مقالات

أخلاقيات التعامل مع مريض كورونا وعائلته!

بقلم : د. جميل أبو العباس الريان – مدرس الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنيا

  • المركز الديمقراطي العربي

 

جاءت هذه المقالة تتمَّة لمقالتي السابقة “عوِّد نفسك تهيِّئة العيش مع الصدمة”، فبعد أن هيئنا أنفسنا للتعايش مع أي ظرف يمر بنا هكذا ينبغي أن يكون، يمكننا الآن أن ننطلق من النظرية إلى التطبيق.

بدأت القصة حين أفزعت مسامعي صرخات مؤلمة- شاهدتها عبر بث مباشر لأحد مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”- نغَّصت علي مضجعي وحياتي؛ تلك الصرخات والصيحات التي تفجرَّت من زوجة يكاد قلبها يتمزق حرقةً وكمدًا على مُصابها الجلل، بل إن شئت فقل مصائبها العظيمة، لعمري، أي مصيبة أعظم من مصيبتها في زماننا، أُصيب زوجها بفيروس كورونا كوفيد-19 فاعتسرها الآلم على رفيق دربها، ووالد صغارها، وزاد من شدة فجيعتها أنه كان مخالطًا لها ولأولادها وهو لا يدري، وبعد أن تمَّ حجزه في الحجر الصحي ما بين الحياة والموت، طُلب من الزوجة والأولاد ألا يخرجوا من شقتهم، وألا يخالطوا جيرانهم وأقاربهم بشكل مباشر حتى يتم التأكد بشكل نهائي أن حالتهم “سلبي” أو حتى تنتهي مدة حضانة الفيروس.

وقد وقعت الكارثة عندما عرف الأقارب والجيران بهذا الأمر فما كان منهم إلا أن بادروا بإشاعة “الشقة المصابة بكورونا” بين الناس بشكل يندى له الجبين؛ فقاطعهم أهل الشارع، البقال لا يريد أن يبيع للطفل الصغير الذي خرج بكماماته كي يشتري طعامًا لأمه وإخوته، بائع الخضار، والصيدلي،…. الجميع يتوجس منهم خيفة، بل يفرون منهم كما يفر الأصحاء من المجذوم، وبدأ الناس ينظرون إليهم بعين العداء كأنهم عدو يريد أن يفتك بهم، وكأنهم طاعون يريد أن يلتهمهم، وما أن عرفت الأم بما يصفونهم به وبما حدث لولدها حتى انهارت في بكائها قائلة: ما الجرم الذي ارتكبناه؟ ما الذي فعلناه بكم حتى تعاملوننا بهذه القسوة؟ هل هذا يرضي ربكم؟ أين إنسانيتكم؟ أين ضميركم؟ أين أخوة الإسلام؟ أين .. أين … أين..؟

أمر طبيعي حين نجد أحدًا قد وقع في مصيبة: أذى أو مرض نُسرع جميعًا في مساعدته من منطلقات شتى؛ فمنَّا من يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله تعالى وقُربة من ربه حتى ينال الأجر والثواب، ومنَّا من يفعل ذلك من منطلق إنساني فطري يُقدم المساعدة لمن ينتمي لبني جنسه رأفة ورحمة بإنسانيته، وقد يفعل ذلك بعضنا شجاعةً ومرؤةً، ومنَّا من يفعله حميةً وعصبيةً؛ لأنه من قبيلته أو عائلته أو حتى من الحي أو الشارع الذي يسكن فيه، وهناك من يُقدِّم تلك المساعدة من باب الواجب الكانطي فحسب، ومنَّا من يفعل ذلك لتخيُّله أنه مكان هذا الشخص الذي وقعت عليه تلك المصيبة، وتساؤله بينه وبين نفسه: ماذا لو أنني كنت مكان هذا الشخص؟ ماذا كنت أتمنى من المجتمع أو ممن حولي؟ ألم أكن بحاجة شديدةٍ أن يقدموا لي يد العون والمساعدة؟

الطامة الكبرى أن أحدًا لم يفعل شيئًا تحت أي غرض من هذه الأغراض السابقة تجاه هذه الأسرة المنكوبة، مما دفع الزوجة أو الأم إلى أن تخرج علينا جميعًا من خلال بث مباشر تطلب منا الرحمة والغوث ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

ليس هذه الحالة الوحيدة، بل أشد منها مرارة وفظاعة حالة تلك الأم التي أصابها الفيروس فتركها أولادها في شقتها، تخلَّوا عنها جميعًا، فماتت بدائها، وبحسرتها على عقوق أولادها لها، وتحلَّلت جثتها في شقتها بعد أن أزكمت رائحتها أنوف جيرانها!

أي قلوب هذه التي نمتلكها؟ أين الله في قلوبنا؟ وأين الدين من حالنا في مثل هذه الكوارث؟ أين حقوق المسلمين وغير المسلمين التي حثَّنا عليها الدين الإسلامي الحنيف؟

مالنا وقد أصابنا الانفصام في الشخصية! أين التطبيق العملي لحقيقة إيماننا أم هو إيمان نظري فحسب؟ ما بال الجميع يقول: نفسي نفسي وكأننا نعيش في يوم القيامة والحساب؟ إذا كان هذا حالنا في الدنيا فماذا عساه أن يكون في الآخرة؟

الحيطة والحذر أمر طبيعي، ولا أقول لك ألقي بنفسك في التهلكة ولكن على الأقل ألا نقتل النخوة والمرؤة في نفوسنا! كان المطلوب التعاطف المعنوي مع هذه الأسرة المذكورة وغيرها، إلى جانب التعاطف المادي؛ كأن نشتري لهم طعامًا جاهزًا ونضعه أمام باب شقتهم دون ملامسة ومع استدعاء كل أساليب الوقاية والاحتراز، أو حتى نتابعهم هاتفيًا ونسأل عن حالهم وصحتهم ونهدئ من روعهم ونطمئنهم ونخرجهم من همهم وحزنهم وضيقهم إلى سعة رحمة الله ولطفه بهم ومجازاتهم خيرًا على صبرهم واحتسابهم، وتذكيرهم حتى الشوكة يشاكها المؤمن يكن له بها أجر؟

للأسف الشديد لم لا يحدث شيء من هذا؟ لا ألوم الجميع ولكن على الأقل سكنى ذلك الحي أو الشارع! ولا أقول أننا كلنا نتصرف تصرف جيران هذه الأسرة، إذ في المقابل هناك من يفعل الكثير والكثير مع مصابي الفيروس وأسرهم، ولا يفصحون عن ذلك لحاجة في أنفسهم.

أما بالنسبة لمصابي الفيروس الذين يُذهب بهم للحجر الصحي، فلا أرى تقصيرًا من جانب الأطباء العظماء الذين يضحون بأنفسهم من أجل خدمة غيرهم وعلاجهم، فمن المضحكات أن مريضًا أُعجب بمطببته لحسن تعاملها وتلطفها معه فطلبها للزواج وتمت خِطبتهما داخل المستشفى!

لابد أن نعيش بفكرة “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا”، هما صورتان متاقضتان؛ إما أن يتكاتف الجميع مع الجميع لكي يحيا وينجو الجميع بإذن الله تعالى، وإما- وهذا ما لا نريده- أن يتخلَّى الكل عن الكل ويهلك الجميع أو الأكثرية على الأقل.

علاوة على ذلك، لا مجال للحديث عن أخلاقيات التعامل مع مُصاب الفيروس نفسيًا، ودينيًا، وقيميًا فقد سبقني في هذا المضمار الرحب الكثير من الأساتذة المتخصصين، ولاسيما أستاذي العزيز الأستاذ الدكتور/ بهاء درويش في بحثه المتميز بالمشاركة مع الدكتورة/ وفاء عبد العال، المعنون بـ”أخلاقيات التعامل مع وباء كورونا” إذ ذكرا من أهم أخلاقيات التعامل مع المريض قولهما:”إن مسؤولية مقدمي الرعاية الصحية أن يطمئنوه بقدر الإمكان ويطمئنوا أهله ويتعاملون معهم بالحسنى والاحترام”.

على الرغم من هذه الكتابات القيِّمة إلا أننا، للأسف الشديد، دائمًا متأخرون لا نسمع للعقلاء، ولا نقوم بفعل ما ينبغي أن يكون إلا بعد أن يكون واقعًا بالفعل؛ كي ننقذ ما يمكننا إنقاذه ولكن بعد فوات الآوان أو بعد وقوع خسائر مؤلمة سواء أكانت مادية أم معنوية.

حقًا، لقد أسمعت إن ناديت حيًا       ولكن لا حياة لمن تنادي

عزائي أنني أبرأ إلى الله تعالى من كل إهمال وتقصير، ومن كل انتهاك لحقوق الإنسان، أي إنسان أيًا كانت ديانته أو ملته أو مذهبه؛ لأنه أفضل مخلوق على وجه الأرض خلقه الله تعالى بيده، وسوَّاه فعدَّله، وفي أجمل صورة ركَّبه، ثم نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.

المراجع:

بهاء درويش وفاء عبد العال: “أخلاقيات التعامل مع وباء كورونا”، صحيفة الجارديان بتاريخ: 7/5/2020.

https://www.alguardian.com/33717

5/5 - (5 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى