تحليلات

بين توحّش النظام  والنظام البديل

 بقلم : د.عادل حسين – المركز الديمقراطي العربي

لاشكَّ أنا نعيش مناخاً عاماً تزداد مساحته  كلما تعمقنا مساحة الأرض العربية ,  ليس مناخاً جغرافياً رغم جغرافيته لكنه مناخ إنساني في جغرافية معينة , مناخ من تدهور قيمة الانسان و تدني مكانته الى درجة فقدانه الحد الادنى من الإحساس بكيانه و وجدانه كانسان ، و مناخ استضعاف المرأة عندما تسقط بسبب   جنسها و حقارة  المألوف الاجتماعي لها ،  و بفعل الجوع  و الفقر و الخصاصة , و توحّش منظومة الحكم  من جهة اخرى ، مناخ الطفولة الضائعة ما بين الحروب الجارية و قسوة الجهل و الحرمان و البؤس  و المرض  ، و الشباب الفاقد الامل و الإحساس بالانتماء إلى أرضه حتى تصبح فكرة  الهجرة “غير شرعية ” عبر البحار , ويغدو اجتياز الحدود هاجساً له , وفي قائمة أولوياته, لابل تتقدمها , مقابل خيار قد ينفي وجوده لابد , وهو خيار دخوله حالة العبودية , و منظمات بيع البشر و المخدرات   و تبييض الأموال الناجم عن توحّش الإنسان, واضطهاده أخاه الإنسان وفقده أدنى مقومات الإنسانية  ما يؤدي به في النهاية الى الانتحار ، عندها فقط، لا يمكن و لا يجوز لنا ان نبقى  ، في إطار الشعور بالمسؤولية الأخلاقية و العلمية و التاريخية و ضمن قيم العدل و الحرية  و كرامة الإنسان في موضع الحياد بلا فائدة .

إنَّ هذا الواقع الذي تعيشه الإنسانية في الزمان و المكان منذ أن جاء الانسان على وجه هذه  الأرض عبر التاريخ يتصدَّر المشكلات التي تملأ الفكر  البشري , حيث يبحث عن صيغة النظام الاجتماعي  الذي يحدّد علاقة الانسان بأخيه الانسان و علاقة الانسان مع الطبيعة في سبيل إعطاء إجابة صادقة و موضوعية عن السؤال الآتي ذكره :

ما هي صيغة النظام الاجتماعي الكفيل بتحقيق السعادة للإنسان و جودة حياته و كرامته ؟

ماذا عن الإنسانية التي فارقت وجود الإنسان العربي  مذ سطا على مركب الحياة أباطرة الاستلاب, ودعاة الديمقراطية, وبناة الظلم والقهر.

إن في عودة يسيرة إلى التاريخ وقراءة معطيات الحياة تؤكد مناسبة القرائن الظرفية و الموضوعية في الزمان و المكان للمواطن في البلدان العربية ، حتى يقوم بما لم يستطع أن يقوم به أسلافه  من استثمار, و إحياء درجة الوعي, و إدخاله في حسابات الحياة الاجتماعية , والفكرية والثقافية والعملية التي تؤثر بدورها  في مكوّنات  النسيج الاجتماعي باختلاف مشاربهم , وتياراتهم, وألوانهم الفكرية .

لكن النرجسية و الدوغمائية , و إعجاب كل ذي رأي برأيه ، في إطار ما يراه حقيقة  و يمتلك القراءة المطلقة للواقع و مشكلاته ،  أدّى ليس فقط  الى انبثاق ذهنية بعيدة كل البعد عن السياق الشعبي و آماله ، بل أيضا تكاد الرؤية تكون شاسعة ما بين الاستشراف للمستقبل و ما يتمّ التعبير عنه , فهم يعبرون  من خلال  الشعارات و البدائل  ابتغاء استقرار المجتمع و سعادته.

و قد دفع  خطاب الطبقة السياسية ، في كثير من الأحيان ، الذي لا يحمل في باطنه إلا ذهنية الأنا و حب الذات الى خوض جهد طويل و صراعات متنوعة بشتى المذاهب و طرق التفكير البشري في سبيل هندسة  النظام الكفيل ببناء  المجتمع المنسجم مع واقعه الانساني و تحقيق مصالحه.

و لا يزال هذا المسار يضج بالمآسي و المظالم, و يزخر بالضحكات ,و يقترن بالدموع نتاج  البحث عن صيغة النظام الاجتماعي الصحيح.

و من باب  توثيق الانسان المعذّب في البلدان العربية ، نجده –مرغما-اختار في اطار ما يسمى ، بالعملية الانتخابية ، الذين هم بلا أخلاق بل أيضا قام بمحاربتهم ؛ لأنهم لا يمتلكون الحد الأدنى من القيمة الاخلاقية . ليس هذا فحسب بل جمودهم الفكري، وتعصبهم لأفكارهِم الخاصة لدرجة رفضهِم الاطلاع على الأفكار المخالفة، متجاهلين القرائن التي تؤكد صوابة الرأي الآخر وخطأ  أفكارهِ ، فثقافتهم تقوم على مبدأ محاربة الآخر بكل ما أوتي من قوة، ومصارعته لإثبات صحة أفكارهِم وآرائهِم، في حالة شديدة من التعصب للأفكار والمبادئ والقناعات.

في البلدان العربية العقلية الدوغمائية الجامدة التي تقبع في سجن المعتقدات الخاص بها، سيدة الواقع, تتحكم في مفاصل الحياة , ومساراتها .وتحُدُّ المجتمع بنظام تبعي تقليدي عبثي قائم على التكرار والاجترار، مستبعداً إمكانية حدوث أي تغيير أو تبديل. الأمر الذي يحدُّ العقل عن إنتاج إلا ما يتناسب وواقعه المحدود ؛ فالنسق الثقافي القائم على تواتر السياق وتكراره وتحجيره يورث فكراً نمطياً مأسوراً لمنطق محدد، غير قابل لإجراء لعملية تدقيق أو مراجعة لأحكامه، التي قد تنشأ بمرور الزمن فتتحوَّل  إلى ما يشبه المقدسات الخاصة التي لا يمكن مناقشتها ، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا التفكير المأسور على سلوك الفرد وعمله وعلاقاته .

والدوغمائية حسب مكتشفها العالم الأمريكي (ميلتون روكش) التي تعني عجز الشخص عن تغيير أفكاره تماشيا مع الظروف الموضوعية , حتى عندما تتوافر الأسباب؛ إذ ينكر  العقل الدوغمائي مجمل  الحقائق , باستثناء  ما خدم منها أفكاره المسبقة ووافقها ، فهو لاينفكُّ يغالط الحقائق , ويرى أنه  صاحب الحق والأحكام الصحيحة التي لا وجه حقٍّ لمناقشتها, فكل ما هو خارج العقل الدوغمائي ، يقع خارج نطاق عمله ، فعقله منشغل بتكريس ما يمتلك  , فلا يسمح –بذلك- تعصبه, وتطرفه وغطرسته إلى إنتاج أفكار جديدة  تؤثِّر في تقدُّم المجتمع تأثيراً فعَّالاً.

مجتمعاتنا العربية بحاجة للنهوض والانطلاق , والتفاعل والتجديد والإنتاج, وإطلاق العقل  من قالبه السميك , وحدوده الروتينية الرتيبة , وأفكاره المقولبة وأحكامه الاستباقية وفقاً لمتطلَّبات الحياة المتنوعة والمتعددة والمختلفة..

وأولى الخطوات التي ستعمِّق منهج السير في ركب الانطلاق والتحرر الفكري المجتمعي  الإشارة إلى مكامن التخلف. والعمل على اجتثاثها وفق سيرورة ممنهجة هدفها بعث الطاقات الكامنة, وإعطاء الأولوية للعقل العلمي؛ إذ لا ينبغي أن نبقى في حالة الانفصال عن المعطيات الحديثة للفكر المتقدم في العالم. وينبغي التماس أمر مهم ؛ وهو أن عمليات التحديث المادي لا تغني أبداً عن عمليات التحديث الفكري، فالحداثة مسألة فكرية والتزام بالموضوعية والنهج العلمي و النأي بمجتمعاتنا العربية عن فرضية  الأحكام المسبقة والثقافة المتجمدة، بل يجب تفعيل الفكر الحداثي والاهتمام بحمَلَته بعيداً عن إغراءات المطامع المادية .

لابد من خطوة مهمة تتقدمها الإرادة والعزيمة ,تتمثل في الإصرار على النهج منهج الغرب في محاكاتهم عنصر الديمقراطية , والسير في مركب التقدم والحداثة بواقعها الفعلي العلمي المهني، وليس الشكلي فحسب .

إن التقدم الذي نريده للعرب  تقدم حقيقي يصيب حياتهم كلها، وأول ما يجب أن يصيب هذا التقدم مجالات التعليم والتدريب والإعلام ومصادر التوجيه والتأثير لما لها من أهمية في حياة مجتمعاتنا النامية التي تقوم في غالبيتها على أنظمة بالية قوامها القبيلة, والعشيرة بعيداً عن الخبرة السياسية, فمجتمعاتنا تلك تعاني من انفجار ديمغرافي تصارع من أجل البقاء بعيداً عن شبكات الأمان , مجتمعاتنا- باختصار- تتقدم في تفعيل الديمقراطية, لكن هل سبيل الوصول عبر الديمقراطية ميسر في بلداننا العربية؟ أما من معوقات تقف حاجزاً أمامها ,سؤال لابد من الإجابة عليه:

ما معوقات الديمقراطية..؟

ليست الآفاق المفتوحة أمام المجتمعات العربية  , فهي مرغمة على إرضاء حاجات النخب التي سيطرت على الدولة, ولابد من الإشارة إلى أن معظم النخب الحاكمة فرضت وجودها بالقوة ,فبعضهم اعتمد مشروعية تاريخية . .

تتميز مجتمعاتنا المتنامية بنقاط ضعف سمح بنمو دول الاستيلاء  التي لا يمكن في ظلها أن تعيد إنتاج نفسها , بل تبقى عاملة على قتل الإمكانيات والفرص التاريخية داخل المجتمعات  حتى تجعلها عاجزة عن إفراز القوى القادرة على التغيير الذاتي.

يحضرنا –على سبيل المثال – دعم الاتحاد الأوروبي لدول المجموعة السوفياتية واحتضانها اقتصادياً وسياسياً، حتى لا يكون  مصيرها قريباً من مصير المجتمعات العربية ،أي انهيار النظام الشمولي من دون أن يؤدي إلى نشوء ديمقراطية، والسير إما نحو الفوضى والخراب السياسي كما هو الحال في بعض الدول ومنها أفغانستان والصومال واليمن الجنوبي، أو عودة النظام الشمولي بشكل جديد.

ومن وجهة موضوعية لا يسوِّغ  العدوان الغربي على مقدرات العالم العربي استمرار هذه البنية الخاصة بالسلطة  , فالأمر يرتبط  بشروط خاصة ترافق نشوء الدولة الحديثة وتطورها في مجتمعات متأخرة نسبياً لم يتمكن شعبها من أساليب الحماية الذاتية , وتعزيز القدرات في مواجهة الإمكانيات الهائلة  للنخب ونفوذها وسيطرتها على الأفراد والجماعات التي تخضع لها.

لم تنمُ الدول  نمواً تدريجاً موازياً لنمو المجتمع الذي أنشأها ونشأت فيه، ولكنها اعتقلته وصادرت نموه وتنميته السياسية ، فكانت النتيجة أن المجتمع هو الذي انشغل بتنمية الدولة بدل أن تنشغل الدولة بتنمية المجتمع ..

ففي المجتمعات العربية ثمة عوامل دعمت مفهوم الاستيلاء , وعززت  النظام التسلطي وأعادت إنتاج مفاعيله, ومن أهم هذه المفاعيل ؛ ولوج زمن الفائدة للمجتمعات العربية من عائدات مالية كبيرة  نتيجة تصدير النفط، ولا تزال هذه المصادر تشكل فيها أهم الموارد, والعامل الرئيسي في تأمين استمرار المجتمعات اقتصاديا. وقد عملت هذه المصادر  على الوقوف في وجه  التطوير العقلي والعلمي والاجتماعي لكثير من المؤسسات , الأمر الذي يسوِّغ تطور البنية الاجتماعية الضيقة  (العشائرية) لهذه النخب في إطار الدولة الحديثة ، كما يفسر تنامي كثير من السلوكيات السلبية مثل تخفيف قيمة العمل على حساب الإثراء السريع , وغياب روح الاستثمار , وانعدام الجدية والتساهل أمام الفساد والفوارق الخطيرة بين الطبقات..

لابد من التغيير ,والابتعاد عن الواقع الاستسلامي المنهزم  , وامتلاك الجرأة على النقد الذاتي والفكري, وإجراء عملية تقييم للنقص والتناقض الذي يعاني منه الواقع العربي , وصولاً إلى تحقيق التاريخ المنتظر المزدهر بقوة الكرامة العربية والفكر العلمي ,والحضور الاجتماعي السامي.

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى