عاجل

غضب الطبيعة

بقلم : الدكتور عادل عامر
أن هذه التهديدات سوف تتفاقم وتشتد لا محالة خلال الأعوام القادمة، حيث سيصبح كوكبنا أكثر اكتظاظاً بالسكان وأشد عرضة للتغيرات الناجمة عن أفعال الإنسان. ولكن مما يبشر بالخير أننا أصبحنا نمتلك السبل العلمية والتكنولوجية اللازمة للتعامل مع هذه المخاطر علي نحو أفضل من أي وقت مضي. ونستطيع الآن أن نبني مستقبلاً أكثر أماناً، لكن هذا لن يتسنى لنا إلا إذا كنا مستعدين لاستخدام معارفنا وخبراتنا العلمية لما فيه صالح البشر أجمعين.
في الأغلب الأعم يبرز أهل السياسية كخبراء في الفوز بالأصوات أو تأسيس الأحلاف، لكنهم يفتقرون إلي القدرة علي فهم وإدراك العمليات الضمنية المرتبطة بالمناخ، والطاقة، والأمراض، وإنتاج الغذاء، والتي تؤثر علي كافة سكان كوكب الأرض. وحتى المجموعات المختلفة من العلماء في مجالات الصحة العامة، والمناخ، وعلم الزلازل وتخصصات أخري تفتقر إلي التواصل علي النحو الملائم فيما بينها، علي الرغم من أن التهديدات التي تواجه كوكب الأرض اليوم تفوق قدرات العديد من فروع العلم إذا ما تعاملت كل منها مع هذه التهديدات علي نحو منفرد.
لابد من تقليص هذه الفجوات المتسعة بين أهل السياسة والعلماء، وبين العلماء أنفسهم حتى يتسنى لنا أن نتغلب علي المخاطر التي نواجهها. ولقد ظلت الطبيعة تذكرنا طيلة هذا العام بما ينتظر العالم من تهديدات.
كان النمو السكاني الضخم سبباً في تعريض أعداد كبيرة من الناس لأنواع جديدة من المخاطر الشديدة. فقد بلغ تعداد البشر الآن 6.5 مليار نسمة علي كوكب الأرض، بعد أن كان تعدادهم حوالي أربعة مليارات منذ ما يزيد علي الخمسين عاماً. ومن المتوقع طبقاً لتقارير الأمم المتحدة أن يرتفع تعداد البشر إلي حوالي 9.1 مليار نسمة بحلول عام 2050 في ظل الاتجاهات الحالية للنمو السكاني. ليس هناك ما يربط بين كل هذه الأحداث بشكل واضح، ولقد ظل الإنسان عُرضة لمخاطر الطبيعة منذ بداية الحياة البشرية علي الأرض. ولكن هناك بعض المظاهر المشتركة بين هذه الأحداث وهي بمثابة الإنذار لنا جميعاً:
فنحن لسنا مستعدين أو مجهزين للتعامل مع هذه الصدمات الهائلة التي سنشهد المزيد منها لا محالة. ومع ارتفاع معدلات الزيادة السكانية، يحتشد المليارات من البشر في المناطق المعرضة للخطر علي الأرض بالقرب من المناطق الساحلية التي تضربها العواصف ويؤدي ارتفاع مستوي سطح البحر إلي تآكلها، وعلي جوانب الجبال والمنحدرات الجبلية المعرضة للانهيارات والسيول الطينية والهزات الأرضية، أو في مناطق حيث يندر الماء ويتعاظم بلاء القحط والمجاعات والمرض. وبطبيعة الحال يتم دفع أكثر التجمعات السكانية فقراً نحو أشد المناطق عرضة للمخاطر حيث يعيشون ويعملون وحيث يهلكون أيضاً حين تتنزل الكوارث والنكبات الطبيعية. فالطبيعة إنما هي مخلوق من مخلوقات الله ليس لها إرادة ولا اختيار، بل تأتمر بأمره وتخضع لتدبيره وتقديره، قال الله تعالى في السماوات والأرض مبيناً خضوعهما لأمره وتقديره: ثُمَّ استوي إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. {11}، فلا تصح نسبة الغضب أو أثره إلى الطبيعة ولو كان القائل يقول ذلك على سبيل المجاز، لما فيه من احتمال المعنى الكفري الذي يعتقده الشيوعيون الكفار من أن الطبيعة لها تصرف في الكون، وعموماً فإن الشارع الحكيم ينهي عن المقولات التي توهم معنى فاسداً، ومن ذلك نهيه للمؤمنين عن أن يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم كلمة (راعنا) وإن كانوا لا يقصدون معنى فاسداً، إلا أنه لما كان اليهود يقولونها على سبيل السب للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام نهى الله عباده عن ذلك، دفعاً للبس والإيهام، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية:
لا يجوز أن يقال ولا أن يكتب (لا زال في عالمنا بعض هبات الطبيعة)، ولو ادعى في ذلك أنه مجاز، لأن فيه تلبيساً على الناس، وإيناسا للقلوب بما عليه أهل الإلحاد، إذ لا يزال كثير من الكفرة ينكر الرب، ويسند إحداث الخير والشر إلى غير الله حقيقة، فينبغي للمسلم أن يصون لسانه وقلمه عن مثل هذه العبارات، صيانة لنفسه عن مشاركة أهل الإلحاد في شعارهم ومظاهرهم، وبعداً عما يلهجون به في حديثهم حتى يكون طاهراً من شوائب الشرك في سيرته الظاهرة وعقيدته الباطنة، ويجب عليه قبول النصيحة وألا يتحمل لتصحيح خطئه، وينتحل الأعذار لتبرير موقفه، فالحق أحق أن يتبع، وقد قال الأول: إياك وما يعتذر منه.
والحقيقة أن العديد من المخاطر الرئيسية في ازدياد من حيث معدلات تكرارها أو شدتها. والتغير الذي يشهده مناخ الأرض مسئول بصورة جزئية عن هذا التزايد. فإن ازدياد عدد الأعاصير وتعاظم شدتها يرجع علي الأرجح إلي ارتفاع درجات حرارة سطح البحر نتيجة لظاهرة الاحتباس الحراري لجو الأرض الناجمة عن أفعال يأتي بها البشر.
ومن المنتظر أن تزداد حرارة الأرض ارتفاعاً خلال العقود القادمة، بحيث يؤدي ذلك إلي حرائق أكثر عدداً وأضخم هولاً، وانهيارات أرضية وسيول طينية، وموجات حارة، وجفاف، وأعاصير عاتية. فضلاً عن ذلك فقد أصبحنا نشهد الآن نشوء وانتشار أمراض معدية جديدة، مثل الإيدز، ومرض سارس، وأنفلونزا الطيور. ومع اكتظاظ مناطق جديدة من الكوكب بأعداد كبيرة من السكان واتصالهم ببيئات حيوانية جديدة، فقد أصبحت أنواع جديدة من الأمراض المعدية تنتقل من الحيوانات إلي البشر. وهذا هو ما حدث مع أمراض مثل الإيدز وأنفلونزا الطيور. ومن المرجح نشوء المزيد من الأمراض المعدية أو تفاقم حدة الأمراض القائمة بالفعل (كما حدث مع حمي “أبو الركب” في آسيا هذا العام)، نتيجة للتغيرات التي يشهدها المناخ والتفاعل المتزايد بين مواطن البشر والحيوانات.
هناك عنصر آخر مشترك بين كل هذه الكوارث، ألا وهو افتقارنا التام إلي الاستعداد بالتدابير والاحتياطات اللازمة، وبصورة خاصة فيما يتصل بمساعدة أكثر أفراد مجتمعاتنا فقراً. فبعد أن ضرب إعصار كاترينا الولايات المتحدة، تبين لنا أن الرئيس بوش كان قد عين واحداً من رفاقه الحميمين كرئيس لوكالة إغاثة الطوارئ الأمريكية بدلاً من الاستعانة بأحد المحترفين الخبراء في هذا المجال. كما اكتشفنا أن المعدات والفرق المؤهلة للتعامل مع مثل هذه الكوارث كانت في العراق علي الجانب الآخر من كوكب الأرض.
وعلي نحو مماثل، كانت باكستان غير مجهزة بالمرة للتعامل مع الزلزال الأخير. ويرجع جزء من الأسباب وراء رداءة الاستعداد إلي هذا الحد إلي أن باكستان، مثلها كمثل الولايات المتحدة، تبالغ في الإنفاق علي آلتها العسكرية وتهمل في الإنفاق علي الصحة العامة والاستعداد للطوارئ. هذا فضلاً عن افتقار هيئات الإغاثة الدولية بشدة إلي التمويل والموارد. يتعين علي الحكومات أن تتخذ بعض الخطوات الأساسية.
فينبغي عليها أولاً أن تجري تقييماً دقيقاً للمخاطر المحددة التي تواجهها بلدانها، بما في ذلك المخاطر الناجمة عن الأوبئة، وتغير المناخ، والظواهر الجوية العاتية، والزلازل. والنجاح في إعداد مثل هذا التقييم يتطلب إنشاء وصيانة نظام رفيع المستوي يعتمد علي المشورة العلمية عالية الجودة. وعلي سبيل المثال، يستطيع بوش أن يعمل علي تحسين الحالة الأمنية في الولايات المتحدة والعالم أجمع إلي حد كبير إذا ما بدأ في الإنصات إلي كبار العلماء وكف عن الانتباه إلي جماعات الضغط السياسي بشأن المخاطر المتنامية الناجمة عن تغير المناخ بسبب أفعال الإنسان.
هناك هيئة متنامية من الخبرات القادرة علي المساعدة في تنفيذ هذه المهمة. فقد انتهي مؤخراً “معهد الأرض” في كولومبيا، والذي أتولي إدارته، من الانتهاء من إعداد تقييم عالمي للعديد من أنواع الكوارث الطبيعية، مثل الجفاف، والزلازل، والفيضانات، وذلك بالاشتراك مع البنك الدولي. وباستخدام طرق حديثة متطورة في جمع البيانات الإحصائية ورسم الخرائط، تمكن الخبراء هناك من تحديد النظام الذي يحكم حدوث هذه التهديدات المتنوعة في كافة أنحاء العالم. وهناك العديد من الزملاء في معهد الأرض ومعاهد بحثية أخري مشابهة يتولون إعداد تقديرات دقيقة لكيفية نشوء وتطور مثل هذه المخاطر في ضوء التغير الذي يطرأ علي مناخ كوكب الأرض، والتغيرات الحادثة في الاتجاهات السكانية والأنماط التي تحكم ترحال واستقرار البشر علي مستوي العالم.
لكن زعماء السياسة لا يستغلون هذا النوع من البيانات العلمية علي النحو الملائم، ويرجع هذا بصورة أساسية إلي الانقسامات العميقة المستديمة بين المجتمع العلمي وأهل السياسة وعامة الناس. فالواقع أن عامة الناس غير مدركين إلي حد كبير للمعارف العلمية التي تجمعت لدينا بشأن التهديدات والمخاطر التي يواجهها البشر، كما يجهلون أننا نستطيع تقليص هذه المخاطر من خلال التفكير فيما ينبغي القيام به قبل وقوع الكارثة.
كاتب المقال
دكتور في الحقوق وخبيرالقانون العام مستشار تحكيم دولي وخبير في جرائم امن المعلومات ومستشار الهيئة العليا للشئون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الازهر والصوفية

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى