تقدير الموقف

الشعبوية والممارسة السياسية

اعداد : ريناس بنافي – باحث في الفكر السياسي والاستراتيجي – لندن

  • المركز الديمقراطي العربي

 

طرح الدكتور علي رسول الربيعي وهو سياسي وأكاديمي متخصص في الفلسفة السياسية – لندن سؤالا …  لماذا لا ينقن قادة الأحزاب الحاكمة وأعضاءها وأعضاء البرلمان وحكومتهم التكلم في السياسة في العراق؟

وكان جوابه: قد يكون الجواب على هذا السؤال ليس سهلا، ويمكن من الأسباب الجوهرية هي عدم وجود سياسة في العراق، بمعنى لا توجد السياسة كمجال مستقل فيها منتظمات سياسية يكون فيها سياسيون يعبرون عن تلك المنتظمات، وغياب السياسة أي جفاف بحر السياسة في العراق يعود بدوره الى أسباب عديدة منها كما يرى برتراند بادي عالم الاجتماع السياسي الفرنسي في كتاب ” الدولتان” عدم تطور الأوضاع لقيام الدولة/ الأمة.

الى هنا انتهى كلام الدكتور علي رسول الربيعي …. بداية يجب ان نطرح سؤلا بهذا المعنى كيف تستطيع مثل هذه النخب قليلة الخبرة والمعرفة بالسياسة من أن تنتصر او تدير الساحة السياسية؟

نقصد بالشعبوية هنا العقلانية والفوضوية والعاطفة في التفكير السياسي.

تشهد المواكبة العلمية لتطور الظواهر السياسية أزمة غير مسبوقة، ليس فقط بضعف قدرتها على توقع بروز بعض الظواهر السياسية ذات الخصائص السياسية، ولكن، أيضا بسبب عدم قدرتها أيضا على دراسة مثل هذه الظواهر في دينامياتها، فضلا عن القدرة على تفسيرها وإيجاد الروابط بين مثيلاتها في التاريخ السابق، وعلاقاتها المفترضة بين مكوناتها المتشابهة في الراهن الحالي.

تتلخص الممارسة السياسية في بلادنا في التصفيق والتمجيد والتبجيل لقائد لا ينتصر ولم ينتصر ولن ينتصر، ولكنه يجمع الناس حوله بخطاب حماسي قومي أو ديني، ويحول الهزائم إلى إنجازات، وهذا ما يسمى الشعبوية في الممارسة السياسية.

أن ظاهرة الشعبوية في السياسة ليست ظاهرة جديدة، فقد عرف القرن التاسع عشر موجات لهذه الظاهرة بخصائص سياسية وخطابية مشتركة كالنازية أو الفاشية، بل إن هذه الظاهرة لها امتداد أعمق في التاريخ، إذا تم النظر إليها بكونها ليست إيديولوجية مغلقة، بقدر ما هي ظواهر أفرزتها الأزمات، وتتمتع بمواصفات سياسية وخطابية مشتركة. بل إنه في الوقت الذي كان يعتقد فيه البحث العلمي لتطور السياسة، أن الديمقراطية هي منتهى التفكير السياسي الذي أفرزته التجربة الإنسانية، وأن ما بعد الحداثة، المتميز بطابعه النقدي والتفكيكي، ليس في جوهره سوى مرحلة أخرى من مرحلة الحداثة، أو بالأحرى مرحلة أخرى من مراحل ترشيد الحداثة وتصحيح أعطابها، فقد امتدت موجة الشعبوية في العالم، مهيمنة على أطراف كبيرة، معلنا بذلك عن دخول الفكر السياسي الغربي في أزمة غير مسبوقة، عجزت المواكبة العلمية والبحثية عن تأطيرها في نسق تفسيري.

إن الجواب على سؤال شعبوية النخب السياسية في الممارسة السياسية هو انتصار الصوت المرتفع على الخطاب الهادف وذلك لكون الخطاب الشعبوي يوجه للطبقات الشعبية المتوسطة ويخاطب المشاعر والأحاسيس ويبني أرائه على اللامسوؤلية، في حين يتقيد الخطاب السياسي الأصيل بالرزانة والمسؤولية الكاملة على كل ما يقال أثناء الخطاب السياسي.

يطرح الدكتور إبراهيم أبراش في كتابه النظرية السياسية بين التجريد والممارسة تداخل النظرية السياسية والخطاب هناك أزمة في التنظير وتخبط في الممارسة.

فالكثيرة من مفاهيمنا الرائجة في الخطاب السياسي، والتي تنسب للسياسة، أو يدعي مروجوها أنها نظريات سياسية، ولأن كثيرا من هذه المصطلحات تنتمي لمجال الدين أو الأسطورة أو الأيديولوجيا أو مستوردة من بيئات خارجية، وبالتالي منفصلة عن الواقع، فإنها تؤدي إلى مزيد من تشويه الثقافة السياسية، ومن تأزم الواقع، بحيث تعجز عن تفسيره والتنبؤ بصيرورته.

ان هيمنة الخطاب السياسي على النظرية السياسية يعود لكوننا نعيش أزمة حقيقية على مستوى الإنتاج المعرفي بكل مكوناته، فهناك ندرة في المفكرين وعلماء السياسة والاجتماع وأساتذة الجامعات الذين ينتجون نظريات حول المجتمع، في مقابل زحمة النظريات السياسية والاجتماعية المستوردة من مجتمعات مغايرة أو مجلوبة من ماضي ولي، الأمر الذي يفقد هذه النظريات علميتها، ويخلف فجوة ما بين الفكر والواقع، ويجعل المجتمع يعيد إنتاج نفسه، وأحيانا بشكل أكثر تشويها.

مع أنه يوجد في كل المجتمعات خطاب وعقل سیاسي إلى جانب النظرية السياسية حيث يكون لكل منهم مجاله الخاص، إلا أنه في الحقل السياسي والخطاب السياسي أكثر حضورا من النظريات السياسية، وفي حالة وجود هذه الأخيرة فهي نظريات أقحمت إقحام، وجاءت مستوردة مثلها مثل ما استوردنا من أيديولوجيات وسلع وعلوم وتكنولوجيا، أو مجلوبة من تاريخ سياسي وتفسيرات وتأويلات دينية.

أن النظرية السياسية في حالة بقائها على صفحات الكتب تبقى مجرد كلمات ومقولات مجردة تستمد قيمتها من جمالية الصياغة وإبداع اللغة، ولكن عند توظيفها كأداة لتفسير الواقع وتغييره، تتفاعل مع الطبيعة البشرية تأثرا وتأثيرا، وتتفاعل مع الواقع فيغير فيها وتغير فيه، وتغير في الثقافات السياسية كما تغير فيها هذه الثقافات، وتصبح للنظريات السياسية روح ومعنى.

فالاختلاف والتباين وتعارض المصالح جزء من الطبيعة البشرية. فكيف الحال بفكر سياسي ومبادئ سياسية بشرية تتصارع حولها شعوب وجماعات كل منها يدعى أنه صاحب الحق

على هذا الأساس، فإن العلاقة ما بين عالم الفكر والمثل والمبادئ من جانب وعالم الواقع من جانب أخر، أو التوفيق بين ما نسميه في خطابنا السياسي بثوابت الأمة وحقوقها التاريخية، واستحقاقات الاشتباك مع الواقع الصيرورة هذه المبادئ والثوابت حقيقة وواقعة قائمة من جانب آخر، أنتج معادلة صعبة يتم التعبير عنها بصياغات متعددة كعلاقة الفكر بالواقع وعلاقة المثقف بالسلطة.. الخ

لو تطابق الفكر وعالم المثل والمبادئ مع الواقع، ما تطورت الحضارة، وما كانت حاجة لإعمال العقل لتجاوز الواقع، ولتوقف الواقع وتوقفت الحضارة الإنسانية عند لحظة النشوة الأولى اللبشرية. ومن المنطلق نفسه فالسياسة في عالم فيه من القانون والثوابت بقدر ما فيه من الاختلاف والصراع والحرب والعنف، بل يمكن القول إن السياسة علم وفن إدارة الاختلاف وخلق التعايش ما بين عالم الفكر والمبادئ والمثل من جانب واستحقاقات الواقع من جانب أخر.

وهذا ليس تبريرا للواقع، ولا يعني أيضا تبرير للخضوع للواقع على حساب القيم والمثل أو التخلي عن الحقوق والثوابت بذريعة اختلال موازين القوى لصالح طرف على طرف اخر، بل مرامنا تأكيد أن الحياة صراع متواصل، وأن عالم الفكر والمبادئ والمثل وكذا التمسك بالثوابت والحقوق لا ينفي أو يلغي الحاجة للسياسة بما هي مجال مفتوح للصراع والحرب وللقانون وللمساومة والمفاوضات البراغماتية وللتجربة والخطأ.

ان مجتمعاتنا تحتاج لساسة يفهمون في السياسة ومرجعيات وثوابت تعبر عن توافق الأمة وتحفظ حقوقها ومصالحها العليا، وتحتاج سلطة ومؤسسات، ولكل مجال رجاله ومفكروه، وكل منظومة أو مجال يحاول أن يخضع الآخرين لرؤيته أو يوجه الأمور كما يريد. لذا ليس بالضرورة أن تتطابق الممارسة السياسية مع القيم والمبادئ تطابقا تاما، من المهم والضروري أن تضع السياسة نصب عينيها المبادئ والقيم وثوابت ومرجعيات الأمة، كما هو مطلوب من رجل السياسة أن يضع هدفا له للحفاظ على مصالح الأمة، والعمل على تحقيق المبادئ والقيم العليا للأمة دون أن يساوم عليها أو يفرط بها. ويجب أن يحاسب آن خان الأمانة وانحاز لمصالحه الشخصية أو الحزبية على حساب المصلحة الوطنية، وعلى حساب ثوابت الأمة التي هي محل توافق الأغلبية، ولكن في الوقت نفسه يجب التأكيد على أنه ليس كل من ينادي بالمبادئ والقيم العليا أو يتحدث عن التمسك بثوابت ومرجعيات الأمة صادق فيما يقول وحريص على ما يقول، بل قد يصبح خطاب المبادئ والقيم والثوابت مصدر ارتزاق للبعض.

اجمع علماء السياسة على التفريق بين الفكر السياسي وبين الممارسة السياسية وأكدوا على ان الكل قادر ان يمارس السياسة لكن ليس للكل القدرة على الجمع بين الفكر والممارسة السياسيين، فالسياسي المتحصل على رؤية فكرية في السياسة تكون أفعاله وأقواله في السياسة  تخضع لرؤية مدروسة ولا تقع تحت طائلة الانفعالات الحزبية والفئوية والتي غالبا ما تكون مدخلا أساسيا في كل الويلات التي تُجر على أي عملية سياسية، سواء على مستوى الدولة او على مستوى الأحزاب والمؤسسات فالفراغ السياسي في الفكر والممارسة، ينتج عنه فراغا في السياسة وخرابا للدولة بأكملها.

إن استثارة العاطفة بدلاً من الفكر، هي طريقة تقليدية تستخدم لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما أن استعمال المفردات العاطفية يسمح بمرور للاوعي حتى يتم زرع أفكار، ورغبات، ومخاوف، ونزعات أو سلوكيات.

وللدخول الى مرحلة جديدة والانتقال الى عصر جديد نحتاج الى نخبة سياسية قادرة على استنباط التصورات والبرامج السياسية والخطط الاستراتيجيـة.

فنحن نعاني من شح في الكفاءات القادرة على إيجاد الحلول وإقناع الرأي العام بخطاب سياسي متماسك؟

يمكن تحليل وتفسير التخبط في الممارسة السياسية وارجاعها الى عدة تناقضات بنيوية، تأتي في مقدمتها.

1- طبيعة الفاعل السياسي، ونعني بذلك، المؤهلات والقدرات الشخصية المحددة لممارسته للفعل السياسي.

2- واقع الممارسة السياسية السلبي فالرداءة التي يمر منها المشهد السياسي، الذي لم يعد قادرا على التجديد ولا حتى مواكبة الدينامية الاجتماعية، والتجاوب معها بشكل إيجابي، يعيد من خلاله للفعل السياسي مصداقيته، ويؤهل الفاعلين للعب أدوارهم الطلائعية في مجال تأطير المواطنين والبحث عن حلول سياسية فعالة لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية.

فأزمة المشهد السياسي هي في نفس الوقت تفسير لأزمة الفاعل والأحزاب السياسية التي أصبحت مجرد كيانات جامدة.

3- احتضار السياسة كفن وكطريقة للتسيير، هو في حد ذاته أكبر مؤشر على طبيعة الأزمة التي تمس آليات وطرق تنفيذ برامج السياسات العمومية، فهذه الأخيرة تفتقد إلى الفعالية بسبب قلة خبرة الفاعل السياسي الذين تنقصهم الكفاءة اللازمة لفهم واستيعاب طبيعة الظاهرة السياسة والاجتماعية والاقتصادية.

ان ضعف الوعي والثقافة الاستراتيجية لمعظم القيادات السياسية في الدول النامية يعتبر من مهددات الأمن القومي، ولعله من المهم التنبيه لأهمية تأهيل الكوادر والقيادات السياسية بالدول في كافة الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة، والسعي لتأسيس معاهد قومية لتأهيل القيادات، والاتفاق على تشريعات وقوانين تنظم وتحدد مواصفات القيادات الوطنية، فلن يكون مقبولًا أن توضع شروط لكل المجالات من طب وهندسة وتعليم بل وحتى لمن يود أن يفتح بقالة أو كشكًا لبيع الصحف، بينما لا يتم وضع مواصفات وشروط لمن يود تولي أخطر نشاط وهو قيادة الدولة في ظل ظروف دولية غاية في التعقيد، رغم ما قد يؤدي إليه ذلك من تهديد للأمن وتهديد للمصالح الوطنية الاستراتيجية. وحال العديد من الدول النامية الغنية بالموارد الطبيعية يغني عن السؤال. كما أن إدخال مواد الدراسات الاستراتيجية في الجامعات حتى يتم تخريج جيل مسلح بالوطنية والوعي والثقافة الاستراتيجية، يعد وسيلة مهمة لمواجهة تحديات المستقبل، فضلًا عن كونه أهم وسائل الالتحام والاتفاق الوطني.

فهناك ضرورة وطنية وقومية قصوى إلى معاودة النظر في مفهومنا للممارسة السياسية، حتى تتحول هذه الممارسة إلى رافعة وطنية وقومية حقيقية لكل مجتمعاتنا، بدل أن تكون هي أحد المصادر الأساسية لإدامة التوتير الاجتماعي والسياسي.

فحين نتأمل في المشروعات والأيدولوجيات السياسية، نكتشف أن ثمة مشروعات ومقولات وخطابات سياسية عدمية، لا تفكر في الواقع ومعطياته، وإنما تفكر في الشعار واليافطة السياسية المرفوعة، ومدى انسجامها مع عواطف الجمهور المتلقي أو المعني بتلك المشروعات.

فالهم السياسي لمثل هذه القناعات والأطروحات السياسية، ليس تحقيق إنجاز ما، وإنما خلق معادلة صفرية إما الانتصار الكاسح أو الهزيمة النكراء، دون التفكير في خيارات أخرى.. ولعل أحد ابتلاءات الممارسة السياسية عندنا، هو شيوع الرؤية أو النهج العدمي لدى الكثير من المجموعات والجماعات التي تنشط في الحقل السياسي.

إن الممارسة السياسية الصحيحة هي القدرة على بناء العلاقات الإيجابية مع مختلف القوى، وتطوير نسق التفاهمات والتحالفات وصياغة برنامج سياسي ممكن ومتاح ومنسجم ومعطيات القوة المتوفرة لدى جميع الأطراف.. فليس كل من يتفاوض مع خصمه هو باع قضيته، وفرط في مصالح شعبه.. كما أنه ليس كل من يحمل يافطات صارخة وشعارات رغبوية جامحة، هو حارس أمين لقضايا ومصالح شعبه وأمته.. فالعبرة ليس في الشعارات واليافطات المرفوعة، وإنما في السلوك والممارسة السياسية.

ولعل أزمة الممارسة السياسية، انها تفكر في الواجب دون أن تحتفل بالممكن، تطلب البعيد دون أن تنال القريب، تشدد على الإرادة وتهمل الواقع. ممارسة خطابية _منبرية، تدغدغ المشاعر، دون أن توضح لهم خريطة الطريق أو مشروع الانعتاق.

وما أحوج الواقع اليوم إلى إعادة تصويب الممارسة السياسية، لأن الخلل الذي أصاب الممارسة السياسية في الكثير من جوانبها وأبعادها، هو الذي ساهم مع عوامل أخرى، في منزلقات كثيرة تهدد نسيجه الاجتماعي واستقراره السياسي.

فالسياسة ليست صراخاً وصناعة للأوهام والرغبات المجردة، وإنما هي قدرة على التدبير العام، وإدارة للشأن العام على قاعدة ضمان المصالح النوعية ليس في اللحظة الراهنة فحسب بل والمستقبل أيضا.. كما أن السياسة ليست شعارات ومناكفات ومكايدات، وإنما بناء وتنمية وصناعة الخير في أروقة المجتمع، وبناء مؤسسي راسخ لإدارة الدولة والمجتمع على قاعدة مؤسسية بعيداً عن نوازع الأفراد وردود فعلهم غير المحسوبة.

يطرح الدكتور جاسم سلطان في كتابه قواعد في الممارسة السياسية افكارا مهمة بهذا الخصوص … ان العملية السياسية تتطلب جهدا معرفيا نوعيا ووعيا حيويا يدقق في مخرجات العملية السياسية قبل البدء في تجسيد البرامج والمناهج والمشاريع ،وهو أمر يتطلب من القادة إدراكا موضوعيا وواقعيا لحزمة من القضايا الرئيسية في التدافع السياسي وعلى رأس تلك القضايا تحديد نوع وأطراف التنافس السياسي والتي على أساسها يصنع سلم الأهداف التي لا يجب أن تفوق حمولة الطاولة السياسية على اعتبار أن تلك الأهداف والسياسات تخضع إلى إتقان فن المناورة وتحديد الخيارات وتقديم البدائل بعد إدارة التوقعات وتحديد عقدة الصراع باستمرار ،وهي قواعد أساسية تتعلق بالعملية السياسية وليس فقط بالقيادة السياسية.

فالجهل السياسي هو أخطر أنواع الجهل، كونه يصيب صنّاع القرار، وهؤلاء مسؤولياتهم تتجاوز حدود الذات، فالسياسي يختلف عن عامة الناس، بل يختلف عن القادة في المجالات الاخرى، فالقائد أو المسؤول السياسي، يتحمل مسؤولية أمة ومصير شعب كامل، قد يتسبب بإلحاق الأذى والضرر به، أو العكس، وهذه النتيجة المحصورة بين النجاح والفشل، تعتمد على مدى تخلّص السياسي من الجهل.

والسياسة ليست لعبة النوايا الحسنة أو المبادئ السامية فحسب، إذ ليس بالضرورة أن ينتصر صاحب المبدأ، إنها أشبه بلعبة الشطرنج، يتدخل فيها عامل الذكاء والاستعداد والإلمام الجيد بقواعد اللعبة، وهي أبعد ما تكون عن لعبة بالنرد، حيث يتمتم اللاعب “يا رب” ويرمي النرد راجيًا تحقيق الفوز.

أن ظاهرة ضعف الثقافة السياسية حاضرة بقوة في مجتمعاتنا، علما ان من أولى الاشتراطات التي تشترط بمن يعمل في السياسة ويدير شؤون الملايين من البشر، انه ينبغي ان يكون صاحب معرفة مستقاة من التاريخ السياسي البشري المتعدد المسارات والاتجاهات، فضلا عن التاريخ السياسي للبلد نفسه، بالإضافة الى أهمية الاطلاع على العلوم السياسية، كي يكون السياسي ذا عقلية قادرة على اتخاذ القرار الصحيح والمناسب المستقى من خبرات ومعارف يتقنها السياسي ويتمسك بها باعتبارها منصة الخلاص.

أن هناك من العاملين في ميدان السياسة يفتقرون للثقافة السياسية في ابسط صورها وأدنى مستوياتها، ومع ذلك يدخل هؤلاء في لب العمل السياسي، لهذا نلاحظ التخبط في اتخاذ القرارات والعشوائية والافتقار للمنهج والتنظيم والتنفيذ السليم، ولا شك أن هذه الفوضى ناجمة عن عمل الأشخاص غير السياسيين في الحقل السياسي، مع انهم لا يمتلكون المعرفة السياسية ولم يسعوا الى تحصيلها لأسباب عديدة، أولها أن ثقافتهم العامة ذات مستوى متدني، وهذا ينعكس على ثقافتهم السياسية حتما.

إن السياسة كما يؤكد المعنيون في هذا الحقل المعقد، لا تعني استلام السلطة فقط، إنها نوع من الادارة العميقة والدقيقة والشاملة لشؤون الدولة والمجتمع، انها تشمل عموم المهام التي تتعلق بالدولة والشعب، وهذه المهام لا يمكن أن يتصدى لها غير العارف ممن لم يهضم الفنون السياسية ولم يطلع على علومها نظريا ثم تطبيقيا، وهذا ما يحدث الآن فعلا في ساحتنا السياسية، حيث تُدار بلداننا من لدن أشخاص لا يمتلكون الفهم التام للسياسة ومتطلباتها.

فقلق السؤال، بخصوص الحاضر وما ينتظرنا من أحداث وتموقعات وحسابات، يُعَدّ الطريق الأنجح للإلمام بالمتغير في الحياة السياسية وفهمه، خاصة وأن عالم اليوم مشحون بشتى إيقاعات الحراك الاجتماعي والسياسي، والذي يجعله رافضا للجمود والتوقف عند سقف معين.

وفي الأخير يجدر بنا أن ننوه الى اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة هذا الخلل الخطير، ونعني به مقارعة الجهل في العمل السياسي، من خلال القيام بخطوات إجرائية ملزمة لكل من ينوي العمل في الحقل السياسي، وأهمها أن يكون ملما بثقافة عامة ومعرفة سياسية جيدة، تجعل من قراراته ومشاركاته ومسؤولياته غير قادرة على التسبب بكوارث للدولة والشعب على حد سواء.

وان الانتقال إلى الممارسة الاحترافية للعمل السياسي تتطلب إعادة النظر في الشروط المحددة للممارسة السياسة وأيضا تأهيل البنيات الحزبية، ثم بلورة ميثاق أخلاقي ملزم للفاعلين السياسيين، وتكريس مبدا ربط المسؤولية بالمحاسبة.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى