وثيقة “الأمن القومي الأميركي” 2025.. القيادة من وراء الستار
بقلم : د. محمد حسين سبيتي- باحث سياسي – المركز الديمقراطي العربي
تكشف الوثيقة الجديدة للأمن القومي الأميركي لعام 2025 عن إستراتيجية جديدة تبنّتها الولايات المتحدة الأميركية في التعاطي مع الملفات الدولية وعن تحوّل في مسار التفكير السياسي في واشنطن. الوثيقة التي صدرت في 4 كانون الأول/ديسمبر 2025 لا تعلن نهاية دور الولايات المتحدة كقوة أحادية في النظام الدولي، كما اعتقد البعض، بقدر ما تعلن نهاية نمط إدارة هذا الدور كما تبلور منذ نهاية الحرب الباردة. وقد نستشرف في دراستنا الأولية، كما سيتضح في طيات هذه المقالة، أنها ليست وثيقة انكفاء أو عزلة، بل وثيقة إعادة تموضع محسوبة بهدف إعادة بناء مفهوم الريادة الأميركية على أسس أكثر براغماتية وانتقائية، تُقاس فيها الهيمنة بمعادلة الربح والخسارة، لا بالشعارات الأيديولوجية عن “القيادة الأخلاقية للعالم”.
في مقدمتها، تلمح الوثيقة إلى ما يمكن وصفه بحالة “الإرهاق الإمبراطوري”، أي الإقرار بأن مشروع السيطرة الشاملة بعد الحرب الباردة أرهق القاعدة الصناعية الأميركية، واستنزف الطبقة الوسطى، وأغرق بالبلاد في حروب لا رابط مباشرًا بينها وبين “المصلحة القومية” كما تُعرّفها الإدارة الحالية، وهذا ما يمكن النظر إليه على أنه تأسيس نظري لتحوّل في تعريف الأمن القومي نفسه.
في مضمونها، تتبنّى الوثيقة بحسب منطوق مفرداتها معطى أميركيا مستجدًا بُني على أساس أن التفوق لم يعد مرادفًا للانتشار العسكري الكثيف، بل للقدرة على التأثير عن بُعد، أي أن بقاء الولايات المتحدة “الأغنى والأقوى والأكثر نفوذًا” لا يعني أن تكون حاضرة ماديًا في كلّ ساحة نزاع، بل أن تمتلك مفاتيح الاقتصاد، والتكنولوجيا، والمال، والتحالفات، بما يكفي لتوجيه مسار الأزمات من دون الانخراط المباشر في تفاصيلها.
من هذا المنظور، تعيد الوثيقة تعريف “الأمن القومي الأميركي” على أساس حزمة من الأولويات المحدّدة: تحصين الداخل وحدوده، استعادة السيطرة على سلاسل الإمداد، حماية القاعدة الصناعية، تأمين التفوق في الذكاء الاصطناعي والتقانة المتقدمة، وتعزيز مكانة الدولار والنظام المالي الأميركي كعمود فقري للاقتصاد العالمي. بذلك تنتقل واشنطن من منطق “الإمبراطورية الكونية” التي تثقل كاهلها التزامات سياسية وعسكرية في كلّ القارات، إلى منطق “القوّة الإمبراطورية المتمركزة في ذاتها” التي تحافظ على تفوقها من خلال أدوات غير مباشرة: الاقتصاد، التمويل، الفضاء السيبراني، والمعايير التكنولوجية.
في قلب هذا التحوّل تبرز “الطبعة الترامبية” الجديدة لمبدأ مونرو. المبدأ في نسخته التاريخية كان يستهدف تحييد النفوذ الأوروبي عن أميركا اللاتينية مقابل امتناع واشنطن عن التدخل في شؤون أوروبا. أما اليوم، فتوسع الوثيقة دائرته جغرافيًا ومفهومًا. النصف الغربي من الكرة الأرضية يُعرّف بوصفه فضاءً حصريًا للنفوذ الأميركي، يجب أن يُطهَّر من أي منافس خارجي، لا سيما الصين وروسيا وربما إيران، مع تشديد خاص على أميركا اللاتينية، الكاريبي، والممرات البحرية الأطلسية التي تربط غرب إفريقيا بالساحل الأميركي. الجديد هنا أن المبدأ لم يعد إعلان نوايا سياسيًا، بل اقترن بمجموعة أدوات تنفيذية تتلخص بالآتي: إعادة تموضع عسكري بحري في الكاريبي وغرب الأطلسي، تشديد غير مسبوق على أمن الحدود والهجرة غير النظامية، وتوظيف اتفاقات التجارة والاستثمار كآليات لضبط تموضع الحكومات المحلية في مواجهة خصوم واشنطن.
بهذا المعنى، ترسم الوثيقة خريطة جديدة للعالم في العقل الإستراتيجي الأميركي، تقوم على ثلاث دوائر متمايزة. الدائرة الأولى هي “الغرب الموسَّع” أو الداخل القاري، أي الفضاء الممتد من ألاسكا إلى باتاغونيا، مع ملحقاته البحرية والإفريقية الأطلسية، والذي يُعامَل باعتباره منطقة نفوذ مغلقة لا يُسمح فيها بتحول إستراتيجي يمس أمن الولايات المتحدة أو بنيتها الاقتصادية. هنا تُربط مكافحة الهجرة، ومواجهة “الجريمة المنظمة”، وتجفيف “منابع المخدرات” وغسل الأموال، بوصفها أدوات صراع جيوسياسي مع قوى تنافسية تعتقد واشنطن أنها تسعى لزرع نفوذها في الحديقة الخلفية لها.
الدائرة الثانية هي آسيا والمحيطين الهندي والهادئ، وفيها يدور الصراع الفعلي مع الصين. نص الوثيقة يتعامل مع بكين بوصفها خصمًا مركبًا من عناصر تتمثل بالقوة الاقتصادية، والتكنولوجية، والعسكرية. وقد نجحت الأخيرة خلال العقود الماضية في استغلال منطق “الانفتاح الليبرالي” لتعيد صياغة موقعها في النظام الدولي، وتبني لنفسها شبكة نفوذ واسعة في الجنوب العالمي من خلال القروض، والبنى التحتية، وربط الأسواق. إقرار الوثيقة بفشل مشروع إدماج الصين في “نظام قائم على القواعد” يعني الانتقال من رهان التغيير من الداخل إلى منطق “حرب النظم” المتمثل بصراع طويل على شكل العولمة، وعلى معايير التكنولوجيا، وعلى مسارات سلاسل الإمداد، وعلى العملات والتمويل، أكثر مما هو صراع عسكري تقليدي.
رد واشنطن في هذا المسرح يرتكز على ثلاثية متداخلة. أولًا، إعادة التصنيع في الداخل وفك الارتباط التدريجي عن سلاسل الإمداد الصينية في القطاعات الحساسة، بما يعيد بناء القاعدة الصناعية – العسكرية الأميركية ويقلل هامش الضغط الصيني. ثانيًا، بناء تكتل اقتصادي وتكنولوجي مع الحلفاء الإقليميين (اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا، الهند، وشركاء جنوب شرق آسيا) قادر على منافسة الصين في الأسواق العالمية، ولا سيما في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط التي تحولت إلى ساحات تنافس حاد على النفوذ. وثالثًا، استخدام أدوات المال والدولار والنظام المالي الدولي كسلاح إستراتيجي من خلال العقوبات، وضبط الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، وإعادة هندسة سلاسل الدفع والتسوية.
في هذا الإطار، يُعاد تعريف الردع العسكري في آسيا والمحيط الهادئ. الهدف المعلن هو “منع العدوان” في السلسلة الأولى من الجزر وحول تايوان، لا خوض حرب شاملة لحسم ميزان القوى نهائيًا. لذلك تتقدّم أدوار اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وربما الهند مستقبلًا، كخط دفاع أول، في حين تحافظ الولايات المتحدة على تفوقها في الردع النووي والقدرة على الحشد البحري والجوي بعيد المدى، وعلى السيطرة في مجالات الفضاء والذكاء الاصطناعي والقدرات السيبرانية. ما يتشكّل هنا هو صيغة “احتواء محدث” لا يكرّر حرفيًا تجربة الحرب الباردة، لكنّه يستعير منطقها العام المتمثل بعدم اجتثاث للخصم، بل إدارة صراع طويل يحتفظ فيه القطب الأميركي بأفضلية بنيوية.
أما الدائرة الثالثة فتضم أوروبا والشرق الأوسط وسائر الأقاليم. في أوروبا، تسقط اللغة الدبلوماسية الناعمة لتحل محلها مفردات ذات نبرة تقويمية واضحة. تُقدَّم القارة بوصفها حليفًا تاريخيًا يعاني من “أزمة داخلية” عناصرها مركبة بين قيود على حرية التعبير تُفسَّر في واشنطن كآلية لاحتواء التيارات الشعبوية واليمينية، تراجع ديمغرافي، انفتاح واسع على الهجرة يُنظَر إليه في الوثيقة كمخاطر على “الهوية الحضارية” الأوروبية، وتوجهات تشريعية تعتبرها واشنطن عدائية تجاه الشركات الأميركية الكبرى في مجالات التكنولوجيا والبيانات. الرسالة الضمنية أن أوروبا لم تعد شريكًا موازيًا بل إقليمًا يحتاج إلى إعادة تعريف دوره ضمن منظومة غربية تقودها الولايات المتحدة. وعليه تركز الوثيقة في مضامنيها على أن تتخلى أوروبا عن وهم التوسع المفتوح للناتو، وأن تعيد فتح أسواقها وتشريعاتها بما يسمح بتغلغل أعمق لرأس المال والتكنولوجيا الأميركيين.
في الشرق الأوسط، تظهر المراجعة الأعمق. المنطقة التي شكّلت لعقود أولوية مطلقة في السياسة الخارجية الأميركية، تُقدَّم الآن كإقليم مهم لكن غير مركزي في الأمن القومي الأميركي. السبب الأول في ذلك هو تحوّل الولايات المتحدة إلى مصدر صافٍ للطاقة، وتطور سياسات طاقة جديدة (نووية وتقليدية) تقلل من اعتمادها على نفط المنطقة، على الرغم من أن النفط ما زال عاملًا، لكنّه يرتبط أكثر باحتياجات الحلفاء في أوروبا وآسيا، لا بحاجتها الذاتية، وفق الوثيقة.
السبب الثاني أن الشرق الأوسط، وفق تصور الوثيقة، لم يعد ساحة صراع مباشر بين القوى العظمى بقدر ما هو ميدان تنافس بين قوى كبرى ومتوسطة، وهو مستوى يمكن لواشنطن أن تديره عن بُعد عبر شبكة تحالفات معززة، من دون أن تنغمس مجددًا في حروب بناء الدول كما في العراق وأفغانستان.
في واقع الحال، ولمن يتتبع بعين النقد مضامين الوثيقة حول إطار الشرق الأوسط، فإنه يخرج بانطباع أن المصالح الحيوية المحدّدة في نصها لا تترك مجالًا كبيرًا للتأويل، وتتمثل بضمان أمن مضيق هرمز وبقائه مفتوحًا، تأمين البحر الأحمر والممرات البحرية من أي تهديد، منع تحوّل المنطقة إلى حاضنة لـ “الإرهاب” القادر على ضرب الداخل الأميركي، وضمان أمن وتفوق “إسرائيل”. ما عدا ذلك يمكن التعايش معه بدرجات متفاوتة من الرضى. هنا تتقدّم منظومة إقليمية جديدة قيد التشكل، قاعدتها تحالفات مع دول الخليج و”إسرائيل”، وتوسيع محتمل لاتفاقات “أبراهام” (التطبيع) نحو دول عربية وإسلامية إضافية، بما يحوّل “إسرائيل” من عبء أمني إلى ركيزة في بنية الأمن الإقليمي كما تتصورها واشنطن.
في هذا السياق، يجري التعامل مع إيران، وفق الوثيقة، بوصفها مصدر تهديد جرت محاصرته وإضعافه، معتبرة أن حالة “الضعف الشديد” التي باتت عليها طهران تعود إلى الضربة الأميركية للبرنامج النووي الإيراني في منتصف 2025، حيث ترى الوثيقة أنها “أعادته خطوات إلى الوراء”. الرسالة بين السطور أن تكلفة الاحتكاك المباشر مع إيران يمكن تخفيضها عبر تفعيل الأذرع “الإسرائيلية” والإقليمية، وأن واشنطن ليست مضطرة إلى خوض حرب شاملة ما دام بالإمكان إدارة التهديد بضربات موضعية وحروب ظل.
في المقابل، تُهمَّش القضية الفلسطينية في الخطاب الإستراتيجي. الصراع العربي-“الإسرائيلي” يُوصف بأنه “معقّد”، ويُكتفى بالتوقف عند وقف إطلاق نار في غزّة، وصفقات تحرير رهائن (أسرى)، وبعض الإشارات إلى دعم حركات مناهضي المقاومة. تقتصر الوثيقة عند ذكر عدم إيجاد حل جذري أو تسوية تاريخية، وتلوّح إلى استمرار “إدارة الصراع” بمستوى أقل صخبًا وأكثر هدوءًا، من دون تعديل بنيوي في موازين القوى أو في الإطار السياسي للقضية. هذا التغييب يعكس قناعة راسخة في دوائر القرار الأميركي بأن النزاع، ما دام محصورًا تحت سقف تفوق “إسرائيلي” عسكري، لم يعد تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأميركي، حتّى لو بقي عامل توتر دائم في الإقليم.
على مستوى فلسفة التعامل مع الأنظمة في الشرق الأوسط، تبتعد الوثيقة عن خطاب “تغيير الأنظمة” أو الضغط من أجل ديمقراطية مفروضة من الخارج. تُقِرّ بأن دول المنطقة تُظهر، في تقدير واضعي الإستراتيجية، “التزامًا أكبر بمكافحة التطرّف”، وتدعو إلى تشجيع الإصلاح حين ينشأ من الداخل، لا فرضه بآليات ضغط وعقاب. جوهر العلاقة الناجحة، كما تصفه الوثيقة، يكمن في التعامل مع الدول وقادتها “كما هم”، والعمل معهم على أساس المصالح المشتركة في الاستثمار، والنمو، والذكاء الاصطناعي، والتعاون الدفاعي. هذه الصيغة تُحوِّل ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى متغير تابع، يُستدعى عندما يخدم حسابات أخرى، ويُهمَّش حين يتعارض معها.
تتضح عند هذه النقطة ملامح التحوّل الأوسع في الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأميركي، فما يبدو في الظاهر تراجعًا أو انسحابًا أميركيًا من بعض الساحات ليس انكفاءً بقدر ما هو إعادة توزيع مدروسة للأدوار والأعباء. واشنطن تريد أن تظل مركز ثقل النظام الدولي، لكنّها تريد أن يدفع الحلفاء، في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، الكلفة الأكبر في الدم والمال. تريد أن تبقي يدها العليا في التكنولوجيا، والمال، والمعايير، في ما تتحول القوات والقواعد والانتشار البشري إلى أدوات احتياطية تُستدعى عند الحاجة، لا بنية دائمة ومكلفة كما في حقبة “الحروب التقليدية”.
بهذا المعنى، يمكن القول إن وثيقة الأمن القومي لعام 2025 تؤسس لمرحلة “القيادة من وراء الستار”، حيث تنتقل الولايات المتحدة من دور الممثل الرئيسي الذي يحتكر كلّ الحوارات ويتحمل كلّ الأدوار، إلى دور المخرج الذي يوجّه حركة الممثلين الآخرين، ويضبط الإيقاع من خلف الكواليس.
هذه هي الرسالة الضمنية والعميقة للوثيقة، كما قرأتها بحسب تحليلي الأولي، حيث أرى أن العالم يدخل مرحلة ما بعد الإمبراطورية الأميركية التقليدية، لكنّه لم يدخل بعد مرحلة ما بعد الهيمنة الأميركية. الفارق بين المرحتلين جوهري، فالأولى تتعلق بتقليص الحضور العسكري المباشر والاحتلالات الطويلة، والثانية تتعلق بالتنازل عن موقع الصدارة في تحديد شكل النظام الدولي. الوثيقة تقول بوضوح إن واشنطن مستعدة للأولى، لكنّها لا تزال تقاوم الثانية بكلّ ما تملك من أدوات. من يدرك من الدول هذا الفارق، ويقرأ النصوص بما فيها وما تغاضت عنه، يستطيع أن يعيد رسم موقعه في الخريطة الجديدة قبل أن تفرض عليه من خارج حدوده.



