدت الدور لا يمكنها الدفاع عن مصالحها المُكتسبة عبر هذا التاريخ .
فيما يتعلق بتشاد فالعلاقات التي تتصل بالموارد المائية مُنعدمة , إلا لو إعتبرنا أن مشاركة تشاد في الهيئة المُشتركة لخزان الحجر النوبي بداية لهذه العلاقات وهذا الخزان واقع بمنطقة تبتعد قليلاً عن المنطقة التشادية التي يجري تحتها خزان الحجر الرملي النوبي بداية لهذه العلاقات , ومع ذلك فجل الإهتمام التشادي مُوجه حالياً نحو مشروع إنقاذ بحيرة تشاد , ولذلك فقد إقترحت علي وزارة الخارجية المصرية 17 في /3/2010 بعد أن حصلت علي موافقة مبدئية من وزير المياه التشادي وكان في زيارة للنيجر , التقدم بطلب رسمي للجنة بحيرة تشاد للإنضمام إليها بصفة مراقب لمتابعة مشروع إنقاذهذه البحيرة العذبة والتي تناقصت مساحتها حتي وصلت إلي 2,500 كم مربع بعد أن كانت 25,000 كم مربع في ستينات القرن الماضي , وبالفعل وبدعم من تشاد أقرت قمة رؤساء الدول الأعضاء بلجنة بحيرة تشاد CBLT في دور إنعقادها بندجامينا عاصمة تشاد في الأول من نوفمبر 2010 قبول عضوية مصر بصفة مراقب , وكان من بين الأهداف التي دعتني لطرح هذا الإقتراح علي الخارجية المصرية أن مشروع إنقاذ بحيرة تشاد بوصلها بنهر Oubangui أحد أفرع نهر الكونجو هو في تقديري وبالرغم من فوائده الحقيقية إلا أنه كاشف عن سياسات الدول الغربية التي تقترب أو تبتعد عن التقدم أو الإحجام عن تمويل هذا المشروع المائي أو ذاك بالقدر الذي يتصل بمصالحها الإستراتيجية في أفريقيا وكمثال فقد أحجم الأوربيون (السوق الأوروبية المـُشتركة آنئذ) عن تمويل مشروع شق قناة جونجلي في جنوب السودان والذي كان يُعد أحد متطلبات إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل الموقعة بين مصر والسودان عام 1959 , متذرعين تارة بدراسة المشروع وتارة أخري بالظروف الأمنية بالجنوب السوداني إبان التمرد علي الحكومة المركزية بالخرطوم إلي أن أقدمت عناصر جنوبية مُتمردة يقودها وليام نون وكاربينو كوانين بتدمير الحفار الفرنسي في فبراير 1983 وتوقف بعد ذلك العمل في المشروع (جدير بالذكر أن معظم دول لجنة حوض بحيرة تشاد تمر بظروف أمنية يعترف بها الإتحاد الأوربي ورغم ذلك يدعم الأوربيون وفرنسا تحديداً مشروع نقل مياه نهر الـ Oubangui لبحيرة تشاد) , وتأكيداً علي ذلك فقد ذكر لي مسئول رفيع المستوي بوزارة الري السودانية وكان عضواً باللجنة الدائمة الفنية لمياه النيل في لقاء مع سيادته بالخرطوم في 5/2/1998 ” أن أثيوبيا ولدوافع سياسية خارجية تتبني مشاريع خزانات وسدود علي الهضبة سماها , مـُوضحاً أنه لا حاجة إقتصادية لذلك , وأن رئيس قطاع الموارد المائية الأثيوبي قال له ذلك , ولكن الدول الغربية هي التي تمول تلك المشاريع , رغم أن القطاع الشرقي من أثيوبيا والبعيد عن النيل أحوج ما تكون للتنمية من خلال مشاريع الري , وأن الغرب والبنك الدولي تحديداً يمول مشروعات الري في الدول النيلية عدا مصر والسودان تحقيقاً لدوافع سياسية غربية ويؤسس البنك رؤيته علي أساس مبدأ يحاول تكريسه وهو قابلية المياه للإتجار فيها TRADEBLE WATER RESOURCES خلافاً لما إستقر عليه القانون الدولي في شأن الأنهار ” .
من الطبيعي أن يكون مشروع إنقاذ بحيرة تشاد ذا أولوية مُتقدمة لدي الحكومة التشادية , وربما سيليه مشروع إستخدام وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي , إلا أن ما يُخشي منه هو أن العلاقات الليبية / التشادية والسودانية / التشادية مازال بكل منهما ترسبات سلبية مصدرها ماضي هذه العلاقات , فليبيا إبان عهد القذافي خاضت حرباً مُتقطعة مع تشاد في الفترة ما بين عام 1978حتي عام 1987ولهذه الحرب تبعاتها حتي الآن إذ أن اللواء المُتقاعد المُنشق خليفة حفتر (الذي منحه قرينه رتبة المُشير نظراً لدوره المُتوقع في مزيد من تدمير ليبيا) كان أحد العسكريين الليبيين الذين وقعوا في أسر قوات الرئيس التشادي حسين هبري , أما السودان فقد كان لدعم المعارضة الدارفورية المسلحة والتنسيق الأمني والعسكري والسياسي بين تشاد وفرنسا فيما يتعلق بدارفور في الماضي أثر سلبي مازال عالقاً ويُخفض من درجة الثقة المُتبادلة بين الخرطوم وندجامينا , ولاشك أن لكل هذا وغيره تأثير ما في الإتفاق المُحتمل التفاوض بشأنه فيما يتعلق بأنصبة كل دولة من دول حوض خزان الحجر النوبي الأربع ووفقاً للمعايير السابق الإشارة إليها والتي لابد من وضعها في متن المعاهدة الرباعية المُرتقبة بشأن هذا الخزان .
عقب إنتهاء الإجتماع الثامن عشر للهيئة المشتركة لدراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي , لابد من إلقاء نظرة مُوجزة علي الوضع الراهن للعلاقات السياسية بين مصر وإثيوبيا بإعتبار أن ملف مياه النيل معها يدخل مباشرة في تحديد قدر الإندفاع المصري نحو ملف إستخدام وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي , كما يقتضي الأمر أيضاً إلقاء نظرة أخري علي الوضع الراهن للعلاقات السياسية مع كل من السودان وليبيا وتشاد , وذلك كله للوقوف علي آفق التحرك المصري في ملف إستغلال المياه الجوفية التي يذخر بها خزان الحجر الرملي النوبي أو NubianSandstone Aquifer System , إذ لاشك أن هذه الهيئة كغيرها من الهيئات تأثرت وتتأثر وستتأثر سلباً أو إيجاباً وبصفة مباشرة بالملفات الرئيسية الأخري للعلاقات الثنائية خاصة وأن إنشاء هذه الهيئة – كما أشرت سابقاً – مر في بدايته ببعض الصعوبات التي مازال بعضها قائماً حتي الآن .
الوضع الحالي للعلاقات المصرية / الإثيوبية :
يعتبر ملف مياه النيل المُتغير الرئيسي المُتحكم في مسار لعلاقات المصرية / الإثيوبية , فبإعلان إثيوبيا عام 2011 عن بدء تنفيذها لسد النهضة (والذي كان موقعه الذي يبعد 40 كم عن حدود إثيوبيا مع السودان أحد السدود التي إقترحها مكتب إستصلاح الأمريكي علي الحكومة الإثيوبية في خمسينات القرن الماضي) , ومنذ هذا التاريخ إمتد تأثير ملف مياه النيل ليؤثرعلي جزء كبير من سياسة مصر الخارجية نظراً لكون الأمن المائي لمصر يُمثل العمود الفقري للإقتصاد المصري القائم علي الزراعة بصفة رئيسية , إذ لا مصدر مائي آخر لدي مصر يناظر مياه النيل التي تشكل 96% من مصادر المياه المتاحة لمصر , فيما النسبة المُتبقية وهي 4% من المياه الجوفية يشكل خزان الحجر الرملي النوبي منها نسبة لا تزيد عن 1,5% , وفي الواقع فإن الإستراتيجية الإثيوبية النيلية تستهدف ببناء سد النهضة تحقيق أقصي تنمية ممكن لكن هذا الهدف كان مزدوجاً وما يزال كذلك لليوم , إذ يتحقق معه هدف آخر هو إضعاف مصر وهو هدف كان مجرد أمنية تاريخية إثيوبية بدءاً من عهد الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني وصولاً إلي الإمبراطور هيلاسيلاسي , وتبناه بعده الرئيس الراحل مانجستو هيلا ماريام الذي أطاح بالحكم الإمبراطوري في 27 فبراير 1974.
هناك ضرورة إذن لإقتطاف جزء يسير جداً من تاريخ العلاقات النيلية بين مصر وإثيوبيا لفهم الأسباب المُتراكمة التي يتكون منها الصراع الإثيوبي/المصري علي مياه النيل والذي يكشف عن حقيقة مفادها أنه مهما فعلت مصر في مفاوضاتها مع أديس أبابا في شأن خفض السعة التخزينية أو عدد سنوات الملأ لخزان النهضة , فلن يجدي هذا أو غيره مع المفاوض الإثيوبي الذي بجانب صلابة موقفه بالطبيعة فإثيوبيا بها معظم منابع النيل , فإن إستراتيجيته التفاوضية مبنية علي إستهلاك الوقت بالتزامن مع تقدم إنجاز السد والذي بلغت نسبة إكتماله 62% , وقد إرتكبت مصر أكبر أخطاءها التفاوضية عندما أقدمت علي توقيع ما يُسمي بوثيقة إعلان مبادئ سد النهضة مع إثيوبيا والسودان في إحتفال لا معني له بالخرطوم في مارس 2015 فيما أعمال بناء السد مُستمرة علي قدم وساق , وقد نجحت إثيوبيا في بعثرة الخطوات المنطقية للتفاوض علي طاولة التفاوض , هذا كله أدي إلي تناقص القدرة التفاوضية المصرية وضعف الموقف التفاوضي بالرغم من الخبرات القيمة الرفيعة المستوي والتي لا تُباري لخبراء الري المصريين , ذلك أن ملف الري المصري دائما ما تجده خاضع لعملية تسيس مُستمرة وتحكم دوائر الأمن فيه وهو ما زاد من ضعف المفاوض وموضوع التفاوض ذاته لدي الجانب المصري .
طلبت مصر من إثيوبيا في مارس 1945 السماح لبعثات مصرية بزيارة المناطق العُليا لمنابع النيل لتحديد موقع لتخزين مياه الفيضان نقاط رصد لمعرفة الفاقد من المياه في حوض نهر البارو أحد الفرعين الرئيسيين لنهر السوباط , لكن إثيوبيا إشترطت أن تقدم مصر تفصيلاً للأعمال الفنية لأبحاثها تلك , وهو ما أستجابت له الحكومة المصرية و ولم توافق إثيوبيا إلا بعد مزيد من الإلحاح المصري عليها , لكنها زادت من شروطها ومنها ضرورة مُرافقة مندوب إثيوبي لهذه البعثات والعمل “تحت إشرافه” وتسليم صور من التقارير ونتائج العمل للجانب الإثيوبي وأستجابت مصر لكل ذلك ومع ذلك ماطلت الحكومة الإثيوبية , وهنا طلبت مصر من بريطانيا مساعدتها في إقناع الإمبراطور هيلا سيلاسي لبدء تنفيذ “مشروع خزان بحيرة تانا” (وكان ذلك المشروع بديلاً لمشروع السد العالي المصري) ومع ذلك ظل الوضع سائلاً غير مُحدد , وكان الدور البريطاني به كل سمات السلوك الإستعماري , إذ أنه في يونيو 1947 تم إتفاق بين مصر والسودان علي جميع المسائل المُعلقة بخصوص المشروع إنتظاراً لبدء التفاوض المُتعثر بسبب إثيوبيا بالإضافة لبريطانيا التي تدخلت وطلبت في يوليو 1948 المُشاركة بمندوبين عن السودان , فكررت مصر ردها بأنه من الممكن أن تسري علي السودان (وكان الحكم الثنائي المصري البريطاني للسودان سارياً بموجب وفاق 1899) أحكام الإتفاق الذي سيتم بينها وبين إثيوبيا وأن بريطانيا ليس لها شأن بهذه المفاوضات ولا تعتبر ممثلة للسودان ومن لا حق لها بوفد يمثلها أو بوفد تحت مُسمي السودان , ولدفع الجانب الإثيوبي وللتغلب علي التدخل البريطاني غيرت مصر موقفها من القضية الأرترية , وبالفعل تم إتفاق مصري/ إثيوبي علي إرسال بعثة مصرية لإثيوبيا للتباحث مع نظراءهم بشأن المشروع , لكن بريطانيا طلبت إشراك السودان في البعثة المصرية , وكان لإثيوبيا مصلحة في إشراك بريطانيا في المباحثات لأن الأخيرة إلتزمت في معاهدة 1902 بدفع مبالغ سنوية لإثيوبيا مقابل عدم إعاقة مجري “تانا” والنيل الأزرق , وفي الواقع لم تدفع بريطانيا شيئاً , لذلك أوعزت مصر لإثيوبيا أن يطالب إمبراطورها هيلاسيلاسي بريطانيا بمتأخراتها , لكن المسعي المصري لتنفيذ المشروع ووجه مرة أخري بمماطلة إثيوبية , إلي أن وصل الأمر إلي إعلان إثيوبيا في أكتوبر 1950 عن رغبتها في تنفيذ ” مشروع تانا ” بنفسها وأنها تنتظر إتفاق مصر مع بريطانيا فيما يخص السودان ثم تدعوا إلي مؤتمر من الفنيين والخبراء للإنعقاد في أديس أبابا للوصول بالمشروع إلي الإتفاقات النهائية , فما كان من مصر إلا أن أبلغت وزير خارجية إثيوبيا عن طريق سفيرها بأديس أبابا أنه لا فائدة من محاولة الضغط عليها بالتفكير في بناء “خزان تانا” بمعرفتها , إذ أنه حتي إن تمكنت إثيوبيا من الحصول علي التمويل , فإن القانون الدولي يُحرم منع مورد طبيعي عن دول أخري( وهو موقف مشابه إلي حد كبير مع مشروع سد النهضة الحالي) , وأن إثيوبيا إن حاولت منع المياه بحجة تنظيمها داخل أراضيها فلن تستطيع منعها لأكثر من موسم أمطار , لأنها سوف تضطر بعد ذلك إلي إطلاق المياه لتغمر السودان فمصر , وفي 7 أكتوبر1950أبلغت إثيوبيا مصر بموافقتها علي تنفيذ المشروع بمعرفتها أو بواسطة شركات تتعاقد هي معها , وعلي أثر ذلك دخلت مصر في تفاوض مع بريطانيا وأنتهت في 23 أغسطس 1951 إلي إتفاق بإرسال بعثة فنية للتفاوض مع إثيوبيا علي ذلك , ومع ذلك تجددت الذرائع الإثيوبية وتداخلت مع ذرائع بريطانية إلي أن حدث الإنقلاب العسكري23 يوليو 1952 مُطيحا بالملك فاروق الأول ملك مصر والسودان ثم تجددت الإتصالات المصرية مع بريطانيا في مارس 1953 بدفع من وزارة الأشغال المصرية , وطالبت بريطانيا بوضع أسس أخري للإتفاق بدعوي أن ظروفاً جديدة طرأت وأيدت إثيوبيا رغبة بريطانيا للإشتراك في المفاوضات لإرتباطهما بإتفاقية 1902التي توجب موافقة بريطانيا علي أي إتفاق في شأن النيل الأزرق , وبشكل عام كان تعثر هذا المشروع بسبب : (1) مماطلة إثيوبيا لمصر في الموافقة علي تنفيذ المشروع لمساومتها علي مصير أرتريا ثم إعتراضها علي مشاركة مصر في عضوية المجلس الإستشاري بشأن الصومال الإيطالي و(2) إصرار بريطانيا علي وضع العقبات أمام مصر لعرقلة تنفيذ المشروع بأكثر من وسيلة . * ( د. محمد عبد المؤمن محمد عبد الغني . مصر والصراع حول القرن الأفريقي 1945-1981. دار الكتب والوثائق القومية , مركز تاريخ مصر المُعاصر . 2011 – صفحات 78 و 79 و 80 و81)
ما تقدم يمثل أحد أسباب تفكير مصر ثم تنفيذها لمشروع السد العالي بالرغم من بعض سلبياته , لكن مشروع السد العالي كان في النهاية وثبة فوق المواقف السلبية البريطانية والأنانية الإثيوبية وكذلك فهو قد حقق لمصر ميزة فنية إذ أن التخزين في بحيرة “تانيا” كان موسمياً , فيما التخزين في بحيرة السد العالي “ناصر” كان مُستديماً علي مدار العام , لكن علي أن أضيف أن إثيوبيا كانت غاضبة من عرض الولايات المتحدة لتمويل سد مصر العالي دون إستشارتها لكنها أحجمت عن إبداء موقف هجومي علني أول الأمر إذ أن الأمبراطور هيلاسيلاسي كان يأمل في تحسين العلاقات مع مصر (لهيبتها ومكانتها الدولية آنئذ) وكان مُتخوفاً من تدخل مصر في الإنتخابات الأرترية , ولديه أمل في مهادنتها في الصومال , ولهذا أخطرت إثيوبيا مصر أنها ستُؤيد الموقف المصري في مؤتمر لندن لمناقشة قضية تأميم قناة السويس في أغسطس 1956 , لكن الموقف الإثيوبي عندما عُقد هذا المؤتمر خالف ذلك , فقد قبلت إثيوبيا تدويل القناة وفقاً لمشروع وزير الخارجية الأمريكي Foster Dulles , إذ خضعت إثيوبيا لمساومة أمريكية من أجل توقيع الولايات المتحدة معها إتفاق جديد للمعونة الفنية والإقتصادية في النصف الأول من أغسطس , وكانت إثيوبيا أحد 5 أعضاء للجنة التي إنيط إليها بحث مشروع Foster Dulles في 3 سبتمبر 1956 وفشلت هذه اللجنة , ثم أصرت إثيوبيا أن تكون عضواً في “هيئة المُنتفعين من القناة ” بإعتبارها أحد المُوقعين علي مشروع Foster Dulles , وكان لإثيوبيا دور في العدوان الثلاثي علي مصر إذ أن إسرائيل إستأجرت من إثيوبيا سفينتين لنقل مواد تموينية إلي وحدات اللواء الصهيوني التاسع في شرم الشيخ بمجرد الإستيلاء عليها وغادرت السفينتين شواطئ إثيوبيا (أرتريا الآن) لشرم الشيخ في 4 نوفمبر .1956 * ( المرجع السابق .صفحة 111)
إن ما تقدم يُظهر بجلاء أن الموقف الإثيوبي من مياه النيل مع مصر يكاد وأن يكون مُدمجاً مع قضايا سياسية بعضها وصل لحد الأزمة مع مصر وبعضها في سبيله والبعض الآخر يتعلق بعلاقات مصر مع دول أخري خارج الحوض سوف تستفيد إثيوبيا إن هي أيضاً مارست بعض الضغوط لصالح هذه الفئة الأخيرة من الدول بإستخدام قضية مياه النيل مع مصر التي تعتبر أقل دول حوض النيل – بطبيعة موقعها الجغرافي – تمكناً من إستخدامه كأداة ضغط , بل بالعكس كانت قدرات الفلاح المصري مع قدرات الحاكم المصري عبر التاريخ شاهداً علي أن أكفأ دول حوض النيل سيطرة وتحكماً وإدارة لمياه النيل هي مصر , الأمر الذي أثار حفيظة دول الأحباس العليا لحوض النيل , بل لقد كان مشروع توشكي علي فشله سبباً – بسبب غباء متخذ القرار السياسي بالقاهرة وإعلامه المُدار حكومياً – في إثارة السودان لأنهما ( أي متخذ القرار وإعلامه) أظهرا هذا المشروع غير المدروس والقابل للفشل علي أنه مشروع قومي وأنه فتح عظيم , ولذلك كان تناول الإعلام السوداني في الفترة من وقت الإعلان عن هذا المشروع هجومياً وحاداً لأن المشروع كان يُنفذ في أسوأ فترة في العلاقات الثنائية , فقد كتب أحد الصحفيين السودانيين في صحيفة “ألوان” في 10 نوفمبر 1996 وتحت عنوان : ” الآن عرفنا ماذا يريد المصريون” ما نصه ” إن مشروع توشكي لإعمار جنوب الوادي الجديد هو مشروع دفعت مصر فيه البلايين وليس هناك طريقة ليري النور إلا إذا تنازل السودان عن فائض(حصته) حيث أن مصر قادرة علي إجهاض أي تمويل لإقامة أي سد علي النيل من أي دولة وعبر أي صندوق, ولذلك فإن مشروعها الحيوي هذا لا يتم إلا إذا تنازل السودان عن حلمه في الحمداب وكاجبار والروصيرص وبقية السدود …. والحل أن نخبر الدنيا بنية مصر إماتتنا لإحياء مشروعها , وأن نقيم دورة زراعية إضافية لتصريف فائض حصتنا…” , وأنا لا أعتبر أن كلام هذا الصحفي مُعبراً عن كل الشعب السوداني فأمثاله موجودين وبأسوأ ما يكون في مصر , لكن هذا اللكلام هو الحد الأدني للصحافة الإثيوبية , فإثيوبيا بإقامة سد النهضة بمواسفاته الحالية تبغي وبمساندة من أعداء مصر الدائمين إما مزيد من الإضعاف لقدرات وقوة مصر الشاملة أو تحجيم الدور المصري في الإقليم , هذا وغيره كثير ومُشابه فما تقدم بيانه هو مضمون أو روح العلاقات الإثيوبية / المصرية , وفي عالم الأرواح لا يمكن لإمرئ أن يفعل شيئاً للتغيير أو المُداراة , فإثيوبيا لم تقدم علي إقامة سد النهضة إلا لتحقيق قدر أعلي من التنمية لشعبها وهذا حقها , وإلا أنه يمكنها الوصول بالتنمية لحد أقصي يتجاوز ما يؤدي إليه سد النهضة بوضع تصميمات السدود بما يحفظ حقوق مصر وهذا ممكن هندسياً , إلا أنها لا تستطيع في نفس الوقت مقاومة إغراء إضعاف مصر لطبيعة روحها المعادية لمصر المُسلمة , روحها المُشبعة بيقين مفاده أنها جزيرة مسيحية في بحر لجي مسلم , مع أن هذا اليقين مؤسس علي حقيقة مُصطنعة فحوالي 45% علي الأقل من الشعب الإثيوبي من المسلمين , وللأسف ما لا يريد الساسة المصريين في معظمهم الإقتناع به هو أن التوجه الإثيوبي المُضاد صوب مصر جوهره حقد ديني لا أكثر ولا أقل , ومن هنا تحصل إثيوبيا علي الدعم الغربي خاصة التمويلي , فسد النهضة صورة منسوخة للسلوك الإثيوبي بشأن مياه النيل في فترتي الأربعينات والخمسينات علي وجه التعيين , وما أن بدأت مصر تجدد من عزمها علي تقصية الإستفادة من الفيضانات العالية للنيل من خلال الإعلان عام 1996 عن بدء تنفيذ مشروع توشكي , إلا وبدأ تمهيد السبيل نحو تنفيذ مشروعات إثيوبية لإستغلال نهر النيل وكان أن إنبثقت فكرة تنفيذ سد النهضة المُشار إليه في تقرير مكتب إستصلاح الأمريكي الذي رُفع للحكومة الإثيوبية والذي أدرجه في دراسة مسحية تضمنت إقتراح إقامة 32 علي مجري النيل بإثيوبيا .
إن أزمة مياه النيل التي تواجهها مصر وحدها بعد أن تخلي حليفها الوحيد عنها وهو السودان بسبب ضلال الساسة والسياسة المصرية وعدم أهلية الرئيس مبارك وفريقه لممارسة مسئوليات الحكم الرشيد لثلاثين عاماً خلت أرتكب فيها أفدح وأخطر الأخطاء في حق مصر ومعها السودان , فكان أن خطا السودان خطوات لا رجعة فيها نحو إثيوبيا وهذا موضوع ليس مقامه هنا , وفي سياق هذه الأزمة أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية المصرية في 21 ديسمبر 2017 أن وزير الخارجية المصري سيتوجه الأسبوع المُقبل إلي أديس أبابا لمناقشة أفكار مُحددة للتغلب علي الطريق المسدود الذي وصلت إليها مفاوضات اللجنة الفنية ” , مُضيفاً أن مصر حريصة للغاية علي إستئناف المحادثات بشأن المفاوضات الفنية لسد النهضة في أقرب وقت ممكن وأن مصر تعكف حالياً علي تقييم الأمر لمعرفة إن كان هذا المأزق مُتعمداً أم أن مرجعه إختلافات في وجهات نظر البلدين , مُشيراً إلي أن أن هناك ثمة عدم إتفاق بشأن التقرير الفني الصادر في أكتوبر 2017 من بيوت الخبرة الأوروبية بشأن تقييم الأثر العملي للسد علي حصص الدول الثلاث من مياه النيل الذي وافقت عليه الدول الثلاث , وقال ما نصه ” إن مصر مُلتزمة دائماً بالمرجعيات التي أقرتها اللجنة الدولية التي أرست حجر الأساس للدراسات الفنية والبيوت الإستشارية عليها أن تصيغ النهج المُتعلق بهذه الدراسات طبقاً للجوانب السابق الإتفاق عليها , وأن المهمة الرئيسية لبيوت الخبرة تلك هي أن تكون مُوضوعية في دراساتها حول التأثير إقامة السد بناء علي الجانب الفني وليس السياسي ” , وأوضح – موجهاً رسالة ما إلي الداخل المصري – قوله إن ” مصر تتهيأ لعلاج أي سيناريوهات قد تنشأ , وأن لديها رؤية واضحة لمواجهة أي تحد يتعلق بالدراسات الفنية أو بناء السد ” , لكنه أسند الموقف المصري في حل الخلاف مع إثيوبيا بشأن السد إلي وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة (التي لم تُعرض ولم يُصدق عليها البرلمان المصري بعد) حيث قال ” إن مصر تعتبر أن إعلان المبادئ الذي وقعه قادة مصر وإثيوبيا والسودان بالخرطوم عام 2015 هو المرجع الرئيسي في هذا الشأن , وأن العلاقات المصرية / الإثيوبية شهدت تطورات مهمة خلال العامين المُنصرمين تتمثل في زيارة الرئيس المصري لإثيوبيا وتأسيس لجنة عُليا بين البلدين بالإضافة إلي الإتصالات المُستمرة بين وزيري الخارجية , ونحن لا نريد أن نفقد هذه الثقة بعد كل ما حققناه بإقامة بنيان فريد للعلاقات بين البلدين ” , ونوه الناطق بالزيارة التي يُزمع رئيس الوزراء الإثيوبي القيام بها لمصر , وكان وزير الري المصري قد صرح في وقت سابق بقوله ” أن الإجتماع الثلاثي بين وزراء ري مصر والسودان وإثيوبيا الذي عُقد بالقاهرة في نوفمبر 2017 لمناقشة أولية للتقرير الفني عن الأثر العملي للسد قد فشل في التوصل إلي توافق ” , وهي الدراسات التي أعرب وزير الخارجية المصري لنظيره الإثيوبي خلال لقاءهما بنيويورك علي هامش الإجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة عن “قلق مصر” جراء التقدم البطئ لها , أما علي الجانب الآخر فقد أعلنت إثيوبيا رسمياً في أكتوبر 2017 أنها أكملت ما نسبته 62% من أعمال سد النهضة وذلك قبل وأثناء وبعد إقامة “البنيان الفريد ” للعلاقات الثنائية وزيارة الرئيس المصري لإثيوبيا وإتصالات وزيري خارجية البلدين التي أشار إليها المتحدث باسم الخارجية المصرية .
العلاقات المصرية / الليبية :
للعلاقات المصرية تاريخ غير مُستقر منذ الإنقلاب العسكري في ليبيا الذي أطاح بالملك إدريس السنوسي في الأول من سبتمبر 1969 , ففي العام الأول منها كان إنقلابيو ليبيا بقيادة العقيد مُعمر القذافي يعتبرون مصر / عبد الناصر مصدر إلهامهم ومن ثم كانت مصر مصدر التأثير, ولم تدم هذه الفترة سوي عام واحد , وبعد تولي الريئس أنور السادات وصلت العلاقات لأدني مستوياتها بسبب محاولات القذافي فرض أفكاره وسيطرته علي مصر إفتراضاً منه بأن مصر المهزومة في حرب 1967 أضعف من أن تُقاوم محاولاته تلك لكن الرئيس أنور السادات تصدي لهذه المحاولات فكان أن تبنت ليبيا القذافي نهجاً مناوئاً لمصر , وبعد إغتيال الرئيس السادات في 6 أكتوبر 1981 وتولي الرئيس مبارك شهدت العلاقات الثنائية نمواً نسبياً حد منه فرض العقوبات الدولية والأمريكية علي ليبيا , لكن الرئيس مبارك إستطاع وإلي حد ما إحتواء بعض الجوانب السلبية في شخصية العقيد القذافي , لكن ولكي نستدل علي المستوي الحقيقي لهذه العلاقات علينا أن ننتخب موضوعاً كي نُسقطه علي إطار هذه العلاقات لنستدل علي درجة قوتها أو ضعفها , وليكن هذا الموضوع إنشاء هيئة دراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي , فبالرغم من تضمن إعلان طبرق الصادر في 17 أكتوبر 1989 أشار فيما تضمنه إلي إنشاء هذه الهيئة , إلا أن إهتمامات الجانب الليبي لم تكن أبداً في إتجاه إستثمار خزان الحجر النوبي , ويكشف عن ذلك بوضوح الإجتماعات التمهيدية للجنة العُليا المُشتركة بين مصر وليبيا وهي اللجنة التي عُقدت في القاهرة في 16-18 مايو 2002, إذ أن الجانب الليبي كان محور إهتمامه هو الإستثمار في منطقة وادي حلفا المصرية المُتاخمة للحدود المصرية / السودانية فطلب أثناء المناقشات تخصيص مليون ونصف المليون منهم 500,000 فدان بحلفا المصرية والباقي بحلفا السودانية , وذلك لتوطين الليبيين بهما (في الوقت الذي تحاول فيه مصر إستصلاح الأراضي الصحراوية لتحقيق الإكتفاء الغذائي للمصريين) وهو ما رفضه نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة المصرية , ووافق فقط علي تخصيص 10,000 فدان فقط , وعلي الجانب الآخر لم يبد الجانب الليبي حماساً بإقتراح مصر الذي أحاطت به نائب رئيس الوزراء الليبي في 23 أكتوبر 2000 بشأن البحث في إمكانية التعاون الثنائي لتمويل تنمية بعض مناطق الساحل الشمالي الغربي لمصر , وأتذكر أني بإعتباري كنت مديراً لشئون ليبيا بالخارجية وقتذاك رفضت موضوع توطين ليبيين بوادي حلفا لسبب بسيط أبلغت به وزير الخارجية كتابة وهو أن ذلك سيُؤدي إلي مد دول حوض النيل وعلي وجه التعيين إثيوبيا بمنطق مُضاد لمتطلبات مصر من مياه النيل إذ أن هذا التوطين يعني أن مصر ليست بحاجة للأراضي الزراعية وبالتالي لمياه النيل فلديها ما يكفيها وزيادة من الأراضي والمياه , كما أن ذلك أيضاً يجافي سياسة مصر في إستصلاح الأراضي للتناسب مع إحتياجات الزراعة المُضطردة , أما فيما يتعلق بخزان الحجر النوبي فقد طرح الجانب الليبي مقترحاً للإستثمارات الزراعية في حوض النهر الإصطناعي العظيم , وكان ردي آنئذ أن هذا أمر يحتاج إلي دراسة مُعمقة ودراسة الجدوي الإقتصادية ورأيت أن هذا المُقترح يتناقض مع الرغبة الليبية في التوطين في وادي حلفا وأنه كنتيجة لذلك أشرت بأنه ليس هناك من سبب في طرح ليبيا لذلك إلا لموازنة والتمويه علي مطلبهم للتوطين في وادي حلفا (وهو ما رفضه السودان) وأشرت أن الأجدي مناقشة موضوع إستكمال إنشاء هيئة دراسة وتنمية الحجر النوبي التي مر عليها حتي ذلك الوقت 13 عام دون فعل شيئ , كذلك وفي البيان الختامي للجنة العليا كانت هناك إشارة مُوجزة تقول ” أشادت اللجنة بالتعاون الفني المُثمر والمُستمر بين الجانبين في مجال تنمية وإدارة المياه الجوفية بخزان الحجر الرملي النوبي بالتعاون مع بعض المنظمات الدولية والبنك الإسلامي , وقررت ضرورة عقد الإجتماع السابع لمجلس إدارة الهيئة المُشتركة لخزان الحجر النوبي بمقر الهيئة الرئيسي (بطرابلس) لإعتماد برنامج زمني للتعاون الفني وإتخاذ الإجراءات اللازمة للتغلب علي العقبات الإدارية والمالية” , ولم يتطرق البيان لمسألة التوطين بعد أن رفضها الجانب المصري .
ظلت العلاقات المصرية الليبية هكذا في فترة الرئيس مبارك تتقدم خطوة وتتأخر خطوة ومرجع ذلك إلي طموحات العقيد القذافي الذي كان يدير علاقات بلاده بالعالم ومع مصر من داخل غرفة ضيقة مُعتمة بعقله , وبعد الإطاحة به عام 2011 بضغط الثورة الشعبية علي نظامه الهش وبفعل التدخل العسكري لحلف شمال الأطلنطي بدأت بعد ذلك أزمة تكوين سلطة جديدة مُنتخبة جديرة بالشعب الليبي الأصيل , وذلك بسبب تجريف نظام القذافي علي مدي 40 عاماً للتربة السياسية والحزبية بالبلاد وتدخل القوي الدولية التي لا تريد أن تري سلطة منتخبة بالعالم العربي كله وأدرت هذه القوي المشهد السياسي الليبي من خلال مبعوث الأمم المتحدة وسفاراتها بطرابلس , أما القوي العربية بالإقليم فهي الأخري كان لها حيز بسيط متبق للتدخل في الشأن الليبي , ولما كانت مصر هي الجار المباشر والأكثر تفاعلاً وعرضة لمخاطر وفرص التجربة الديموقراطية بليبيا فقد تدخلت علي نحو ما , وكان إنحيازها إلي جانب اللواء المُنشق خليفة حفتر وبرلمان طبرق الذي جاء كنتيجة لإنتخابات تشريعية أجريت في 24 يونيو 2014 والتي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها نسبة 18% وأستقر البرلمان الجديد بعدد بلغ 180 عضو من مجمل أعضاءه بطبرق التي تحت سيطرة اللواء حفر , ومازال الصراع بين طبرق وطرابلس وغيرهما من مراكز القوي بالداخل الليبي قائمة بدون أن يحرز أياً من هذه الأطراف نصراً حاسماً , والنصر الزائف الوحيد المُحقق هو تمزق النسيج الإجتماعي الليبي ما أدي إلي تشرذم القوي السياسية الليبية , ومع أنه لا يمكن إثبات أن أياً من هذه القوي دعا إلي تقسيم ليبيا , لكن سيبقي السؤال الأهم وهو كيف سيمكن إعادة بناء ليبيا إجتماعياً وسياسياً والأهم تنموياً , وهذا الأخير أي البناء التنموي هو الذي يدفعني للقول بأنه لا يمكن والحالة الليبية هكذا التوصل لإتفاق ليبي مع دول هيئة دراسة وتنمية خزان الحجر النوبي علي أساس معيار من المعايير المُشار إليها آنفاً , فمجموع القرار السياسي الليبي لا يحوزه أي من أطراف الصراع الليبي حالياً , بالإضافة إلي أنه يمكن القول بأن ليبيا ليست معنية بقضايا التنمية بقدر ما هي معنية أولاً بحسم الصراع بناء علي ما لدي أي من أطراف الصراع للقوة النسبية ليتجاوز بها منافسية أو بتسوية سياسية يصل إليها مبعوث الأمم المتحدة Bernardino Leon الذي يحتاج إلي صبر لا ينفذ حتي يحقق ذلك , خاصة وأن تدخلات الأطراف في الجوار الليبي ومنهم مصر عامل يجب وضعه في الإعتبار فالطيران الحربي المصري قام في 15 فبراير2017 بقذف مواقع لتنظيم الدولة بليبيا ثم قام مرات أخري بقذف درنة أيضاً لنفس السبب وهو محاربة الإرهاب , وسواء اتفق البعض أو إختلف فالتدخلات العسكرية للقوي الإقليمية في الشأن الليبي غالباً ما تشير إلي مصالح وليس إلي أخطار , ومن ثم ومن خلال هذه الحقيقة من الصعوبة إفتراض التوصل مع ليبيا إلي إتفاق بشأن خزان الحجر النوبي إذ لم تتفق معها مصر إبان عهد القذافي الذي ظل يماطل فكيف يمكن الإتفاق الآن ؟ .
العلاقات المصرية السودانية :
الوضع الحالي للعلاقات المصرية السودانية هو الأسوأ في المسار المنحرف عن طبيعة هذه العلاقات الثنائية والذي كانت نقطة بدايته مارس 1992 عندما دخلت القوات المسلحة المصرية وتمركزت في مثلث حلايب المُتنازع عليه منذ فبراير 1958 إبان حكومة عبد الله خليل بالسودان والرئيس عبد الناصر في مصر , وأستطاعت القاهرة والخرطوم تسكين النزاع بأن ألغت مصر إجراء الإستفتاء علي الوحدة فيه وألغت السودان إجراء الإنتخابات البرلمانية , وفي عهد الرئيس السادات وفي إطار ميثاق التكامل ميثاق التكامل بين مصر والسودان المُوقع في 12 أكتوبر 1985إتفقت الدولتان علي تضمين حلايب داخل مستطيل من الأراضي المصري يمتد من حلايب حتي أسوان وجعلها منطقة تكامل , لكن في عهد الرئيس مبارك عادت المشكلة للظهور بسبب توتر العلاقات مرة أخري بسبب إعلان حكومة الإنقاذ الوطني التي أطاحت بنظام السيد الصادق المهدي المُنتخبة في 30 يونيو 1989 , عن هويتها الإسلامية وتبنيها لما وصفته “المشروع الحضاري الإسلامي” , ولما كان النظام السياسي بالقاهرة بلا هوية مُحددة , فلم يكن بإمكان نظام مبارك قبول نظام له صبغة إسلامية ما جنوباً , وبناء علي ذلك بدأ الصدع الكبير الذي مازال يتسع في علاقات الدولتين حتي الآن وما من قوة سياسية عاقلة توقفه , لكن ما يمكن قوله أن ملف مياه النيل وهو الأقصي أهمية وأولوية لمصر لم يعد مُتضمناً الصفحات التي كانت توثق الإتفاق والتنسيق المصري / السوداني في إستراتيجيتهما المائية بالرغم من بعض الإختلافات غير الجوهرية حتي 30 يونيو 1989 والتي كانت قابلة للحل أو علي الأقل المناقشة في إطار الهيئىة الدائمة الفنية لمياه النيل المُنشأة بموجب إتفاقية الإنتفاع الكامل لمياه النيل التي وقعتها مصر والسودان بالقاهرة في 8 نوفمبر 1959 , والتي بسبب تردي العلاقات الثنائية توقفت إجتماعاتها السنوية عام 1992 ولأكثر من خمس سنوات تالية , وهو ما يثبت وإن بطريقة غير مباشرة أن إمكانية إتفاق مصر والسودان في إطار الهيئة المُشتركة لدراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي غير مُحتملة , إذ سيتكرر نفس السيناريو الذي حدث بملف مياه النيل الذي أصبحت فيه السودان ومصر علي طرفي النقيض لأول مرة في تاريخ علاقاتهما الثنائية التي بدأت منذ فتح محمد علي باشا للسودان عام 1821 وأستمرت مصر ذائبة في جغرافية السودان وحدها حتي توقيع الإتفاق الودي بينها وبين بريطانيا عام 1899 والذي أسس ربما للمرة الأولي حكماً ثنائياً لدولتين بأراضي كيان يقع خارج جغرافيتهما , إلي أن إنتهي هذا الحكم الثنائي الذي إنفردت فيه بريطانيا بحكم السودان من الوجهة الواقعية , إنتهي بتوقيع مصر وبريطانيا لإتفاقية الحكم الذاتي للسودان بالقاهرة في 12 فبراير 1953 وإنفصال السودان بناء علي نصوص هذه الإتفاقية التي نصت علي تقرير مصير السودان بإستفتاء السودانيين , وبالإنفصال بدأ فصل جديد حاول فيه السودانيين محو أي أثر لتاريخهم مع مصر وتكفي – إثباتاً لهذا – الإشارة في مناهج التاريخ المدرسية بالسودان وبحوث الباحثين السودانيين في تاريخ بلادهم إلي فترة التواجد المصري بالسودان علي أنها فترة الحكم التركي مُتغافلين حتي عن عنوان الإتفاق الودي المُوقع بواسطة رئيس مجلس النظار المصري بطرس غالي وبريطانيا بواسطة مندوبها السامي بمصر فالعنوان كان إتفقا ودي بين مصر وبريطانيا لإدارة السودان في المستقبل” , لكن مع ذلك لم ينكر معظم السودانيين ومثلهم من المصريين الطبيعة الخاصة والتلازمية للعلاقات بين البلدين , لكن لأن العلاقة ولإنها خاصة كان من الحري أن تتعهدها أيادي مُدربة علي الحكم ولم يكن الرئيس عبد الناصر ولا مبارك بطبيعة كل منهما مؤهلان لهذه المهمة التي إستطاع النهوض بها الرئيس السادات الذي حقق هو والرئيس جعفر نميري إطاراً تكاملياً لها كان من الممكن أن يعصم هذه العلاقات من الزلل بسبب حكام غير مؤهلين .
إتسعت فجوة العلاقات الثنائية إلي أقصي مدي لها فمازال النزاع علي حلايب يمثل تحدياً لهذه العلاقات وهو في تقدير بعض المراقبين يعد المُؤثر السلبي الأول علي ملف مياه النيل بين البلدين , وللأسف فقد أدي تنازل مصر الطوعي للسعودية عن جزيرتي تيران الإستراتيجية وصنافير المجاورة لها والواقعتين علي مدخل خليج العقبة بموجي إتفاق ترسيم حدودهما البحرية بخليج العقبة والبحر الأحمر حتي حلايب والمُوقع بالقاهرة في 8 أبريل 2016 , إلي تنشيط مُطالبة السودان بمنطقة حلايب حتي أن الحكومة السودانية قدمت مؤخراً شكوي إضافية للأمم المتحدة بشأن معارضتها ورفضها لإتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية / السعودية بالبحر الأحمركونها مُتجاوزة لحقوق السودان في ساحل حلايب علي البحر الأحمر , وفي تقديري فإن موقف مصر في شأن حدودها البحرية مع السعودية وقبرص وإسرائيل من زاوية رؤية مختلفة (لجوءها للتحكيم الدولي مع إسرائيل بشأن طابا وهو نموذج ترفض مصر تطبيقه علي حلايب وفقاً للمطلب السوداني) ليس بأقل تناقضاً من موقف السودان في تناول ملفات نزاعاته الحدودية فلو تأملنا ملف النزاعات الحدودية السودانية قبل إنفصال جنوب السودان في 9 /7/2011 أو بعده لوجدنا تبايناً واضحاً بين تناول السودان لنزاعه مع مصر علي حلايب وبين نزاعاته الحدودية الأخري (ومنها مثلث Ilimi مع كينيا) وأهمها النزاع الحدودي السوداني الإثيوبي في مناطق الفشقة وهي منطقة زراعية خصيبة تبلغ مساحتها حوالي 1700 كم مربع وهي من أجود الأراضي الزراعية في السودان وتقابلها من الناحية الإثيوبية (من وجهة النظر السودانية) منطقة صحراوية أصيبت بالقحط والجفاف , وينشب خلاف متكرر علي هذه المنطقة ويذكر الجانب السوداني أن المزارعين الإثيوبيين طردوا المزارعين السودانيين من هناك ويقومون بزراعة المنطقة تحت حماية القوات الإثيوبية حتي الحصاد ونقل المحاصيل لأديس أبابا , وبالرغم من أن هناك من الأخوة السودانيين ما يبرر هذا التناقض بين موقف السودان في قضية حلايب وموقفه المُهادن في قضية الحدود مع إثيوبيا بأنها مرتبطة بنطاق إستراتيجي أكبر تدخل فيه موضوعات حيوية كملف مياه النيل والعداء الأرتري للسودان – بالرغم من النظام الإثيوبي مختلف كالنظام المصري في توجهاته الخارجية عن السودان – لكن هناك أيضاً من يقول أن السودان وإثيوبيا بحثا عن نقطة مشتركة يلتقيا عندها ومضيا يؤكدانها ويوسعان نطاق حركتهما المشتركة , لكننا نجد أنه وبالرغم من أن معظم اللجان المُشتركة بين السودان وإثيوبيا تناولت موضوع الحدود وبالرغم من أن الجانبان العسكريان السوداني والإثيوبي وقعا في 18 إبريل 1995 علي محضر المباحثات الثنائية بمدينة القلابات الحدودية نص في فقرة منه علي أهمية التنسيق المُشترك في مجالات الزراعة والحفاظ علي الغطاء النباتي ومواصلة اللقاءات المُباشرة بين المسئولين وعقد إجتماع ربع سنوي للمتابعة , بالرغم من كل هذا إلا ان إنتهاك الإثيوبيين لمنطقة الفشقة مُستمر حتي أيامنا هذه , بل ويلفت الإنتباه في معرض التأكيد علي تناقض أو علي الأقل تمايزه في تناول ملفات نزاعاته الحدودية أن منطقة النزاع الحدودي يتم تناولها في إطار ” لجنة تنمية الحدود الإثيوبية / السودانية ” التي عقدت إجتماعها العاشر بمدينة جامبيلا الإثيوبية ولمدة ثلاثة أيام بدءاً من 19 أكتوبر 2007 وشارك فيها 150 شخص من الرسميين والفعاليات الشعبية , وترأسها عن الجانب السوداني والي القضارف وعن الجانب الإثيوبي حاكم إقليم جامبيلا الإثيوبي , ونقل الإعلام السوداني وقتها عن رؤساء أقاليم أمهرا وجامبيلا وتيجراي الإثيوبية قولهم أن هذا الإجتماع سيعزز العلاقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية والزراعية , وكانت هذه اللجنة في إجتماعها الثامن قد أوصت بالإسراع في عملية ترسيم الحدود بين البلدين خاصة مع تكرار إختراق المزارعين الإثيوبيين للحدود السودانية والزراعة في مناطق بالقلابات السودانية .
بالتوازي مع النزاع مع السودان علي إيلولة مثلث حلايب لأيهما , فإن السودان يتخذ موقفاً مسانداً لإثيوبيا فيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي وهو السد الذي يؤثر وفقاً لتصميمه الهندسي بالخفض من حصة مصر المائية المُقررة في إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل المُوقعة مع السودان والتي لا تعترف بها إثيوبيا ومعظم دول حوض النيل التي إتحدت مواقفها جميعاً في الإتفاق الإطاري أو إتفاق عنتيبي الذي يشكل النقطة الحرجة لإستراتيجية مصر المائية التي ترفض هذا الإتفاق لإنكاره علي مصر حقوقها المائية التاريخية , وقد كان موقف السودان حتي في قترة التسعينات من القرن الماضي مواتياً لمصر ثم تحول مع إستمرار حالة إختناق العلاقات الثنائية .
أدلي وزير الخارجية السوداني بتصريح في 29 ديسمبر 2017 نشره موقع Daily News Egypt في 31 ديسمبر 2017 أشار فيه إلي ” أن هناك سياسيين مصريين لا يريدون أن يكون للسودان دولة قوية , وأن هؤلاء السياسيين لا يدركون أن أن السودان القوي أمر في مصلحة مصر ” , وفي الواقع أن كلام الوزير السوداني صحيح إلي حد كبير لولا الرؤية الضبابية وغير الموضوعية بناء عن ذلك للساسة المصريين للسودان وما يجري فيه , فمصر لم تشأ بالمرة أن تتعامل مع السودان كملف إجتماعي وسياسي , وأصرت منذ 1956 علي تناوله بإعتباره ملفاً أمنياً صرفاً إلا من فترات ومواقف قليلة , وكان يمكن أن يكون كلام الوزير صحيحاً 100% , لولا أن الرئيس السوداني عمر البشير سبق وأن أعلن في مؤتمر صحفي مُشترك مع رئيس الوزراء الإثيوبي بإديس أبابا في 4 أبريل 2017 ما نصه ” لاسقف للتعاون بيننا في المجال الأمني إذ أن أمن أثيوبيا هو أمن السودان , وأمن السودان هو أمن أثيوبيا ” ، وأمن رئيس الوزراء الأثيوبي ديسالين على حديث الرئيس السوداني قائلاً : ” إن ما يمس أثيوبيا ينعكس على السودان ، وإن ما يمس السودان ينعكس على إثيوبيا ” , وبطبيعة الحال لم يكن للرئيس السوداني أن يقول ما قاله من فراغ , فتفريغ نظرية الأمن القومي المصري / السوداني ذات الخاصية التبادلية كان خطئاً مُشتركاً من القاهرة والخرطوم وإن كان لمصر في ذلك القدح المُعلي , وهذا كاف لإيضاح ما وصلت إليه العلاقات الثنائية بحيث لم يعد بها حيز للتنسيق ففي إشارة الرئيس السوداني عن التداخل بين أمن السودان وإثيوبيا ما يكفي لتصور مصر وهي خارج معادلة المصالح السودانية بإنتقالها لمعادلة مهددات أمن السودان القومي , فهكذا مصر بالنسبة للسودان , وبهذا يمكن تصور التناول المصري / السوداني لمسألة وضع معاهدة تحكم إستغلال خزان الحجر الرملي النوبي ما لم تجد أمور أو متغيرات أخري , وهو الأمر المُستبعد علي المدي التوسط علي الأقل .
العلاقات المصرية / التشادية :
العلاقات المصرية التشادية علاقات ساكنة وهي لا تقع داخل الدائرة الأهم لمصر وهي دائرة دول حوض النيل , والمحطة الرئيسية للعلاقات الثنائية والتي تكشف الطبيعة الرئيسية لهذه العلاقات كانت فترة الحرب الليبية / التشادية المُتقطعة 1978حتي عام 1987 فقد تبنت مصر فيها موقفاً داعماً لقوات حسين هبري المُناوئة لرئيس البلاد , فيما دعمت ليبيا حليفها Goukouni Oueddei وكان أساس الموقف المصري العداء الليبي/ المصري إبان عهد الرئيس السادات وكان هذا الموقف آنئذ متسقاً مع موقف الولايات المتحدة من الحرب الأهلية التشادية التي كانت تدعم هبري الذي قدمت مصر دعماً عسكرياً له من مواعد عسكرية بالكونجو الديموقراطية , لكن بعد أن دانت الأمور لهبري إنقلب عليه إدريس ديبي بدعم فرنسي من خلال Paul Fontbonne ضابط العمليات السرية الفرنسي العامل بالسودان والذي كان مُكلفاً بضبط العملية الثلاثية التي أتت بإدريس ديبي للسلطة , ففي ديسمبر 1990 دخل ديبي بقواته العاصمة N,Djamena وشرعت مجموعته المُنتمية لقبيلة الزغاوة في الإنسياب داخل كل إجزاء الدولة التشادية , ومنذ ذلك التاريخ ظل الرئيس ديبي رئيساً أبدياً من خلال إنتخابات هزلية كتلك التي يُنظمها حكام الشرق الأوسط ومعظم القارة الأفريقية (إلا خمس أو ست دول منهم السنغال وجنوب أفريقيا) , وتعتبر دائة التعاون الأمني أنشط دوائر العلاقات التشادية / المصرية حالياً خاصة مع إلتهاب العلاقات المصرية / السودانية في معظم مجالات العلاقات الثنائية , ومن بينها ما له صلة بالموضوع التشادي , إذ سبق أن وجه الرئيس السوداني إنتقاداً لمصر في 21 مايو 2017 ضمن كلمة ألقاها في قيادة الجيش السوداني وأتهمها بصفة مباشرة بالتورط في القتال بمناطق بولايتي شمال وشرق دارفور , مُدللاً علي إتهامهه بقوله أن القوات المُهاجمة والتي تنتمي لقوات تحرير السودان (SLA-MM) جناح Minni Minnawi وعناصر حركة تحرير السودان – المجلس الإنتقالي ((SLA-TC جاءتا من جنوب السودان وليبيا محمولة علي مركبات مُدرعة مصرية الصنع , مُوضحاً أن القوات المُسلحة السودانية وقوة الدعم السريع صادرت هذه المركبات التي إستخدمها هؤلاء المُتمردون في هجومهم الذي شنوه يوم الجمعة 19 مايو 2017, ثم نوه إلي أن مصر رفضت دعم السودان في القتال الممُتد ضد تمرد جنوب السودان لأكثر من عشرين عاماً وفي دارفور ولم تعط للجيش السوداني رصاصة واحدة , علي حين دعمت بلاده مصر في حربي 1967 و1973, ولذلك فهناك أهمية لتشاد في الصراع الدارفوري الذي آن له أن يهدأ نظراً لجوار تشاد المباشر لدارفور التي تعتبر مرشحة للتوتر إن تم تحريك العامل التشادي بالرغم من الإتفاق الأخير بين السودان والأمم المتحدة علي خفض تدريجي لقوات حفظ السلام الأفريقية / الأممية في دارفور , وفي هذا الإطار كانت الزيارة التي قام بها الرئيس المصري لتشاد كآخر محطة في جولته الأفريقية التي تضمنت مع تشاد ثلاث دول أخري , فقد وصل الرئيس المصري إلي N,Djamena في زيارة صداقة Visite d’amitié et de travail في 17 أغسطس 2017 , وبالإضافة إلي بحثهما سبل تنشيط الإتفاقات المُوقعة تناول الرئيسان الوضع في منطقة الساحل وحيا البيان المُشترك الصادر ما وصفه ” بالمبادرات المختلفة للرئيس المصري من أجل حل تفاوضي للأزمة الليبية ” , كما أشار البيان إلي تحية الرئيس المصري لنظيره التشادي لدوره من أجل السلام والأمن في منطقة الساحل ودعوة المجتمع الدولي لدعم الجهود التشادية في هذا الشأن , ثم أشار البيان إلي أن الرئيسان تناولا مسألة تعزيز قدرات قوات الدفاع والأمن التشادية لمكافحة تهريب الأسلحة والمخدرات لليبيا ومنها لباقي دول الجوار بالصحراء , وأختتم بالإشارة إلي دعوة الرئيس المصري لنظيره التشادي للقيام بزيارة رسمية لمصر , وقد تمت هذه الزيارة والرئيس التشادي يتجه بقوة نحو فرنسا لمناقشة ما يُسمي ”الإرهاب” بمنطقة الساحل وإقامة قوة الساحل الخماسية G 5 Sahel لحفظ السلام ومواجهة الإرهاب (جماعة بوكو حرام) بدول حوض بحيرة تشاد , وهو بالطبع موضوع يقع في صدارة الإهتمامات المصرية حالياً , ولذا كانت هذه القضية في القلب مما تناوله أيضاً الرئيس التشادي مع الرئيس Macron وتحديداً مسألة تمويل القوة المُشتركة المُرتقبة المُضادة “للجهاديين” أوممن يُسمون “التكفيرين” في الشرق الأوسط , ومما يُلاحظ أن الرئيس المصري لم يصطحب في الوفد المُرافق في زياته لتشاد وزير الري أو الزراعة المصريين أو أحدهما لبحث موضوع إستغلال خزان الحجر النوبي في إطار عضوية البلدين في الهيئة الرباعية لدراسة وتنمية خزان الحجر الرملي النوبي , وهو ما يعني أن هذا الموضوع أقل في الأهمية من أن يبحثه الرئيسان أو أنه متروك للخبراء .
إن ما يجمع أمن مصر القومي بتشاد هو الرمال …. رمال الصحراء الكبري , وللأسف فحتي هذه الرمال ليست خالصة ومفتوحة للحركة المصرية إذ أنها الآن بيد العسكريتين الفرنسية والأمريكية اللتين تتحركان في الصحراء الكبري بقوة وإندفاع كفيل بتهديد أمن مصر القومي في إتجاهه الغربي علي محورين هما محور دارفور والمحور الليبي إنطلاقاً من جنوب وشرق ليبيا , إذن وكما أشرت فالقاسم المُشترك بين تشاد ومصر حالياً هو إيلائهما أولوية قصوي لقضية الإرهاب وما يتصل بذلك من إعتمادهما علي المؤسستين العسكرية والأمنية وتنميتهما وإهمال ما عداهما من مؤسسات مدنية وتنموية , ومن ثم فلم يكن هناك ثمة حيز لقضية إستغلال خزان الحجر النوبي في هذه الزيارة النادرة لتشاد التي يقوم بها رئيس مصري , ويدعم ذلك التوافق السياسي التشادي مع الموقف المصري السعودي والإماراتي المُشترك في شأن ما يُسمي بالأزمة الخليجية إذ أن تشاد أيدت الحصار الرباعي علي قطر الذي طُبق في 5 يونيو 2017 , فسحبت سفيرها من الدوحة كتعبير عن هذا التأييد الذي في إطاره قام الرئيس ديبي بزيارة الإمارات العربية المتحدة في 14 يوليو 2017 .
