الشرق الأوسطمقالات

معضلة القدس والصراع على الهوية في الماضي والحاضر

بقلم: أ.د.  ذياب عيوش- رئيس جامعة القدس المفتوحة سابقاً-  فلسطين

  • المركز الديمقراطي العربي

 

أدى انتهاك سلطات الاحتلال الإسرائيلي لحرمة المسجد الأقصى، وإغلاق أبواب الحرم المقدسي الشريف في وجه المصلين المسلمين بشكل متكرر ومنعهم من الأذان وإقامة الصلاة في أولى القبلتين، وفي واحدة من أطهر بقاع المسلمين وأكثرها قدسية، إلى رفض غير مسبوق والى هبّة عارمة. هذه الهبّة وصفها البعض بالانتفاضة، ووصفها آخرون بالثورة، إدراكا منهم أن ما قام به الإسرائيليون هو عمل عنصري، يمثّل لدى جميع المذاهب، والأديان، والثقافات، والأعراف الدولية، انتهاكا لحرمة قيمة رفيعة لا يجوز المساس بها تحت كل الظروف، وإحياء لصراع الحضارات الذي تبنّته الدول الاستعمارية منذ زمن بعيد وحتى الآن. وهذا الانتهاك، وان لم يكن الأول والأخير في تاريخ الاحتلال وتعسّفه بخاصة، وتاريخ الصراع الطويل على القدس مع المحتلين والمستعمرين بشكل عام، إلا أن تراكمات الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على المصلين المسلمين في الفترة الأخيرة شكّلت تغيّرا نوعيا في مواجهة تلك الاعتداءات الظالمة والعمل على فك الحصار .

هذا الانتهاك الأخير لحرمة الأقصى، وان لم يكن الأول ولا الأخير في تاريخ الاحتلال الأجنبي للقدس الشريف وفلسطين، يشكل ذروة التخبّط والاستكبار الإسرائيلي اليومي المطّرد على الحقوق العربية والفلسطينية، وعلى حرية العبادة منذ حادثة إحراق المسجد الأقصى ومنبر صلاح الدين عام 1968، كما يشكل تحوّلا نوعيا في الصراع على هوية أولى القبلتين.

ويلاحظ المتتبع النزوفلسطين، القدس، أن جوهر هذه المعضلة يتمثّل في الصراع بين قوة الحق التي يمتلكها العرب الفلسطينيون، وحق القوة الذي يمتلكه الإسرائيليون نظرا للدعم السياسي والاقتصادي والعسكري اللوجستي الذي تلقوه وما يزالون يتلقونه من الدول الاستعمارية بدءا ببريطانيا (صاحبة وعد بلفور المشئوم) وفرنسا (شريكة بريطانيا في جريمة اتفاقية سايكس – بيكو لتقسيم العالم العربي، وانتهاء بالولايات المتحدة الأمريكية والتي اتجهت سياستها في عهد الرئيس الحالي ترامب نحو التأييد المطلق لسلطة الاحتلال الإسرائيلي.

و الصراع على القدس وفلسطين ، الذي ألبسته (إسرائيل) ثوبا دينيا تارة، وثوبا سياسيا تارة أخرى، يشكل معضلة كبيرة انعكست سلبا على الشعب العربي الفلسطيني خاصة، وعلى أحرار الأمة العربية والإسلامية بشكل عام.وهذا الصراع يتمحور حول أمرين أولهما، طبيعة الهوية السياسية والدينية لبيت المقدس، وثانيهما، الشعور بالاهانة الذي أحس به الفلسطينيون وهم يرون الغرباء المستعمرين لا يدنّسون أقدس مقدساتهم فحسب، وإنما ينكرون عليهم حقهم في حمايتها، وصونها من الغزاة، والصلاة فيها، ويتنكرون لجميل العرب والمسلمين الذين احتضنوهم في فلسطين والعالم العربي بعد أن لفظتهم معظم الشعوب الغربية، ولم يجدوا لهم مأوى بعد سقوط دولة الخلافة في الأندلس غير بلاد العرب والمسلمين.

هذان الأمران السابقان يرتبطان ارتباطا وثيقا بغيظ العرب من الاقتحامات اليومية المنظمة التي يقودها كبار السياسيين والمستوطنين الصهاينة للمسجد الأقصى وساحاته، وبالخوف من أن يتحول الاقتحام المنظم والتواجد اليومي فيه إلى تقسيم الحرم الشريف، كما يرتبطان بالإعلانات الرسمية اليومية للحاخامات الصهاينة المتعصبين عن (حقهم الإلهي) المزعوم في الحرم الشريف. ويأتي في محصلة هذين الأمرين إبعاد سلطات الاحتلال الإسرائيلي لأمة المسجد الأقصى واحدا بعد الآخر، وفرض الإقامة الجبرية على بعضهم، ومنع آخرين من دخول المسجد والصلاة فيه، وتحديد سن من يحق لهم دخول الحرم للصلاة، جاعلين من أنفسهم أربابا من دون الله.يضاف إلى ذلك نصب الحواجز اليومية على مداخل الحرم، وإجراء التفتيش المذل لكل من يتوجّه إلى الأقصى للصلاة فيه، والتنكيل بالمصلين وقذفهم بقنابل الغاز وإصابتهم بالرصاص المطاطي بعد أداء الصلاة.

هذا كله محصّلة لتراكمات عميقة الجذور تمتد إلى ما ارتكبته دول الغرب الاستعماري في بلاد العرب والمسلمين.وفي هذا يقول المؤرّخ الألماني الكزاندر شولتز في كتابه ” تحولات جذرية في فلسطين ما بين 1856 و 1882″: “كانت فلسطين تشكّل نواة التغلغل الأوروبي في الشرق الأدنى، فقد تيقّظت الأطماع، وحيكت الخطط، وأطلق العنان للرؤى للوصول إلى هدف غرس الصهيونية في فلسطين”.وقال: ” وقد جاءت الخطوة الأولى للتغلغل الأوروبي المنظّم في فلسطين في سياق التنافس الأوروبي في المسألة الشرقية وبقي هذا التنافس العامل الأهم”.” وقال: أن انطلاقة البحث في التغلغل الأوروبي في فلسطين تبدأ عام 1838 بالتحديد ، وهي السنة التي حل فيها في القدس أول قنصل أوروبي وهو القنصل البريطاني”.ويختم شولتز حديثه هنا بقوله: ” إن النزاع الذي أثقلت به أوروبا الشرق الأدنى حول فلسطين لم ينشأ في هذا الإقليم نفسه ، وإنما زُرع فيه من الخارج”.

ولما كانت قوة الحق باقية، وحق القوة زائل ومتغيّر، فان الفلسطينيين لا يزالون يقتدون بقول الرئيس الراحل أحمد الشقيري في ندوة فلسطين الدولية في القاهرة بتاريخ 6/4/1965ويعملون لتحقيقه حيث يقول:”إن تحرير فلسطين هو أكبر أهداف الأمة العربية ، وعليه يتوقف مصيرها ووجودها.ومن أجل ذلك فانه (أي الشقيري) لا يمثّل أنصاف الحلول ولا يخضع لتسويات تُقدم على أساس المساومة أو سياسة الأخذ  والعطاء، وأن هذا التحديد الواضح لموقفنا هو تحديد مسئول أُعلنه بسم منظمة التحرير الفلسطينية نيابة عن شعب فلسطين”. وكما انتصرت الهبة المقدسية في فتح أبواب الأقصى للمصلين، فانه لا بد للقيد أن ينكسر.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى