القضية الفلسطينية ومستقبل الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط

اعداد : محمد عوده الأغا – باحث في الشأن الإقليمي
- المركز الديمقراطي العربي
يعيش الشرق الأوسط تقلباتٍ جيوسياسية معقدة ومتشابكة، حيث تشهد المنطقة العديد من الأزمات السياسية والأمنية، هذه التقلبات تجعل الوضع الإقليمي في حالة دائمة من التغير نتيجة للصراعات الداخلية والخارجية، والتنافس على الموارد، والتدخلات الدولية، مما جعل مستقبل المنطقة يعتمد بشكل كبير على مصير التسويات السياسية، وطبيعة الترتيبات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى قدرة التكتلات العربية والقومية على لعب دور فعّال في الساحة الإقليمية.
لذا فالشرق الأوسط مثقل بالأزماتِ التي تضاعفت اليوم حيث تُعَدُّ الأزمات السياسية من أكبر التحديات التي تواجه المنطقة، إذ تعاني العديد من الدول انقسامات داخلية وصراعات مسلحة، وثورات واضطرابات سياسية، هذه الأوضاع زادت من التدخلات الخارجية، ما جعل حل الأزمات أكثر تعقيداً وأدى إلى انتشار الفوضى وغياب الاستقرار.
ونتيجة للصراعات المستمرة، شهدت دول المنطقة تراجعاً اقتصادياً حاداً، حيث دُمرت البنية التحتية للعديد من الدول، وانخفضت معدلات الاستثمار والتنمية، كما لم تقتصر آثار الأزمات في الشرق الأوسط على الجانب السياسي أو الاقتصادي فقط، بل طالت الجوانب الاجتماعية والإنسانية، حيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة وتدهورت أنظمة التعليم والصحة، كما أدت النزاعات المسلحة إلى تفكك النسيج الاجتماعي وزيادة الفجوة بين مختلف الطوائف والمكونات العرقية والدينية، ما زاد من حدة التوترات الداخلية.
وعلى الرغم من الجهود الدولية الرامية إلى احتواء الأزمات في الشرق الأوسط، إلا أن التدخلات الخارجية في كثير من الأحيان ساهمت في تعقيد الوضع بدلاً من حله، ولا تزال هناك حاجة إلى مبادرات أكثر شمولاً ترتكز على الحوار والتعاون الإقليمي والدولي، مع التركيز على دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية كجزء من الحلول المستدامة.
الحرب على غزة والفوضى الإقليمية:
يعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ في السابع من أكتوبر من العام 2023 واستمر خمسة عشر شهراً، إثر عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- أحد الأحداث الأكثر تأثيراً على الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط.
خلق العدوان “الإسرائيلي” حالة من الفوضى في المنطقة بل إن ارتداداته تجاوزت الإقليم ووصلت إلى نطاقات جغرافية أكثر اتساعاً. وعلى صعيد منطقة الشرق الأوسط وصلت تداعياته إلى اعتداء كيان الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، وأصبحت هناك نوع من المواجهة بين كيان الاحتلال والحوثيين في اليمن بعد دخولهم على ساحة الأحداث واستهدافهم الكيان وتأثيرهم على الملاحة البحرية الدولية -الى حد كبير- في البحر الأحمر، وظهور حالة من المواجهة المباشرة بين “إسرائيل“ وإيران، وهي التداعيات التي أكدت الحاجة لإعادة التموضع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط بعد أن انصرفت أنظار واشنطن إلى منطقة المحيط الهادئ معتبرة أن الشرق الأوسط أصبح منطقة هادئة؛ وهكذا أعادت الأحداث التي تلت عملية طوفان الأقصى، الجدلَ بشأن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط.
نظرت الولايات المتحدة إلى هجوم السابع من أكتوبر، على أنَّه تهديد وجودي لحليفتها الإستراتيجية “إسرائيل“، وبينما تعهَّدت “إسرائيل“ بسحق حماس، وشنَّت بناءً على ذلك حرباً واسعة على قطاع غزة، فإنَّ واشنطن وفَّرت لإسرائيل الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لتحقيق هذا الهدف.
وبالتالي فإنَّ ردة الفعل الأمريكية قد تأسَّست لحماية مصالحها في المنطقة، واحتواء التأثيرات الإقليمية المحتملة، واستغلال الحدث لتحقيق ما عجزت عنه السياسة، فبعدما كانت إدارة بايدن تحاول خلْق واقع إقليمي جديد، يتجاوز القضية الفلسطينية واستحقاقاتها، أعاد طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى الواجهة، على اعتبار أن لا سلام يمكن أن يتحقق في الإقليم مع تجاهُل الحقوق الفلسطينية.
هدنة طال انتظارها
تُعتبر الهدنة في غزة خطوةً قانونيةً وإنسانيةً طال انتظارها إثر تعثرها عديد المرات، حيث أن المسار الذي أدى لها لم يكن سلساً؛ ففي الوقت الذي ترددت فيه إدارة الرئيس الأمريكي (جو بايدن) في ممارسة الضغوط الكافية على “إسرائيل“ لوقف العدوان اتخذ الرئيس الأمريكي المُنتخب حديثاً (دونالد ترامب) موقفاً مغايراً تماماً -حتى قبل تسلمه الحكم رسمياً-، حيث فرض الهدنة بشكل حازم وفوري دون أي تأخير.
في سياق تحوّل لافت، سعت إدارة ترامب إلى تعزيز التهدئة، حتى إن المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط (ستيف ويتكوف) أجبر الجانب “الإسرائيلي“ على الاستمرار في العمل يوم السبت –وهو أمر يخالف العادات والتقاليد “الإسرائيلية“ المعتادة خصوصاً للمتدينين اليهود– وهذا يُظهر أن الإرادة الأمريكية إذا ما توفرت لديها الإرادة قادرة على وضع حدٍّ للمعاناة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون.
وأسهمت عوامل عدة في التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، كان أبرزها:
- موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أعلن منذ انتخابه عن إصراره على توقف الحرب قبل تسلّمه منصبه في 20 كانون الثاني/ يناير 2025.
- موقف قادة المؤسسة الأمنية والعسكرية “الإسرائيلية” من الاتفاق، وفي مقدمتهم رئيس أركان الجيش ورئيسَا جهازَي الموساد والشاباك، الذين عبّروا في الشهور الأخيرة عن تأييدهم الواضح للتوصل إلى اتفاق مع حركة حماس، يضمن إعادة الأسرى “الإسرائيليين” وينهي الحرب على غزة.
- ازدياد ضغوط أهالي المحتجزين وأنصارهم داخل المجتمع “الإسرائيلي“، وتنامي تأييد النخب داخله لمطلبهم بعقد صفقة تبادل للأسرى ووقف القتال في القطاع، وخاصة في صفوف قادة الرأي العام ووسائل الإعلام، الأمر الذي انعكس في تصاعد تأييد الرأي العام “الإسرائيلي“ لعقد الصفقة ووقف القتال.
- صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة واستمرار المقاومة العسكرية ضد جيش الاحتلال “الإسرائيلي” وتكبيده خسائر في الأرواح، واتضاح عجزه عن إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين أحياءً من خلال عملية عسكرية. وقد أدت عملياته منذ تراجع نتنياهو عن اتفاق تبادل الأسرى في أيار/ مايو 2024 إلى قتل ثمانية محتجزين و122 ضابطاً وجندياً إسرائيليين، فضلاً عن مئات الجرحى في صفوف الضباط والجنود.
- قناعة الجانب الفلسطيني المفاوض أن هذه الصفقة هي أفضل ما يمكن الحصول عليه خلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب.
التحديات التي تواجه الاتفاق
ثمة تحديات ومعوقات جدّية تواجه استمرار الهدنة والانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية في اتفاق وقف إطلاق النار، تعود أساساً إلى رغبة نتنياهو في استمرار الحرب أطول فترة ممكنة لتحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، التي تتقاطع مع مصالحه الشخصية والحزبية في استمرار حكمه والحفاظ على ائتلافه الحكومي أطول فترة ممكنة.
ولمستقبل اتفاق وقف إطلاق النار ثلاث سيناريوهات، هي:
- الانهيار بعد المرحلة الأولى، نظراً للانتهاكات المتكررة والتباطؤ الإسرائيلي المتعمد في تنفيذ الالتزامات، ووضع نتنياهو شروطاً جديدة لاستكمال الاتفاق. وهذا سيناريو مستبعد نظراً لحاجة جميع أطراف الصراع والمتأثرين به للمضي قدماً في الاتفاق نظراً لوجود مصالح مختلفة للجميع من انفاذه.
- النجاح في الوصول للمرحلة الثانية وهو ما سيحرص عليه الوسطاء نظراً لأن تنفيذ جميع مراحل وقف إطلاق النار سيسهم في تهدئة المنطقة برمتها، وإفشال مخطط التهجير الذي يتبناه ترامب، وهذا يتطلب ضغوطاً قوية على حكومة الاحتلال من الدول العربية والمجتمع الدولي، ولا سيما بعد تأخر البدء بالمفاوضات حولها واحتمالية أن تؤدي لتفكك الائتلاف الحكومي الإسرائيلي. وهذا السيناريو الأنسب للفلسطينيين والذي يتجنبه نتياهو.
- التوصل إلى حل وسط والذهاب لتمديد المرحلة الأولى والحفاظ على وقف إطلاق النار، بما يضمن لنتنياهو الهروب من انهيار الائتلاف الحكومي، وذلك باتفاقات جزئية يتم بموجبها الإفراج عن كل أسير لدى المقاومة بصفقة منفردة على غرار ما جرى مع المجندة الإسرائيلية أربيل يهودا. ويبدو أن هذا السيناريو هو المُحبب “اسرائيلياً” وتعمل المقاومة الفلسطينية على ابطاله.
لقد بيَّنت هذه الأحداث أن القضية الفلسطينية ليست مجرد صراع تاريخي عالق، بل هي قضية حية ومُلحة تتطلب حلاً عادلاً يضمن حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير، كما أظهرت أن إهمال هذه القضية أو محاولة تجاوزها لن يؤدي إلا إلى مزيد من التصعيد وعدم الاستقرار، كما بينت مدى الارتباط الوثيق بين القضية الفلسطينية ومسار ومستقبل المنطقة بأكملها، فأي تطورات في الصراع ستنعكس مباشرة على التحالفات الإقليمية، وتوازنات القوى، وحتى على الرأي العام العربي والإسلامي.
مصادر:
https://www.aljazeera.net/politics/2025/2/14/6-أسئلة-تكشف-مصير-اتفاق-وقف-إطلاق-النار?form=MG0AV3