- هل خزان الحجر الرملي النوبي بديل لمواجهة الإنخفاض المُتوقع في حصة مصر من مياه النيل ؟
يجدر بي أولاً وقبل الإجابة عن هذا السؤال توضيح حقائق أساسية يتعمد الإعلام المصري ليها لإسباب دعائية بحتة وهو ما سبق وأن تسبب في تعقيد قضايا أخري أدت إلي صدمات للرأي العام المصري بقدر ما تسبب أيضاً في خسائر مالية كان من الممكن تجنبها لو أن هذا الإعلام إتسم بالحيادية والموضوعية وتخلي عن إستجداء عواطف الجماهيير , فهذا الإعلام ساق هذه النوعية من التصريحات منها تصريح أدلي به المستشار الإعلامي لوزارة الري والموارد المائية لصحيفة ” الجريدة” الكويتية في28 ديسمبر 2017 أشار فيه إلي أن إجمالي العجز السنوي لمصر من المياه يصل إلى نحو 34 مليار متر مكعب وأن احتياجات مصر السنوية من المياه تقدر بنحو 114 مليار متر مكعب ، ” وما نتحصل عليه من مياه النيل والمياه الجوفية يقدر بـ80 مليار ” , مضيفا أن خزان الحجر الرملي النوبي يوفر لمصر كميات ضخمة من المياه الجوفية ، وأن حصة مصر من مياه نهر النيل ، إلى جانب المياه الجوفية التي يتم استخراجها توفر لها نحو 80 مليار متر مكعب سنويا ، لكن احتياجات مصر الفعلية من المياه تقدر بنحو114 مليار متر مكعب / عام ، أي إن هناك عجزا سنويا في المياه يقدر بنحو 34 مليار متر مكعب , وعن علاقة مصر بدول حوض قال إن ” مصر تدعم التعاون الثنائي مع تلك الدول ، والوزارة تقوم بتعاون وثيق معها لحفر الآبار في المناطق النائية عندهم ، وكذلك هناك مشاريع للربط الملاحي منها مشروع الربط بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط (وذلك عبر نهر النيل السعيد الذي يمر بدول تحكمها هذه النوعيات من النظم السياسية وهو مشروع خيالي لو قُورن بمشروع إقامة مستوطنات بكوكب المشتري لكان الأخيرأقرب منالاً منه في عالم الفرضيات المُستحيلة) ، لتوطيد العلاقات التجارية بين دول الحوض بما فيها الدول الحبيسة والتي ليس لها منافذ بحرية تعوق حركة التجارة بها ” , كما أدلي الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بمعهد البحوث الأفريقية بتصريح لموقع أسرار الأسبوع في ديسمبر 2017 أشار فيه إلي ” أن جمهورية مصر العربية تعد المستفيد الأكبر من خزان الحجر الرملي النوبي في الزراعات الموجودة في منطقة الواحات ، بالإضافة إلى اعتمادها أيضا على ري نسبة 80% من مشروعات المليون ونصف فدان (؟) ، وأن هذا هو الوضع أيضا بالنسبة إلى الدولة الليبية التي تستفيد من الخزان بشكل كلي في توفير المياه لمشروع النهر الصناعي العظيم ” , ومن جهة أخري وفي نفس السياق الدعائي التخديري نشرت صحيفة “المصري اليوم” في 19 يونيو 2013 تصريحاً أدلت به دكتورة إيمان محمد غنيم مدير معمل أبحاث الفضاء بقسم الجغرافيا والجيولوجيا بجامعة نورث كرولينا بولمنجتون بالولايات المتحدة الأمريكية أشارت فيه إلي وجود ممر مائى عملاق قديم مدفون أسفل رمال الصحراء الكبرى يربط وسط أفريقيا بساحل البحر الأبيض المتوسط مروراً بالأراضى الليبية حتى “خليج سرت” , وأشارت كذلك إلي أن الدراسات تشير إلي أن إحدى الحلقات المهمة جداً من هذا الممر هو حوض “نهر الكفرة” القديم الواقع على الحدود المصرية – الليبية والذى تقدر مساحته بحوالى 236 ألف كيلومتر مربع , وأضافت أن لنهر الكفرة دلتا عملاقة تقدر مساحتها بحوالى 34 ألف كيلومتر مربع بين الحدود المصرية – الليبية (الجزء الأكبر منها يقع داخل الأراضى الليبية) ، والتى تعد من المناطق المحتمل احتواؤها على مياه جوفية وفيرة إضافة إلى خام البترول والغاز الطبيعى .
من المُحتمل أن يكون مشروع زراعة مليون ونصف المليون فدان في الصحراء الغربية إعتماداً علي المياه الجوفية مُستنداً إلي ما أعلنه الدكتور خالد عودة الخبير الجيولوجى الدولي وأستاذ الجيولوجيا في كلية العلوم – جامعة أسيوط – في مقابلة أجرتها معه صحيفة الوفد القاهرية في 17 نوفمبر 2011 , حيث أشار إلي ” أنه يواصل تجاربه وزياراته الميدانية إلى الصحراء الغربية لتحديد كمية المياه الجوفية المتواجدة فيها بعدما أعلن عن اكتشاف مخزون ضخم من المياه الجوفية فى منطقة بحر الرمال الأعظم يكفي لزراعة 3 ملايين و 750 ألف فدان في المنطقة الحدودية بين مصر وليبيا , وأن هذا الخزان متجدد خلافاً لآبار المياه الجوفية الأخرى القابلة للنضوب في الصحراء الغربية. فهو يستمد مياهه المتجددة من النهر الليبي الذي غطته الأرض قبل 18 مليون سنة ، وهذا النهر يمد الآن بالمياه مدينة الكفرة الليبية التى تعتبر من أغنى وأشهر الواحات التي تعتمد على المياه الجوفية فى شمال شرق ليبيا , وأن الاكتشاف الجديد يضمن وجود 9 واحات وسهول جديدة تتميز بقرب المياه الجوفية لسطحها الخارجي وجودة أراضيها , وأن منطقة بحر الرمال ليست سوى كثبان رملية وتلال تفصلها ممرات واسعة كلها صالحة للزراعة، خصوصاً محصول القمح. ” , ونوه دكتور عودة إلي أن هذه المياه لم تكن موجودة في الخرائط الطوبوغرافية لدى الجهات العلمية والبحثية .
هناك دراسات مُتعددة تمت بشأن المياه الجوفية في الصحراء الغربية لمصر , وأختلفت الآراء حولها فمن قائل بأن عمرها يتراوح ما بين عشرين وثلاثين ألف سنة ومن قائل بأن عمرها يتجاوز ملايين السنين , كما أن هناك رأيان مُتضاربان حول تجدد المياه الأول يقول أنها تتجدد بمياه جارية تحت سطح الأرض تأتي من السودان وتشاد جنوباً , أما الثاني وهو الرأي الغالب حالياً ويقول بأنها ليست مُتجددة لأن الصخورالتي تفصل مصر عن ليبيا والسودان غير مسامية ولا تسمح لذ لك بنفاذ المياه الجوفية , لكن هناك بديل عن هذه المياه للتوسع الزراعي فالمنطقة الجنوبية من الصحراء الغربية غرب أسوان من مناطق التوسع الزراعي الواعدة لتواجد عدة أودية جافة تنتشر فيها أراضي مُنبسطة صالحة للزراعة وقربها من بحيرة ناصر يمكن من نقل المياه إليها عبر أنابيب وقربها كذلك من نهر النيل يجعل من الممكن الإستعانة بالعمالة المُتركزة في الوادي. * ( د . صلاح أحمد طاحون . التصحر وإستعمالات الأراضي في مصر الجديدة . الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012 . صفحة 305 )
لكن وفي رؤية مُناقضة لما تقدم كان موقعAL-MONITOR في 16 أكتوبر 2014 قد أشار إلي ” أنه وعلى الرغم من محدوديّة مصادر الموارد المائيّة في مصر وتهديد الحصّة المائيّة السنويّة من مياه النيل نتيجة السياسات التي تتبنّاها دول منابع النيل باستغلال نصيبها من النهر تتحدّث الحكومة المصريّة بلهجة واثقة وحاسمة عن زراعة 4 ملايين فدّان جديدة خارج شريط الوادي والدلتا ، وهي الخطّة التي قد تواجه بالعديد من الصعوبات ، في مقدّمتها نقص المياه ، وعدم توافر التمويل الكافي لاستصلاح الأراضي الصحراويّة” وأضاف الموقع إشارته إلي أنه ” في 19سبتمبر 2014 أعلن وزير الزراعة واستصلاح الأراضي والمشرف السابق على الملفّ الزراعيّ في برنامج الرئيس المصري عادل البلتاجي في احتفاليّة ضخمة بمناسبة عيد الفلاّح المصريّ عن بدء المرحلة الأولى من المشروع لزراعة المليون فدّان الأوّل في 11منطقة يتركّز معظمها في الصحراء الغربيّة وتوشكى , فيما قال رئيس مصلحة الريّ التابعة لوزارة الموارد المائيّة المصريّة فتحي جويلي في حديثه إلى AL-MONITOR أنه “سيتمّ الاعتماد على المياه الجوفيّة في شكل أساسيّ في زراعة معظم المساحات في المليون فدّان الأوّل” مُوضحاً ذلك بقوله “سنوفّر مياهاً جوفيّة لريّ 90% من المساحة ، والـ10% المتبّقية من المياه السطحيّة ومياه النيل” , لكن AL-MONITOR وتغطية منها لوجهات النظر المختلفة بشأن هذا الموضوع الملئ بالتصريحات الدعائية توجهت إلي رئيس وحدة البرامج المائيّة في المجلس العربيّ للمياه خالد أبو زيد رأي أنّ ” لجوء الدولة إلى الاعتماد على المخزون الجوفيّ أصبح حلاًّ مؤقّتاً في مواجهة ندرة المياه ، لكنّ معظم المياه الجوفيّة في مصر غير متجدّدة ” , مُؤكداً أنه ” لا يمكن للمساحات المقرّر زراعتها على المياه الجوفيّة ضمن هذا المشروع ، أن تكون زراعات مستدامة ولا بدّ من التفكير في موارد مائيّة أخرى غير تقليديّة ، كإعادة استخدام مياه الصرف الصحّي أو اللجوء إلى مشاريع زيادة إيراد نهر النيل من دول المنابع ” , وأحال موقع AL-MONITOR علي خبير المياه الجوفيّة مغاوري شحاته قوله “سيعتمد نجاح المشروع على قدرة الدولة على إيجاد مصادر غير تقليديّة للمياه” موضحاً ” أن استصلاح 4 ملايين فدّان على الأقلّ يتطلب توفير 20 مليار متر مكعّب من المياه وهو حلم مستحيل في ظلّ الفقر المائيّ الذي تعاني منه مصر حاليّاً ” , مُضيفاً قوله “أن مصر لديها 12 مليار متر مكعّب من مياه الصرف الصحيّ والزراعيّ وهي قابلة لإعادة الاستخدام ولا يُتستخدم منها سوى 5 مليارات متر مكعّب فقط ” , ونوه موقع AL-MONITOR إلى أنه بالإضافة إلي أزمة توافر المياه تأتي مشكلة الاعتبارات الاقتصاديّة وإمكان توفير التمويل اللازم لحفرالآبار واستصلاح الأراضي لزراعتها وتمهيدها وتوصيل المرافق والبنية الأساسيّة من الكهرباء والطرق للمساحات المُعلن عنها في المشروع , وبالطبع يُضاف إلي كل ذلك أن معدلات سحب النهر الليبي الإصطناعي العظيم والسحب العشوائي المُحتمل كلاهما غير خاضعان لا للرقابة ولا للسيطرة مما يدعو إلي الخشية من تاثير ذلك سلباً علي القدرات المصرية المُفترضة لري مشروع المليون ونصف المليون فدان بالصحراء الغربية , خاصة وأن الدولة الليبية غير مُستقرة ومؤسساتها في حالة عدم إتزان نسبياً , كذلك فقد أشار تقرير حديث لمجلة New Scientist البريطانية إلي” أنه سرعان ما بدأت واحات الصحراء تجف الأمر الذي تسبب في نقص المياه بالنسبة لجماعات البدو والحياة البرية لكن لا يمكن الإجماع على من يُوجه إليه اللوم واتسمت طبقة المياه الجوفية القديمة بأنها كانت معقدة للغاية حيث كان من المستحيل تحديد من الذي كان يأخذ القدر الأكبر من المياه أو تقدير متى سوف تنفد تلك المياه , ونظراً لأن أياً من الدول لم تثق إحداهما بالأخرى في تقديم تحليل غير متحيز، فإنها لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق حول الخطوات – إن وجدت -التي يمكن اتخاذها لحماية طبقة المياه الجوفية حالة عدم الثقة وعدم التعاون تُنذر بالتصعيد إلى شيء أكثر سوءاً ” .
يذهب دكتور حسين كفافي مسافة أطول في بيان الوضع الواقعي للإمكانيات المائية بخزان الحجر الرملي النوبي , إذ أشار إلي ” أن كل الدراسات والأبحاث التي قام بها رجال هيئة المساحة الجيولوجية المصرية والذين عاشروا الصحراء المصرية مُعاشرة الحب لمصر وذلك خلال العشرين عاماً الأخيرة تشير بوضوح إلي أنه لا يوجد في باطن الصحراء الغربية أو الشرقية إلا النذر اليسير الذي يكاد يفي بحاجة الإنسان الذي يعيش في هذه المناطق الصحراوية المُقفرة وتكاد تكفي لزراعة مساحات الواحات المحدودة والتي لا تتجاوز بحال من الأحوال 50 ألف فدان , فالمستقبل في الصحراء الغربية لا يعتمد علي المياه الجوفية – وهذا تُؤكده ظاهرة دوائر الملح في كل مكان عاش فيه الإنسان في الصحراء الغربية – زادت ملوحتها وتركها الإنسان لأنه لم يعد في الإمكان زراعتها فأنتقل لذلك لمكان طلباً وسعياً للرزق والزراعة ” .* ( دكتور حسين كفافي . رؤية مصرية لخريطة مصر . الهيئة المصرية العامة للكتاب . الطبعة الثانية 1990 .صفحة 111)
إن لجوء مصر لمياه خزان الحجر النوبي لا يمكن بأي معيار إعتباره حلاً دائماً للخروج من الأزمة التي تجري بسرعة للوصول إلي مجري النيل المصري بسبب سد النهضة الأثيوبي والسدود الأخري المُحتمل إقامتها في إثيوبيال وإضطراد إستخدامات السودان لمياه النيل من خلال مشاريع أخري للري تُضاف إلي تعلية خزان الروصيرص وحفر ترعتي الرهد وكنانة وإقامة سدي الحمداب وكاجبار وغيرهما , وللأسف فإن جزء منطقي من الصراع علي مياه النيل بين إثيوبيا والسودان من جانب ومصر من جانب آخر منشأه أن مصر آخر مُستقبل لمياه النيل قبل أن تقذف بنفسها في حوض البحر الأبيض المتوسط , وهذا يعني ان مصر صراعها علي مياه النيل صراع مزدوج فهو مع إثيوبيا ومع الحقيقة الجغرافية الصلبة التي ليس لها أن تتغير , ولهذا فقد ذكرت رداً علي سؤال عن حل أزمة سد النهضىة , وذلك في مقابلة مع صحيفة “روزاليوسف القاهرية” في 5 يونيو 2013 فقلت ” التصرف الوحيد المتاح لمصر في الاتجاه بأي ثمن نحو الاستقرار وهناك أوراق ثانوية قد تحقق فائدة مرحلية منها إحياء عملية إقامة الهيئة المشتركة لخزان الحجر النوبي والتي أشار لها إعلان طبرق 1989 باعتبارها خزاناً مائياً عملاقاً في صحرائنا الغربية وتضم هذه الهيئة مصر والسودان وليبيا وتشاد ” , أي أن اللجوء لموارد المياه الجوفية مُتمثلة في خزان الحجر الرملي النوبي مرحلي بمعني أنه في حالة مصر علي وجه التعيين لا يُعد هذا مورداً رئيسياً , كما انه بهذا المعني لا يُعد علاجاً نهائياً للتداعيات السلبية لسد النهضة في حالة إتمام تخزين 74 مليار متر مكعب مياه سنوياً وراءه , وهي الطاقة التخزينية التي إعترضت ومازالت تعترض مصر عليها .
تعني مصر حالياً عناية فائقة بمورد المياه الجوفية الرئيسي بها أي بخزان الحجر الرملي النوبي الذي يبلغ سمكه حوالي 1400 متر فى شرق العوينات و900متر بتوشكى و1300متر بالخارجة و1500 متر بالفرارة و300 متر بسيوة , وهذه الكمية من المياه الجوفية تكفى مصر 25 عامًا فقط من الاستخدام وهى قادرة على استصلاح آلآف الأفدنة بالصحراء الغربية علما بأن وزارة الرى تستخدم هذه المياه بالفعل لأغراض الزراعة فى مشروعات مُقامة بالوادى الجديد وكذلك فى منطقتى توشكى والمغرة , ومن مظاهر هذه عناية مصر لهذا المورد أن بالمركز القومي للبحوث المائية الذي يتكون من 12 معهد به معهد معني ببحوث المياه الجوفية هذا من الوجهة العلمية البحثية , أما من الوجهة الإستخدامية للمياه الجوفية فبإعتبار أن موارد المياه علي إختلافها تحت سيطرة ورقابة وإدارة الحكومة المصرية بموجب القانون المُنظم , فإن أي من المُستخدمين المُرتقبين للمياه الجوفية بمصر في الغالب عليه الحصول علي ترخيص حكومي قبل حفر بئر بأي من مناطق تواجد المياه الجوفية , ومع ذلك يسمح القانون للمستخدمين المرتقبين بإمتلاك المياه الجوفية للزراعة التقليدية بالواحات والوديان الصحراوية التي تقع في مناطق خزان الحجر النوبي . *(Ryan Carl Dolezal . The Nubian Sandstone Aquifer Dispute . PANGAEA JOURNAL)
إستغلال مصر المُتوقع لنصيبها من خزان الحجر الرملي النوبي :
إن مصر التي تعتمد بنسبة 96% علي مياه نهر النيل مُضطرة للجوء لمياه خزان الحجر الرملي النوبي طالما أن هناك تهديداً مصدره سد النهضة الإثيوبي لم تواجهه مصر حتي الأن إلا من خلال مفاوضات عبثية بمعرفة وزارة ري مُسيسة منذ عام 1952 , نعم مصر مُضطرة لمد بصرها نحو خزان الحجر الرملي النوبي , ويمكن الإستدلال علي المعني الكامل لكلمة “مُضطرة” من فقرة قالها وزير الري المصري الأسبق المهندس محمد عبد الهادي سماحة ضمن محاضرة ألقاها في ثمانينات القرن الماضي بالمعهد الدبلوماسي المصري بعنوان ” الثروة المائية في مصر” حيث أشار إلي ما يُوضح ذلك عندما أشار إلي ما نصه ” أن هناك كميات كبيرة جداً تضيع في أحباس النيل العليا خارج حدود مصر .. لايمكن للسد العالي أن يتدخل في وقف ضياعها وإنما سوف تستمر في الضياع مالم تتم مشروعات أعالي النيل التي ذكرناها وتُقدر هذه الكميات بحوالي 36 مليار متر مكعب تضيع كلها داخل حدود السودان ( في جنوب السودان الذي إنفصل) فإذا تم تنفيذ المشروعات التي اشرنا إليها فإننا سنستعيض 18 مليار متر مكعب من هذه المياه مُقدرة عند أسوان تُقسم مُناصفة بين مصر والسودان , وهناك ضرورة لبحث مشروعات للتخزين المُستمر خارج حدود مصر لتساعد هذه الخزانات في تكوين رصيد آخر يعوض النقص في مخزون السد العالي إذا توالت سنين عجاف … أو ما قد يفيض عن سعته في بعض السنوات ذات الفيضانات العالية , وعليه فإن تواجدنا الفني والسياسي في مناطق حوض النيل الإستوائية منها أو الحبشية أمر غاية في الأهمية إذ أن أي مشروعات تُقام في تلك المناطق – وهي مُحتملة بين وقت وآخر – ستؤثر تأثيراً مباشراً علي إيرادنا الطبيعي من مياه النيل … كما سبق وأن أوضحنا ومهمتنا في ذلك هي ترشيد تلك المشروعات حتي نمنع المغالاة في إستخدام المياه دون مبرر لذلك , ولعله من الواضح أن بلوغ الغاية في ضبط النيل , وإتمام الإنتفاع بإيراده كاملاً وتنفيذ الأعمال التي تزيد من إيراده وتقلل الفواقد عبر مسيرته لا تكون ميسورة إلا إذا قام تعاون فني وثيق بين جميع الدول الواقعة في حوضه وهي كثيرة … ” ثم أشار سيادته في موضع آخر إلي ” إن الأفواه المُتزايدة كل عام تحتاج إلي أرض جديدة تُضاف إلي رقعتنا الزراعية لسد حاجة تلك الأعداد المُتراكمة ففي عام 2000 سيصل التعداد السكاني في مصر إلي 80 مليون نسمة , ولكي نحافظ علي المعدل الحالي لنصيب الفرد من الأرض الزراعية وهو ,17 من الفدان فإننا نحتاج علي الأقل إلي زيادة في الرقعة الزراعية قدرها 7 مليون فدان علي الأقل مما يجعل ضرورة توفير المياه اللازمة لري تلك الأراضي عملاً قومياً عملاقاً , وإذا إستطعنا تنفيذ مشروعات أعالي النيل سيكون لدينا كمية مياه قدرها 22,6 مليار متر مكعب فإذا إنتقصنا المياه المُخصصة للشرب والصناعة حتي عام 2000 والمُقدرة بحوالي 5 مليارات تقريباً لأصبح الوفر الممكن للتوسع الزراعي حوالي 17,6 مليار متر مكعب تكفي للتوسع في حوالي 5 مليون فدان إذا إستخدمنا طرق الري الحديثة والمتطورة ” . * (إتجاهات وآراء حول بناء مصر الحديثة . وزارة الخارجية . معهد الدراسات الدبلوماسية . القاهرة 1980 . صفحة 117 و118)
معني كلام د. عبد الهادي سماحة وزير الري المصري الأسبق أن الأمن المائي يتطلب عملاً سياسياً تسانده الدبلوماسية المصرية في دول حوض النيل التي يصلنا منها إيرادنا من مياه النيل وبها أيضاً الفواقد من مياه النيل التي يمكننا الإستفادة منها في زيادة مواردنا المائية , وفي الواقع فإن وزارتي الخارجية والري تعملان بدرجة ملحوظة من التنسيق وكل منهما حافظ دائماً علي الحيز الطبيعي لكل والذي يمكن في حدوده الإدلاء بتصريح ما دون الخروج عن الخطوط العامة للإستراتيجية المائية لمصر , لكن لم يخل الأمر من الخروج عن هذه القاعدة من قبل وزارات أخري في حالات قليلة منها مثلاً تصريح أدلت به السيدة فايزة أبو النجا وزيرة الدولة للتعاون الدولي أشارت فيه إلي أنه ” سيتم قريباً تنفيذ مشروع لإستصلاح 56 ألف فدان غرب النوبارية في إطار برنامج مبادلة الديون مع إيطاليا ” ولم توضح الأمر تاركة المرء يعتقد أن إيطاليا ستحصل مقابل ديونها علي 56 ألف فدان للزراعة (الأهرام 8 أغسطس 2002) , وهو تصريح لا يعني بالرغم من حسن النوايا لدي البعض إلا أن لدي مصر فائض من الأراضي الزراعة والمياه تعرضه للبيع أو المقايضة , والخطورة في هذا التصريح أنه بشكل غير مباشر نوع من أنواع بيع المياه أي موافقة مصرية وإن غير مباشرة علي مبدأ تقاومه وترفضه مصر وهو الإتجار في المياه , لذلك علينا توخي الحذر في إطلاق التصريحات الرسمية التي تتناقض مع إستراتيجية الأمن المائي لمصر , فمن الضروري أولاً إتساق السياسة المصرية المائية مع نفسها بل ومراجعتها في ضوء تطوير الموقف الإثيوبي بوضع إستراتيجية متماسكة نواجه بها تطوير إثيوبيا وربما دول أخري لمواقفهم بحيث تصل لتوازن بين مصالحنا ومصالحهم المائية وضعاً في الإعتبار أن مصر تعتمد علي مياه النيل بنسبة لا تقل عن95% لسد حاجات إستهلاك المياه .
وبناء علي ذلك وعلي ما ورد بنشرة وزارة الأشغال العامة والموارد المائية المصري في أغسطس 1999 فإن المرء يستطيع القول بأن الموقف المائي المصري مُعرض Vulnerable تماماً وبصفة كارثية فقد كانت طموحات وزارة الموارد المائية وفقاً لهذه النشرة كبيرة جداً إذ ورد بهذه النشرة ما نصه ” علي الرغم من ثبات حصة مصر من مياه النيل عند 55,5 مليار متر مكعب / عام , إلا أن الوزارة تتوقع زيادة كمية المياه المُتاحة بين عامي 1999 – 2017 , وذلك من خلال تنفيذ مشروعات أعالي النيل مثل قناة جونجلي وهي أحد المشروعات التي تسعي الدولة جاهدة لتنفيذها حيث ستوفر لمصر حوالي 2 مليار متر مكعب / عام من مياه النيل , ولكن هذه الزيادة لن تكون كافية لمواجهة الطلب المُتزايد علي المياه , لذا ستكون عمليات إعادة إستخدام المياه ذات أهمية قصوي في المستقبل” , أما عن المياه الجوفية فقد أشارت هذ ه النشرة أيضاً إلي ما نصه ” تُقدر كمية المياه الجوفية التي تستخدمها مصر حالياً بحوالي 4,8 مليار متر مكعب / عام في الوادي والدلتا بالإضافة إلي 0,57 مليار متر مكعب /عام من الأراضي الصحراوية , ويمكننا زيادة هذه الكمية مُستقبلاً بحد أقصي 11 مليار متر مكعب /عام دون تعريض المخزون الجوفي للخطر ” .
بإفتقاد التنسيق المصري / السوداني المعهود بشأن مياه النيل ومع إنفصال جنوب السودان عن شماله في 9 يوليو 201 1 لم يعد هناك كبير أمل في أن تستأنف مصر والسودان حفر الجزؤء المُتبقي من قناة جونجلي وزيادة إيرادهما من مياه النيل فقد ظل الجنوبيين في الفترة الإنتقالية المترتبة علي إتفاق السلام الشامل مع حكومة السودان الموقع في نيروبي عام 2005 متحفظين علي إستئناف مشروع قناة جونجلي , فقد أدلي السيد Joseph Dawyer وزير الري في الحكومة الإنتقالية لجنوب السودان بتصريح لجريدة الشرق الأوسط الصادرة في لندن في 6 أغسطس 2009 أشار فيه إلي ” أن تحفظاتنا (علي مشروع قناة جونجلي) يتركز في آثاره السياسية والإقتصادية والبيئية , ونحن بإستطاعتنا التغلب علي هذه المسائل بمزيد من الفهم بين الجانبين ” , مُوضحاً قوله ” إن الإتفاق بشأن مشروع القناة وُضع بمعرفة الحكومة المركزية في الخرطوم ومصر , ولم يكن لجنوب السودان كلمة بشأنه , وأن هذا المشروع كان أحد أسباب نشوب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب عام 1983 , ثم أن المشروع بحاجة إلي دراسة جدوي حديثة وأن ذلك يجب أن يتم بمعرفة وزارته ” ونفي الوزير في مابلته الصحفية أن يكون هناك ثمة وفد مصري سيأتي لزيارة موقع قناة جونجلي وذلك رداً علي تقارير تشير إلي أن وزارة الري المصرية كونت لجنة للنظر في إمكانيات إستئناف العمل بالمشروع , * (JONGLEI CANAL/Jonglei canal project needs to be revised, South Sudan says – Sudan Tribune Plural news and views on Sudan.html) , وقد حاولت مصر في إطار دبلوماسيتها المائية hydro-diplomacy التحرك صوب جنوب السودان وقت أن كانت تعد نفسها للإنفصال عن السودان بناء علي نتيجة إستفتاء لاحق لهذه الزيارة لتقرير المصري في 9 يناير 2011 إختار بموجبه شعب الجنوب الإنفصال , وكان هذا تحدياً عقد من القضية المائية لمصر أكثر فأكثر , لذا قام ثاني رئيس للوزراء لمصر ما بعد ثورة يناير 2011 د .عصام شرف بزيارة لجنوب السودان في 27 مارس 2011 إلتقي فيها مسئوليين جنوبيين وناقش معهم مسائل متعلقة بمياه النيل وفقاً للصحافة المصرية , لكن لم يكن للزيارة أثر ملموس في تحريك ملف قناة جونجلي , ومع هذا تواصل الحكومة المصرية الدبلوماسية المائية أو ما يُطلق عليه hydro-diplomacy بوتيرة أعلي خاصة بعد بدء إثيوبيا لمشروع سد النهضة والترويج بوتيرة أعلي للإتفاقية الإطارية للتعاون بين دول النيل Comprehensive Framework Agreement والتي ترفضها مصر, بسبب أنها إسقطت عمداً من نصوصها مبدأ الحق التاريخي لمصر في مياه النيل .
ربما كانت هناك ثمة مساحة للتعاون بين جنوب السودان ومصر في مجال مياه النيل خاصة وأن جنوب السودان لم يُوقع بعد الإتفاقية الإطارية للتعاون لدول حوض النيل CFA , وفي هذا الإطار توجه في 25 فبراير 2015 وفد مصري عالي المستوي لجوبا عاصمة جنوب السودان ومنها إلي واو Wau بولاية بحر الغزال لتقديم تقرير دراسة جدوي بشأن تنمية المنطقة بإقامة سد Sue في Wau وذلك أمام الحاضرين في ورشة عمل نُظمت لهذا الغرض , أملاً في المحافظة علي أمل مصري لإستئناف حفر قناة جونجلي لتوفير ما لا يقل عن 2 مليار متر مكعب / عام من مياه النيل التي تضيع سدي في سهوب مشار ومنطقة السدود .
هذ هو واقع مصر المائي وهذه هي قاعدة تحرك مصري في مسارها نحو إستغلال مورد مياه خزان الحجر النوبي …. ” قاعدة الإضطرار ” , والتي من المرجو أن تتجنب مصر نفس الخطأ الذي دأبت الأنظمة السياسية المصرية علي إقترافه وهو التأخر في إدراك الحقائق أو إدراكها علي أساس من أرقام ومعطيات بها من المبالغة أكثر مما بها من الخيال والدعاية , خاصة وأن الواقع المائي لمصر دخل بالفعل طور الأزمة , ومن بين أهم حقائق الواقع المائي لمصر بناء علي الإستراتيجية والسياسات المائية المصرية :
– أن إستخدامات المياه موزعة بنسبة 83% للزراعة و10% للصناعة و6% للمنازل والفنادق والمدارس والمستشفيات ألخ و1% إستخدامات أخري .
– أن مياه نهر النيل هي المصدر الرئيسي بشكل شبه مطلق حيث تمثل 96% من المصدر الأخري (المياه الجوفية والأمطار ضعيفة المستوي) ومعظم مياه نهر النيل بنسبة 85% تأتي من منابع النيل بإثيوبيا وشرق السودان والنسبة المتبقية من أوغندا .
– أن حصة مصر من مياه النيل ثابتة بموجب إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل الموقعة مع السودان في 8 نوفمبر 1959 , وهي الإتفاقية الثنائية الوحيدة التي مع دولة من دول الحوض التي إتجهت لتوقيع إتفاقية جماعية هي الإتفاق الإطاري للتعاون وقعتها كل من إثيوبيا / أوغندا/ الكونجوالديموقراطية / بوروندي / رواندا وتنزانيا ولم توقعها بعد السودان وجنوب السودان وتعترض عليها مصر لتمسكها بضرورة الإشارة في نصها إلي حق مصر التاريخي في مياه النيل .
– أن حصة الفرد من المياه في مصر مُعرضة لإنخفاض مستمر مع ثبات الحصة المائية مع إزدياد النسبة السنوية للسكان بمعدل 2,1 % تقريباً , ففي عام 1959 وقت توقيع مصر إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل مع السودان كان نصيب الفرد من المياه 1893 متر مكعب / عام ثم وفي عام 1996 كان عدد السكان في مصر حوالي 63 مليون نسمة وكان نصيب الفرد من المياه 936 متر مكعب /عام ومن المتوقع أن يصبح نصيب الفرد المصري عام 2025 حوالي 582 متر مكعب / عام أي أن الفرد المصري يواجه حالياً فقراً مائياً فأقل من 1000 متر مكعب من المياه في العام يعني عالمياً ذلك , فيما يبلغ نصيب الفرد من المياه في الكونجو الديموقراطية 20ألف متر مكعب / عام وفي أوغندا 2500 متر مكعب / عام وفي الضفة الغربية 140 لتر مكعب / عام . * (نشرة صادرة عن وزارة الأشغال العامة والموارد المائية في أغسطس 1999 بعنوان ” المياه وموقف مصر)
كذلك فإن تطلعات وآمال مصر المائية ذات صلة وثيقة بالأمن الغذائي والمُعرض حالياً لخطر ماحق فهذا الأمن مُعرض حالياً مع زيادة أسعار المنتجات الغذائية نظراً اتناقص دعم الدولة للطاقة وإرتفاع المنتجات الغذائية المُستوردة نتيجة قرار تعويم الجنيه المصري الذي مازالت أمواجه السلبية تعلو , والتطلعات المائية المصرية تعبر عنها أحداث مختلفة من بينها :
– ما إستعرضه الرئيس مبارك في إجتماع وزاري موسع في 7 يوليو 2002 تناول إستراتيجية الزراعة والسياسات المائية حتي عام 2017 , فبالنسبة لخطة الزراعة فقد تضمنت خطوطها العامة زيادة معدل النمو السنوي للإنتاج الزراعي ليصل إلي 3,8% خلال سنوات الخطة الخمسية المقبلة وإعطاء أولوية للمحاصيل التصديرية ومشروعات التمليك للشباب وتحقيق الإكتفاء الذاتي من اللحوم , فيما الخطوط العامة لخطة وزارة الوارد المائية تتضمن إقامة 9 مشروعات جديدة في نجع حمادي وإسنا وأسيوط وأسوان ومفيض توشكي وغرب الدلتا . (الأهرام بتاريخ 8 يوليو 2002) , وتناول رئيس الجمهورية في هذا الإجتماع الهام نقاط عدة متعلقة بالسياسات الزراعية والري من أهمها وفقاً لما أشار إليه السيد صفوت الشريف وزير الإعلام “أن الإجتماع ربط أهداف خطة التوسع الزراعي حتي عام 2017 التي تهدف إستصلاح وزراعة 3,5 مليون فدان , وأن يتم الربط بين الهدف ومراحله والإستثمارات الخاصة بالموارد المائية من خلال برنامجين تنفيذيين , الأول تمويلي بالنسبة للموارد المائية التي تتمثل في البنية الأساسية التي تتحملها الدولة , والثاني مائي من خلال القدرة علي توفير المياه اللازمة في إطار الحصة المُقررة لمصر ومن خلال المياه الجوفية ” , كما أشار إلي أن رئيس الجمهورية طلب وضع خطة عمل تحقق التحول في الوادي من ري الغمر إلي ري التنقيط بالنسبة لمحاصيل الفواكه (؟) حتي يمكن تحقيق وفرة في المياه تستخدم في زراعة الأراضي الجديدة الواردة في الخطة وإيلاء أولوية لذلك , كما طلب الرئيس من الحكومة أن تعمل جاهدة علي تشجيع الإستثمار المصري والعربي والأجنبي في إطار خطة التوسع الزراعي وخريطة المناطق الجديدة لاسيما الإستثمارات في المشروعات الكبري مثل توشكي , وتنفيذ مشروعات رفع كفاءة الري في جميع المحافظات وتحديد مواعيد الإنتهاء من مشروعات إنشاء القناطر الجديدة علي النيل بالنسبة لنجع حمادي وإسنا ومفيض توشكي والإهتمام بتطوير مجري النيل ومن بين مظاهر الإهتمام المصري بمجري النهر مشروع مُشترك مع السودان يموله الـ UNESCO لمواجهة ظاهرة الهدام أو الـ Encroachment أي تحرك الكثبان الرملية نحو ضفة النهر وتضييقه وهي مشكلة خطيرة تواجه تدفق مياه النيل في مجراه يُوكان من المُقرر تنفيذ هذا المشروع في مدي 3 سنوات ينتهي في سبتمبر 2001 .
– عرض د. يوسف والي وزير الزراعة في نفس هذا الإجتماع خطة وزارته القائمة علي 4 محاور هي : زيادة إنتاج الحبوب من 8 إلي 14,5 مليون طن وتحقيق الإكتفاء الذاتي من اللحوم البيضاء والدواجن والبيض وزيادة إنتاج وتصدير الحاصلات عالية القيمة واستخدام حصيلتها في إستيراد إحتياجاتنا من المحاصيل الأرخص ثمناً (؟) وأخيراً زيادة إنتاج الخضر والفواكه بمعدلات عالية , وأوضح د والي أنه لتحقيق هذه المحاور الإستراتيجية لابد من التحرك علي 3 محاور هي : تحرير إقتصاديات الزراعة المصرية ( أشار في هذا الصدد إلي أنه تم إلغاء التوريد الإجباري لـ 11 محصول وإنهاء ما ترتب علي ذلك من قضايا وغرامات) وإصدار التشريعات التي تنظم قطاع الزراعة بما يوفر له الإستقرار والإنطلاق ويحمي الأراضي الزراعية من جميع صور الإعتداء وتحديث الزراعة من خلال إستخدام أحدث الوسائل والإستثمار الأمثل للبحوث الدولية والوطنية للوصول إلي اعلي غلة للفدان وتحسين مستوي المنتج الزراعي , وفي نهاية عرضه لرئيس الجمهورية أشار د والي إلي أن من بين أهم ملامح أستراتيجية الزراعة حتي 2017 تحقيق 7 أهداف منها رفع معدل النمو السنوي للإنتاج الزراعي من3,4 % إلي 3,8 % خلال سني الخطة الخمسة ثم إلي 3,9% بعدها , كما تستهدف الوزارة إستصلاح وإستزراع 3,5 مليون فدان جديدة ودخول مصر في عصر المشروعات الزراعية العملاقة في توشكي ودرب الأربعين وشرق العوينات وترعة السلام , وترشيد إستخدام مياه الري وتحويل الري في الحدائق من الري السطحي إلي الري بالتنقيط , وزيادة قيمة الصادرات الزراعية من 2 إلي 5 مليارات جنيه سنوياً , وأشار أخيراً إلي أن أن مساحات التوسع الأفقي حتي عام 2017 تبلغ 3,5 مليون فدان موزعة جغرافياً منها 230 ألف فدان في شرق العوينات تعتمد علي الري بالمياه الجوفية من خلال 355 بئر .
– طرح د. محمود أبو زيد وزير الموارد المائية علي رئيس الجمهورية في هذا الإجتماع أيضاً نتيجة الدراسات المتعلقة بحصر الموارد المائية الحالية والمستقبلية حتي عام 2017 وخطوطها العامة تشير إلي أن مياه النيل المتاحة لمصر تبلغ 55,5 مليار متر مكعب / عام والمستهدف الوصول بها إلي أن تكون 57,5 مليار متر مكعب / عام , فيما تبلغ كمية مياه الأمطار والسيول مليار متر مكعب / عام والمياه الجوفية بالوادي والدلتا حالياً 6,5 مليار متر مكعب / عام والمستهدف أن تصل إلي 8 مليارات متر مكعب / عام , أما مياه الصرف الزراعي بالوجه البحري فتبلغ 5 مليارا متر مكعب / عام يُستهدف أن تصل إلي 7 مليارات متر مكعب / عام , أما مياه الصررف الصحي المُعالجة فالمُستخدم منها حالياً ,7 مليار متر مكعب / عام ويستهدف أن تصل إلي 2 مليار متر مكعب / عام , كما أنه وفيما يتعلق بالتوسع في إستخدامات المياه الجوفية المالحة بعد معالجتها فإن المستهدف من وراء ذلك توفير 11 مليار متر مكعب والتوسع في المياه الجوفية العميقة للوصل إلي الإستفادة من 4,5 مليارات متر مكعب , وأشار د . محمود أبو زيد في عرضه بإقتضاب شديد إلي أن من أهداف وزارته المشروعات المُشتركة مع دول حوض النيل دون بيان عن ماهية أو كنه هذه المشروعات , وربما قصد الوزير مشروع تنمية منابع حوض نهر النيل وهو أحد المشروعات التي كانت مُدرجة بالخطة الإستثمارية وهو الوحيد في إطار التعاون المصري مع دول حوض النيل , وقد أشار إليه تقرير لجنة الموارد المائية والري بمجلس الشعب وتعتبره الوزارة أهم المحاور الرئيسية للتعاون مع دول حوض النيل وإقامة مشروعات مُشتركة جديدة معها وقد أقترحت وزارة الموارد المائية والري 54,55 مليون جنيه لتنفيذ هذا المشروع فيما أقترحت وزارة التنمية الإقتصادية رصد 30 مليون جنيه أي أن هناك عجز تمويلي قدره 24,55 مليون جنيه . (مضبطة مجلس الشعب المصري .الجلسة التاسعة بعد المائة للفصل التشريعي التاسع بدور الإنعقاد العادي االثالث . بتاريخ 2 يونيو 2008 )
إتصالاً بذلك فقد شُكلت اللجنة العليا لمشروع إعداد الخطة القومية للموارد المائية حتي عام 2017 , وقد إستعرضت هذه اللجنة مشروع هذه الخطة وما تم تنفيذه منذ إنشاء اللجنة عام 1998 وكذا مراحل تجميع البيانات الخاصة بالموارد المائية الحالية والإحتياجات المطلوبة ومستخدمي المياه تمهيداً لإعداد قاعدة بيانات شاملة في إطار التخطيط لتنفيذ السياسة الخاصة بالإدارة المُتكاملة للمياه , وتعقد هذه اللجنة أربعة إجتماعات سنوياً برئاسة وزير الموارد المائية ويشارك فيها مسئوليين عن وزارة الزراعة والبيئة والصحة وهيئة النقل النهري , وصرح الدكتور / محمد بهاء الدين أحمد رئيس قطاع التخطيط بوزارة الموارد المائية ومقرر عام المشروع ” أن الخطة القومية تشمل إضافة موارد مائية جديدة بخلاف نهر النيل الذي يُعد المورد الرئيسي للمياه في مصر وتشمل هذه الموارد الجديدة التوسع في إستخدامات المياه الجوفية العميقة والإستخدام المُشترك بين هذه المياه والمياه السطحية بين المياه الجوفية المُتجددة وإعادة إستخدام مياه الصرفين الزراعي والصحي بعد المعالجة ” . ( الأهرام 29 يناير 2002)
من بين الحقائق السلبية والتي قد تؤثر سلباً علي إتجاه مصر نحو مسار إستغلال مياه خزان الحجر الرملي النوبي أن قطاع الري في مصر تُرصد له ميزانية تعتبر محدودة إن قيست بما يُرصد لوزارتي الدفاع والداخلية والأسباب معروفة لكنها لا تصلح لأن تكون مُبرراً , فقطاعي الزراعة والري كان نصيبهما في موازنة الدولة للعام 2003/2004 , من إجمالي الإنفاق العام مبلغ 6888,7 مليار جنيه بما يمثل نسبة 4,2 % من مجمل الإنفاق العام وفيما كانت نسبة قطاع الزراعة وإستصلاح الأراضي 1,7 % من مجمل الإنفاق العام كانت نسبة قطاع الموارد المائية والري 2,3% من مجمل الإنفاق العام , وهي نسبة أقل من نسبة الخدمات الرئاسية التي بلغت 2,7 % من إجمالي الإنفاق العام , فيما بلغت نسبة الإنفاق علي الدفاع والأمن والعدالة ( ويُلاحظ الدمج بين ثلاث عناصر ) 12,5 % من إجمالي الإنفاق العام . (مجلس الشعب . مضبطة الجلسة التاسعة والأربعين للفصل التشريعي التاسع بدور الإنعقاد العادي الأول . بتاريخ 2 أبريل 2006)
أشار الجدول (12) المُرفق بتقرير لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب المُشار إليه والمُتعلق بأهم الإنجازات العينية للإستثمارات بالحكومة والهيئات الإقتصادية في عام 2003/2004 إلي أنها كانت كالتالي في مجال الموارد المائية والري :
- إستكمال أعمال الحفر والتبطين لترعة الشيخ زويد بجنوب الوادي .
- تنفيذ 141 ألف فدان صرف عام و110 ألف فدان صرف مُغطي وتجديد شبكات زمام 90 ألف فدان .
- إستكمال أعمال تطوير الري في 42,2 ألف فدان .
- إستكمال أعمال ترعة الشيخ جابر ( البنية القومية لتنمية شمال سيناء) .
- إستكمال الأعمال المُنفذة في قناطر نجع حمادي بقنا .
- تغطية 36 كم ترع و 20 كم مصارف داخل الكتلة .
ويُلاحظ أن ما يتعلق بإستخدامات المياه الجوفية بمصر لا يبدو أنه لم ينل إهتماماً يُذكر , ولذلك فإن الواقع الحقيقي للزراعة في محافظتي مرسي مطروح والوادي الجديد الواقع تحت أراضيهما الجزء المصري من خزان الحجر الرملي النوبي يثبت أن الإعلان عن مشروع زراعة مليون ونصف المليون فدان بهاتين المحافظتين أمر يقع بين التضليل والمبالغة الفجة التي يحسن تجنبها حتي يمكن تحقيق إستغلال رشيد آمن لخزان الحجر النوبي , ففي محافظة الوادي الجديد التي تمثل نحو 36,6% من مساحة مصر يبلغ إجمالي مساحة الأراضي المزروعة الجديدة 91,8 ألف فدان أما إجمالي المساحة المحصولية فيبلغ 112,27 ألف فدان أما التي تبلغ مساحتها 166563 كم مربع فإجمالي مساحة الأراضي المزروعة الجديدة يبلغ 180,4 ألف فدان , فيما يبلغ إجمالي المساحة المحصولية 320,2 ألف فدان . * ( وصف مصر بالمعلومات . جمهورية مصر العربية . مجلس الوزراء .مركز المعلومات ودعم إتخاذ القرار . الإصدار الخامس مارس 2002)
دفع التوسع في إستخدامات المياه للوفاء بإحتياجات الزراعة والصناعى والشرب مع النمو السكاني , الخبراء المصريين لمواجهة تناقص الموارد المائية النيلية أمام هذه الإحتياجات إلي إقتراح إعادة إستخدام مياه الصرف بكمية تصل إلي حوالي 7,5 مليار متر مكعب / عام من مجموع 14 مليار متر مكعب تُفقد سنوياً في البحر , كذلك التوسع في إستخدام المياه الجوفية ليصل المُستخدم منها إلي نحو 5 مليار متر مكعب / عام دون أن يحث تداخل لمياه البحر إلي الدلتا , علماً بأنه إذا لم تُستخدم هذه المياه الجوفية فسوف تجد طريقها نحو البحر . * ( د. مصطفي الجبلي وزير الزراعة الأسبق . محاضرة بعنوان ” مصر …. والنيل بكتاب أزمة مياه النيل . دار الثقافة الحديثة . صفحة 37)
يُضاف إلي الحقائق المُشار إليها ويتصل بمورد المياه الجوفية بخزان الحجر النوبي أن ليبيا تعد أسبق دول الهيئة الأربع التي قامت بالسحب والإستغلال الكمي لمياه خزان الحجر الرملي النوبي عن طريق إقامتها لما سُمي بالنهر الصناعي العظيم الذي تكلفت مراحل تغطيته للأراضي الليبية وخاصة المدن الساحلية حيث يتركز 80% من سكان ليبيا حوالي 25 مليار دولار (علي الأقل فهناك أرقام أعلي من ذلك) وذلك من خلال شبكة أنابيب مجموع أطوالها حوالي 4000 كم تنقل مليوني متر مكعب مياه / يومياً وفقاً لبعض المصادر لأغراض الشرب ولري حوالي 10,000 متر مربع أو 180ألف هكتار من الأراضي الليبية فقط , أما مصر فتتوزع بها خزانات المياه الجوفية المتجددة بين وادى النيل واقليم الدلتاعلي النحو الآتي :
– وادي النيل والدلتا : وتشمل المنطقة الواقعة ما بين دخول نهر النيل إلى مصر والبحر المتوسط بما في ذلك منخفض الفيوم وبحيرة ناصر .
– الصحراء الغربية : وتشمل المنطقة المحصورة بين نهر النيل شرقاً والحدود الليبية غرباً والحدود المصرية السودانية جنوباً والبحر المتوسط شمالاً .
– الصحراء الشرقية : وهي المنطقة المحصورة بين وادي النيل بالوجه القبلي والبحر الأحمر .
– شبه جزيرة سيناء : تعتمد المنطقة الأولى أساساً على المياه النيلية التقليدية والتي تقوم عليها معظم أنشطة التنمية من شرب وزراعة وصناعة إلى جانب استخدامها لمصادر المياه الأخرى غير التقليدية كمياه الصرف الزراعي في شبكات المصارف أو المياه الجوفية التي المخزونة بمستودع التكوينات الرسوبية نتيجة تسرب الفائض من مياه الري النيلية،ومياه الصرف الصحي المعالجة بالإضافة إلى مياه الأمطار في الجزء الشمالي من الدلتا , وتعتمد باقي مناطق مصر أساساً على مصادر المياه الجوفية غير المتجددة بالإضافة إلى الأمطار المتساقطة على المناطق الساحلية .
تعتبر تلك المياه جزءآ من موارد مياه النيل ويُقدر ما يتم سحبه من مياه تلك الخزانات نحو 6.5 مليار م3 وذلك منذ عام 2006 , ويعتبر ذلك – حتي الآن – في حدود السحب الآمن والذى يبلغ أقصاه نحو 7.5 مليار م3 حسب تقديرات معهد بحوث المياه الجوفية , كما يتميز بنوعية جيدة من المياه تصل ملوحتها إلى نحو 300-800 جزء في المليون في مناطق جنوب الدلتا ولا يسمح باستنزاف مياه تلك الخزانات إلا عند حدوث جفاف لفترة زمنية طويلة ، لذلك تعتبر هذه المياه ذات قيمة استراتيجية هامـة , ومن المقدر أن يقترب السحب من هذه الخزانات إلى نحو 7,5 مليار م3 بعد عام 2017 , أما خزانات المياه الجوفية غير المتجددة فتمتد تحت الصحراء الشرقية والغربية وشبه جزيرة سيناء , وأهمها خزان الحجر الرملى النوبى في الصحراء الغربية الذى يقدر مخزونه من وجهة نظر بعض المصادر بنحو 40 ألف مليار م3 ، ويمتد في أقليم شمال شرق إفريقيا ويشمل أراضى مصر والسودان وليبيا وتشاد ، ويعتبر هذا الخزان من أهم مصادر المياه الجوفية العذبة غير المتاحة في مصر للإستخدام نظراً لتوافر تلك المياه على أعماق كبيرة مما يسبب أرتفاعاً في تكاليف الرفع والضخ , وهو ما لا يعيره بعض الخبراء إهتماماً عند تقييمهم المُتفاءل لإمكانيات الإستغلال.
إن ما تم سحبه في مصر من المياه الجوفية من تلك المياه يبلغ نحو 0.6 مليار م3 / عام , وهي كمية تكفى فقط لرى نحو 150 ألف فدان بمنطقة العوينات وليس مليون ونصف المليون فدان كما تروج الآلة الدعائية الرسمية في مصر للأسف , والمبالغة المصرية في هذا الرقم ولو أن المقصود بها مداعبة خيال قطاع من اشعب المصري , إلا أن مردودها الخارجي أي لدي الدول الثلاث الأخري أعضاء هيئة دراسة وتنمية خزان الحجر النوبي سلبي , إذ أنه رقم سيثير حفيظة هذه الدول بسبب الإستخدام الكبير المُتوقع لمصر لهذا الخزان وبما قد يتجاوز إمكانيات الخزان أو علي الأقل أنصبة هذه الدول من مياهه , كما أن هذا الرقم إن كان واقعياً فسوف يسحب قدراً كبيراً من مياه الخزان في وقت قياسي وهو خطأ مُتكرر ترتكبه الإدارة المصرية , وبالتالي فمن المتوقع تجاوز السحب المصري من الخزان لمعدل السحب السنوى والذي يُقدر بنحو 2.5 إلي3 مليار م3 / عام كحد سحب آمن وأقتصادى , وبصفة عامة فإن الأمر والحالة هذه يُوجب تفادى الأثار الناتجة عن الإنخفاض المتوقع في منسوب الخزان الجوفى ، وذلك بالتحول من نظام زراعة المساحات الشاسعة إلى نظام المزارع المحددة بمساحات متفرقة (2000 – 5000فدان) وذلك للحفاظ على الخزانات الجوفية لفترات طويلة .
نتيجة :
مسار مصر نحو خزان الحجر الرملي النوبي تكتنفه صعوبات لكنه يظل مصدراً مائياً ثانوياً لابد وأن تتجه إليه مصر في مسار أزمة أوسع مدي هي أزمة موردها المائي من مياه النيل الذي تعتمد عليه مصر في كافة إستخداماتها بنسبة 96% , وهو مصدر جوفي وفقاً – لآراء علمية كثيرة – غير مُتجدد أو مُتجدد ببطء شديد تكون علي مدي آلاف السنين , ويمكن في تقديري والحالة هذه أن تعتمد عليه مصر في إقامة مستوطنات زراعيةمُزعة بواسطة خبراء , وليس في زراعة مليون ونصف مليون فدان , بحيث تستوعب هذه المستوطنات عمالة عادية وأخري مُؤهلة (خريجي كليات الزراعة المصرية) بأعداد لا تخرج عن المعيار الطبيعي في إستخدام آمن لهذا الخزان , مع تجنب الإتجاه الدعائي الأسود الذي يتبناه الإعلام المصري لإقناع الجمهور المصري بأن الخزان هو الحل لأزمة مصر مع إثيوبيا بسبب سد النهضة الذي يهدد حصة مصر الثابتة من مياه النيل , كما أنه لا يجب علي مصر أن تنتظر حتي يمكنها التوقيع علي معاهدة رباعية مع الدول الثلاث الأخري الأعضاء بالهيئة المُشتركة لدراسة وتنمية الخزان , فهذه الدول للأسباب المُتقدم الإشارة إليها ليست بالمستعدة أو القادرة علي توقيع معاهدة تنظم تنمية وإستغلال المورد المائي لهذا الخزان , ولهذا فعلي مصر الإتجاه في مسارها نحو ذلك إلي التوسع في إقامة مستوطنات زراعية , كما أن هذه المعاهدة ربما كانت تكراراً لسيناريو الإتفاق الإطاري للتعاون أو إتفاقية عنتيبي التي دفعت بها إثيوبيا لجمع دول حوض النيل بعيداً عن مصر التي رفضت توقيعه لإنكاره علي مصر حقوقها التاريخية في مياه النيل , وبالتالي فسوف تكون هذه المعاهدة دائرة جديدة لإسقاط الخلافات السياسية بين الدول الأربع أعضاء هذه الهيئة , يُضاف إلي ذلك فإن مشروع زراعة مليون ونصف المليون فدان علي مياه هذا الخزان أمر محفوف بالمخاطر لأنه مياهه غير مُتجددة ولإن مصر التي يثقلها دين خارجي يربو علي 70 مليار دولار لا يمكنها إيجاد تمويل خارجي لأن المشروع من الوجهة الفنية والإقتصادية غير ممكن أو علي الأقل غير مجد , وأخيراً فليس علي مصر حتي تدافع عن حقها التاريخي في مياه النيل إلا أن تسترد إرادتها السياسية وتستعيد وحدة جبهتها الداخلية المُنقسمة علي نفسها توطئة لإستخدام آخر سلاح يكون في يدها القوية حال إستردادها لروحها الحقيقية … هذا السلاح هو القوة …. القوة المُجردة فلم تعد المفاوضات مجدية , وفي هذا يقول أبي الطيب المُتنبي :
وَأَن تَرِدَ الماءَ الَّذي شَطرُهُ دَمٌ — فَتُسقى إِذا لَم يُسقَ مَن لَم يُزاحِمِ
والمعني أنه من الحلم أن تُزاحم من يُزاحمك حتى ترد الماء وقد كثر عليه القتل والقتال حتى صار نصفه من دم القتلى ، فتشرب منه حيث لا يمكن أن يشرب إلا الهجوم الذي يزاحم الناس .
- خاص – المركز الديمقراطي العربي – القاهرة تحريراً في 2 يناير 2018